|
الرواية : مَهوى 9
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2989 - 2010 / 4 / 28 - 21:43
المحور:
الادب والفن
سرّ ياسمينة ، أضحى إذاً على درجة معقولة من الوضوح ـ كما هوَ حالُ بدنها ، سواءً بسواء . كانت ما تفتأ مُنتصبة أمامي بعريها العارم ، المُستهتر ـ كأنها تمثالُ الحُسْن ؛ وكانت أناملها الرقيقة ، الناصعة ، ما تزال تقبض على غرَضها ذاك . هنا ، في غرفة الغرام ، حلّ صمتٌ مُتطاول ، مُريبٌ ، يتواطأ عليه روحان حائران ، لا يدري أيّ منهما كيفية التحرر من ربقته . ابتسامة الظفر ، على فم الفتاة المُنمنم ، الزهريّ الشفتيْن ، راحت تتلاشى رويداً مع حركة يدي . انتزعتُ الذكر المُصنع من قبضتها ، بحسم وغلظة ، ثمّ أوقعته أرضاً بضربة غضوب . هكذا شئتُ الخلاصَ من أسْر المأزق . فلم ألق حتى نظرة على وَثن المُتعة ، الروميّ ، المُلقى أشلاءً على السجادة الثمينة ، الفارسية المَصدر . إلى ناحية باب الحجرة ، المُوارب صَفقه ، أشحْتُ وجهي هذه المرّة بالتفاتة قلق . إذ خيّل إليّ أنّ طرقاً خفيفاً ، قد أوقعَ هناك . وكنتُ أهمّ بمغادرة المَوقف المُحرج ، المُخزي ، وإذا بي أترنحُ بقدَميْن رَخوتيْن : لقد أسْكرَني ولا غرو خمْرُ الفتنة ، الدانيَة ، التي تراءت لعينيّ تواً. " سيّدنا في طريقه للحَرَمْلك " ، هَمَسَتْ الوصيفة الصغيرة بخوف . عندئذ ، كنتُ أغلقُ بهدوء باب الحجرة خلفي ، لأشرع بالخطو فوقَ أرضيّة الفناء ، المُحَجّرَة . ثمة ، عندَ القوس الحجرية لمدخل السلم ، التقيتُ مُضيفي . وكانَ هذا ، على الأرجح ، يهمّ بالتوجّه إلى حجرة أبنته المَريضة ، فبادرته بنبرَة مُطمئنة : " إنها بخير ، يا سيّدي . إنّ غاسول المَعدة ، المُزيل لأدران التسمّم ، له مفعولٌ مُخدرٌ أيضاً " . ملامحُ الزعيم ، المُتواشجُ حُسْنها بالتوَجّس ، ما أسرَعَ أن تفرّدَتْ بمَظهر الراحة . قال لي وهوَ يلتفتُ ليؤوب بأدراجه : " عُدْ إلى غرفتكَ ، لكي ترتاح بدوركَ . حاولْ النومَ لحين موعد الفطور ، على الأقل " . نعم . هذه هيَ طريقة كبير الأعيان ، في مُخاطبَة الآخرين ؛ فهوَ يستعملُ فعلَ الأمر على الدوام ، تقريباً . على ذلك ، أجبته بلهجة خضوع ، مَرحَة : " النومُ عزيزٌ أحياناً ، أيها الزعيم " ، ثمّ أضفتُ بسرعة " ولكنني أودّ التحدّث معكَ ، إذا كانَ الوقتُ مناسباً ؟ " " كما تشاء . سنتناولُ قهوتنا إذاً هناك ، في حجرة أعمالي " .
إنّ تشديدَ الزعيم ، أكثرَ من مرّة ، على النوم والراحة ، حرّكَ تفكيري . إذ يبدو أنّ هاجساً ، مُشتركاً ، كانَ يَمنعَ كليْنا من الإغفاء براحَة وطمأنينة ؛ أقله ، في صباح هذا اليوم من أيام الربيع ، الصادح . سأحاولُ أن أستدرجَ الرجل هَوناً ، لسبْر غور داخله ، الخبيء . ولكن لأعترفَ قبل كل شيء ، أنّ أمر القاتل أو الكتاب ، ما كانَ يشغلني في هذه الهنيهة . فرأسي محمومٌ بعدُ بمَشهَدَ بدن ياسمينة ، البهيّ ، المُتجرّد من عبء الملبس والجوهر وأي شيء يمتّ للموجودات الفانية . إنه بدنٌ قدسيّ ، خالدٌ . ولكن ما يُنكي ، من ناحية أخرى ، أنّ حركة فتاتي ، المَعبودة ، أثارتْ حيرتي ، وبالتالي ، عطلتْ بهجتي : فماذا كانَ وراء رغبة ياسمينة ، في عرض عري جسمها على ناظري ، علاوة على آلة متعتها تلك ، الوثنية ؟ هنا ، قدّام هذا المُضيف ، المُعتبَر ، كانَ حَريّ فيّ أن أشعرَ بالخجل ، والعار أيضاً ، لأنني استحْضرُ حُرْماته في سرّي بكلمات مُستهترَة ، مُجَدّفة . بيْدَ أنّ داعي خلوتي مع الرجل ، كانَ عليه الآنَ أن يُبرّرَ موقفي ؛ أن يكشفَ شرَفَ مَقصدي ، في نهاية المطاف . إذاك ، كانت المنضدة الصغيرة ، القشيبة النقش ، تحتفي بعدّة القهوة المرة ، النحاسية والخزفية على السواء . وكانَ على كلّ من الديوانيْن ، الخشبييْن ، المفروشيْن بالطنافس الاستعداد لحظوة شهود تفرّدنا . على أنّ الكبيرَ كانَ السبّاق لبدء الحديث . فحينما أخذتْ نحنحته ، المألوفة ، منحىً آخر ، أمضى شأنا ؛ فإنّ حَدَسي هَجَسَ إليّ بأنّ صخرة همّ الوزير ، الثقيلة ، كانت ما تفتأ جاثمة على صدره ؛ الصخرة نفسها ، التي شنتُ التحرر من عبئها مؤخراً . " أمورنا ، أيها الآغا ، لا تجري كما يجب " ، تطامنَ الكبيرُ نحوي بالقول وكانَ يتنفسُ بعسر " أجل . لقد خسرَ المَجلسُ دعمَ وجاق القابيقول ، وبالمقابل ، فلم يكسَبَ الأورطات " . الكلمة الأخيرة ، نطقها الرجلُ فيما كانَ يرمقني بنظرة ما ، مُلغزة . والظاهر أنّ خوضي المثابر ، المُبالغ فيه ، بموضوعَيْ الكتاب والقتل ، قد جعلني أنسى الكثير من تفاصيل الصراع الصعب ، الخطر ، الذي نخوضه بضراوة مع جماعة القلعة . وعادَ الزعيمُ لبث شجون الموقف ، فقالَ لي مُتسائلاً : " أتذكر ما أخبرتكَ عنه ، عند صلاة الفجر ، عن إرسالي مبعوثاً لآغا يقيني لكي يَحضرَ نوبة المجلس ، المُقررة في مساء هذا اليوم ؟ " أجل طبعاً . فماذا كانَ جوابه ؟ " " إنه بأشدّ الحنق ، على ما يبدو ، بسبب حيلة القبجي ، " . آه ، هذا هوَ إذاً مَبْعَثُ النظرة تلك ، المُلغزة . لم أكن مَوْضعَ امتعاض الزعيم ، بطبيعة الحال . ولكنني ، على الرغم من ذلك ، قلتُ له : " أعتقدُ أنكَ أنتَ ، أيها الزعيم ، من أعلم الدالي باش بالحقيقة . وهذا أفضل برأيي ؛ لأنّ سماعه ذلكَ من مصدر آخر ، كانَ سَيُعقدُ الأمرَ أكثر " . تجلى الارتياحُ في وجه الرجل ، فقالَ فوراً : " إنّ رأيكَ ، أيها الآغا ، حصيفٌ دوماً " . ثمّ استطرَدَ قائلاً : " إنّ آمرَ الدالاتية لن يأتي إلينا ، على أيّ حال . بَيْدَ أنني أشتبهُ أنّ سبباً ضافياً ، أشدّ أثراً ، كانَ وراءَ إحجام الرجل عن المجيء " . قالها ، ثمّ أخلدَ فجأة للصمت . مُتململاً بعدما طالَ سكوت مُحدّثي ، توجّهتُ نحوه لأحثه على مواصلة كلامه : " نعم ، أيها الكبير . إنني مُصْغ إليكَ " . عندئذ قالَ بلهجة جديدة ، جَهْمَة : " أعتقدُ أنّ ذلكَ المصريّ الداهية ، القاروط ، هوَ من يَكمنُ وراءَ متاعبنا " .
متاهة ُ مآزق ، ذات دهاليز أربعة ؛ الوزير ، الكتاب ، القاتل وياسمينة . كلّ من تلك الدهاليز ، المَتاهيّة ، كانَ يُفضي فيّ إلى الآخر . وها هوَ كبيرُ الأعيان يفاجئني ، حقاً ، بتأكيده أنّ البك المصريّ يديرُ الأمورَ ، خفية ً ، بهدف توريطنا أكثر في متاهة المأزق . كانَ الزعيمُ يجهَلُ ، على أغلب تقدير ، تقصيّ أثر الكتاب ؛ أو بالقليل ، كان يشكّ بأنّ ثمة غموضاً ما في طبيعة حركاتي ، خلل معارج منزله . من ناحيتي ، لم أكن على ريبة ، أبداً ، بأنّ هذا الرجلُ الوجيه ، الجالس بمقابلي على الديوان ، يَعرفُ الشيء الوافر عن خفايا هذه المتاهة . إلا أنه كانَ من المُحال عليّ ، ولأكثر من سبب ، أن أراجعه فيما يَعرفه ؛ ناهيكَ عن محاولة تضليله أو خداعه ـ كما كان أمري مع المملوكيْن التعسيْن . إنما حُسن الفأل ، إذا جازَ لي القول ، كانَ من نصيبي في هذا الصباح ، على الأقل : فالزعيم ، المَكروب والمَهموم ، وَجَدَ بغتة ضيفاً في داره ، موثوقَ الجانب ، وعلى استعداد للإنصات إليه . إنها صدفة سعيدة ، ولا ريب . " وما هيَ مصلحة القاروط في ذلك ؟ " ، سألتُ الكبير لكي أحثه على الكلام . فهزّ رأسه بحركة مُعينة ، مفهومة لأبن البلد . ولكنني كنتُ أدركُ ، قبلاً ، أنّ الزعيمَ يكنّ الكراهية للبك المصريّ . وعلى ذلك ، مَضيتُ في خطتي وخاطبته مباشرة ً : " أعذرني ، يا سيّدي . يُخيّل إليّ أنكَ كنتَ تعني القاروط ، تحديداً ، لما وصفتَ بالداهيَة الدّساس ؛ ذلك الشخص الذي حرّضَ الوزيرَ أن يُرسل الأورطات لأبادتنا " . لم يَبْدُُ على هيئة المُضيف أنه تكدّرَ من قولي ، فما كانَ مني إلا أن كررتُ عليه المساءلة : " إنه هوَ ، أليسَ كذلك ؟ " . بَسَط الرجلُ يديه باتجاهي ، وكأنما يدّعي الاستسلام ، ثمّ قالَ بتسامح : " ربما ، فمن الصعب الجزم بذلك . ولكنّ الوزيرَ ، حَسَبَ علمي ، لم يكن يبغي إبادة المجلس في تلك الليلة " . هنا ، ارتكبتُ هفوة ، فادحة . إذ تصنعتُ الذهولَ برفع حاجب عيني ، الأيسر ، كما وبسذاجة سؤالي : " وماذا كانَ يبتغي إذاً ؟ " " أأنتَ من يَسْألَ ، يا سعادة القبجي ؟ " ، ندّتْ عن الزعيم ، المُتضاحك بخبث وعلى حين فجأة . آنذاك أحمرّ وجهي ، ولا ريب ، حتى أنّ مُحَدّثي أشفقَ عليّ . وقالَ لي بنبرَة مُعتذرَة : " لا علينا . إنّ انشغالكَ هنا وهناك ، في هذا المنزل ، قد أنساكَ ولا غرو حقيقة ما جرى في ليلة الأورطات " " آه ، نعم . تذكرتُ أنّ الدالي باش ، في حينه ، حدّثني عن أشياء غريبة ؛ من قبيل أنّ الوزيرَ يَسعى في طلب كتاب ما ، موجود بحوزتكم " " لم يَعُد هذا الكتاب في حوزتي ، على أيّ حال " ، زفرَها الزعيمُ مُتأثراً وهوَ يُرسل بصره نحوَ مدخل الطزر الآخر من القاعة ؛ أينَ يقبَعُ خزينُ كتبه . ثمّ أضافَ بنبرَة قاسيَة ، وكأنما كانَ يُخاطبُ عندئذ طيفَ عدوّ له ، مُبين : " لقد سَرَقه ذلكَ الوصيفُ ، المَنحوس ؛ نعم ، سرقه من كانَ مؤتمناً على منزلي وأهلي ". حينما سادَ الصَمتُ في حجرة أعمال كبير الأعيان ، كانتْ صوَرٌ عديدة ، مُتزاحمَة ، تتواترُ في بَرْزخ مُخيّلتي . الآن ، كنتُ على ريب من أمر جلل ؛ وهوَ أنّ الموقفَ هذا ، الأكثر جدّة ، لم يكن مَحموداً بحال . فأن ينطق المُضيفُ اسمَ حاجبه ذاك ، المرحوم ، بصفته مُتهماً ، كانَ يعني لي الكثير : أهونه ، أنّ سيّدَ الدار لم يكن ، كما تصورتُ بسذاجة ، غافلاً عما يجري في داخل ومحيط المنزل ؛ وأخطره ، أنه كانَ يتقصى ، مثلي سواءً بسواء ، عن أثر ما ، يؤدي إلى كتابه ذاك ، المفقود ، وربما إلى قاتل من سرقه أيضاً . كانَ مفهوماً إذاً ، أن أتروى في أمري وألا أسألَ المُضيفَ عن ماهيّة الكتاب ، أو عن دافع الوزير للإصرار على تملكه وبأيّ ثمن . فبالرغم من شكوكي ، بدا لي أنّ كثيراً من التفاصيل ، المَعقودة المُتشابكة ، في سبيلها للتراصف أمامَ عياني ، بوضوح ونظام وانسجام ، ودونما حاجة لمعونة دهائي . نعم . ها هوَ الزعيمُ يُتابع سَرْدَه : " إنّ الله تعالى بشرَ القاتلَ بالقتل ولو بعد حين . ". ولكن ، عندما نطقَ كلمة " القتل " ، رأيتني أهبّ بسؤالي على الفور : " أكانَ ذلك حقاً مَصير حاجبكم ، يا سيّدي ؟ " " أجل . إنه لم يكتف بالسرقة ، بل عَمَدَ من بعد إلى دَسّ السمّ لآغا أميني " " إذا كانَ ما تذكره مَسنوداً بأدلة ، فإنّ صداقة وجاق القابيقول قابلة للاستعادة " " وأنا مُتوكل عليكَ في التدبير ، بعدَ الله . سيكون الأمرُ سراً بيننا ، فلا يجوز لأحد الاطلاع عليه " ، نطقها الزعيمُ بلهجة صداقة ورجاء . أما عني ، فإنني لم أكن أرجو ، في واقع الحال ، أكثرَ مما سَمعته اللحظة على لسان هذا الصديق . على ذلك ، عَبّرتُ بحركة يدي ورأسي عن الامتنان ، فيما كانت عيناي تظهرُ مَبلغ دهشتي . ولكنني شئتُ ، هذه المرّة ، مخاطبته بلا مواربة : " إنني بإمرتكم ، أيها الكبير . وسأصارحكَ أيضاً ، بأني وبدوري تحرّيتُ خلال اليومَيْن ، الماضيَيْن ، عن بعض مغامض الأمر " " تابع إذاً جهدكَ ، يا آغا ، واعتمد عليّ فيما تحتاجه " " أيحقّ للمرء التساؤلَ ، عن كيفية معرفتك بسرّ الوصيف ؟ " " أجل ، ولا غرو . إنّ لي عيوناً في منزلي ، وقد سبقَ أن أبلغني أحدهم بأنّ الوصيفَ على صلة ما ، خفية ، مع القاروط . وتأكدَ ذلكَ لي ، بعيد مَصْرَعه . إذ اكتشفتُ كيساً من الغروش الذهبية ، وكان مًخبأ بعناية في حجرته . تلك النقود ، كانت بطبعة مصرية " " والقاروط إذاً ، كيفَ نما لعلمه أنّ الكتابَ موجودٌ في منزلكم ؟ " " إنّ من أعلمه ، هوَ الشخص ذاته الذي سبقَ أن أهداني الكتاب ؛ إنه آغا أميني " .
آه ، يا ربّ العالمين . إنّ قدرتكَ الجبارة شاءتْ أن يُبَدّدَ نورُ اليقين ظلمات الظنّ . وإذاً ، فإنّ حَدَسي كانَ في محله ، حينما أصررتُ منذ البدء على ربط لغز القتل بلغز الكتاب . ولكنني لم أعلق على ما فاهَ به المُضيف ، من عجيب الكلام . فما كانَ منه ، إثرَ لحظة سكوت ، إلا أن واصل القولَ : " قبلَ نحو العامَيْن ، كانَ آمرُ القابيقول قد غنمَ كناشاً منسوباً للشيخ البرزنجي ، وكانَ هذا يحملُ عنواناً ، غريباً " النفحُ الليْلكي والفتحُ الجَرْمُكي " . حصلَ ذلك ، خلال غارة للوجاق على أحدى قبائل البادية الشامية ، المشهورة بالسلب والنهب " " حسنٌ . إننا نستطيعُ الآنَ ، أو فيما بعد ، ربط الوقائع مع بعضها البعض . إلا أنكَ ، يا سيّدي ، لم توضحَ لي مَبعث ظنكم ، بكون الوصيف قد ماتَ قتلاً ؟ " . هنا ، صمتَ الزعيمُ برهة ، فيما أرتفعَ بصره نحو الجدار المُقابل ، المُزخرف خشبه بخيوط هندسية مُذهّبة . كانَ يُحدّقُ عفواً بخنجر دمشقيّ ، مُفضض النصل ومُصَدّف القبضة بنقوش رائعة . ثمّ ما عتمَ أن استعاد نفسه وقالَ : " أجل ، لقد قتلَ حاجبي جزاءً وفاقاً لما اقترفه في حياته من آثام . عرفتُ بالأمر مباشرة من الدالي باش . إذ أكدَ لي ، بُعَيْدَ انجلاء الواقعة ، أنّ رجاله لم يقتلوا الوصيف ؛ بدليل أنّ قتلى الجانبَيْن ، الآخرين ، تساقطوا كلهم بنار الغدارات . من جهتي ، تقصّيتُ خبرَ المَقبور بنفسي . إنه وقعَ صريعاً بخنجر غريم ما ، مجهول ، في جهة القبو . قتلَ إذاً في اللحظة التي كان هوَ يهمّ فيها بالنجاة بروحه عَبْرَ نفق سريّ ، كائن مدخله ثمة " " أعذرني ، أيها الكبير . إنني أتساءلُ ، دَهشاً حقاً ؛ عن سبب إحجامكم عن استعمال مخرج النجاة هذا ، حينما كنا بأمسّ الحاجة إليه ؟ " . وجهتُ سؤالي للمُضيف ، فلم يُجب فوراً . عندئذ كانَ قد شَرَعَ في التطلع في عينيّ بنظرة تفرّس ، ملية ، لما حضرَ فجأة أحد خدم الدار . " سيّدي ، إنّ جنابَ آمر اليرلية بانتظاركم ، هناك في السلاملك " ، توجّه الخادمُ لسيّده بالقول . هذا الأخير ، أومأ برأسه ثمّ أشارَ للآخر بالانصراف . تطلعَ إليّ مُجدداً ، فأخذ يُحرك جذعه ، كأنما يَحثني على النهوض بدوري . عند مدخل القاعة ، قال لي المُضيف بلهجة تتبطنُ القلق : " سنواصلُ حديثنا فيما بعد ؛ وربما بعيدَ القيلولة . أما الآن ، فسرْ إلى قاعة الطعام لتتناولَ فطورك . أو بإمكانكَ ، لو شئتَ ، حضور خلوتي بقوّاص آغا ، ثمة في السلاملك " . وقد يكونُ مرأى عارض ما ، في ملامح وجهي ، دافعاً للزعيم لكي يُردف قائلاً : " إنّ كلامي عن الخلوة مع الآغا ، أدهشك ولا غرو . لم يَعُدْ من مكان للسرّ ، بطبيعة الحال ، فيما بيني وبينك . فاعلم إذاً أنّ آغا اليرلية هوَ ، بمعنىً ما ، خطيبُ ابنتي " . صَمَتَ الرجلُ ، دونما أن يَدري بأنّ طعنة خنجر كلمته ، المُسدّدَة رأساً لقلبي ، قد جعلتْ كياني كله ، المُروّع والضائع ، يرجفُ جَزعاً. نعم . إنه اتفاقٌ غريبٌ ولا ريب ، أن يكونَ سببُ هاتيْن الخلوتيْن ، واحداً : لأنني كنتُ هنا ، في حجرة الأعمال هذه ، أتحيّنُ الفرصة المُناسبة ، حتى أفاتح المُضيفَ برغبتي التشرّف بطلب يد ياسمينة . ولم يُعزني بحال ، تأكيد والدها الآن ، بشكه في مسألة إتمام موضوع الزواج ، حينما استطرد يقول : " لقد وضعتْ ابنتي خاطبَها أمامَ ثلاثة شروط ، لكي يتمّ عقدُ النكاح : أولاً ، أن لا يَمنحها صداقاً قط ، وألا يَجلبَ لها هدايا . ثانياً ، أن يَدخلَ فيها بعدَ فترة زمنية حدّدتها هيَ بنفسها ؛ تمام العامَيْن وتسعة شهور وأحد عشر يوماً . ثالثاً ، أن تقيمَ طوال هذه المدة الزمنية ، المَعلومة ، في بيت أبيها ، فيأتيها هوَ إلى هنا مرة واحدة في الأسبوع ؛ في يوم الجمعة " . كانَ المُضيف إذاك ، ما يفتأ مُستنداً إلى باب القاعة . فما لبثَ أن أطلقَ ضحكة صغيرة ، مُتهكمَة ، قبل أن يتابعَ بثّ شجنه : " إنّ الأمرَ ، والحالة هذه ، لا يُبشر بخير . أعتقدُ جازماً أنّ الخطيبَ سيرفضُ هذه الشروط بأنفة . إنه متزوج قبلاً ، بل ولديه العديدُ من الجواري والسرائر . إلا أنّ الأمرَ يتعلقُ بالكرامة " . من جهتي ، خشيتُ أن يُرتاب الزعيمُ بصمتي ، المُتطاول ، وعدَم تعليقي على موضوع زواج ابنته . فما كانَ مني إلا أن تمالكتُ نفسي ، وسألته بنبْرَة عدم اكتراث : " ولمَ تبدُ مهموماً ، إلى هذه الدرجة ، يا سيّدي ؟ " " دَعَني أقولُ في البدء ، أنني التزمتُ بقسَم ثمة ، فوق رأس أهلي ، المُحتضرة . أجل ، إنها القادينُ الكبيرة ، المرحومة ، من جعلتني آنذاك أقسمُ بتربة آبائي وأجدادي ألا أزوّج البنت إلا برغبتها ، حتى لو ماتت عانساً في بيتي . إنّ عمرَ البنت الآن ستة عشر عاماً ؛ أي أنها تأخرتْ في الزواج بما فيه الكفاية . فلا غرو أنها ردّتْ الكثيرَ من طالبي يدها ، خلال السنوات الفائتة مُعتمدة ً على قسم إيماني . بَيْدَ أنّ ابنتي أذعَنتْ نوعاً ، قبل حوالي شهرين ، حينما خطبها قوّاص آغا . إذ عرضتُ وضعي أمامها ، وبصراحة تامة : إنني أعتمدُ كلياً على دعم وجاق اليرلية ، فلا ينبغي ردّ طلب آمره بدون حجة بيّنة ، معقولة . وأصارحكَ ، أيها الصديق ، بأنّ الرجلَ لم يكن على درجة من سموّ الخلق ، حينما استغلّ تخلي وجاق القابيقول عن المجلس ، فما كانَ منه إلا أن ألحّ ثانية ً على سماع ردّ البنت بخصوص الزواج منه " . حينما أتمّ المُضيف كلامه ، كنتُ وبدوري قد أنهيتُ حسابَ أرقام المدّة تلك ، المَطلوبة ، في شرط الفتاة للزواج بصاحبنا القوّاص ؛ وكانَ الحاصلُ ألف يوم زائد يوم واحد : تفكرتُ عندئذ ، مبهوراً ، بكتاب الحكايات الماجنة ذاك ؛ الذي كانَ أثيراً عند ياسمينة وأثرَ عليها كثيراً ؛ بكتاب ألف ليلة وليلة .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرواية : مَهوى 8
-
الرواية : مَهوى 7
-
الرواية : مَهوى 6
-
الرواية : مَهوى 5
-
الرواية : مَهوى 4
-
الرواية : مَهوى 3
-
الرواية 2
-
الرواية : مَهوى
-
الأولى والآخرة : مَرقى 13
-
الأولى والآخرة : مَرقى 12
-
الأولى والآخرة : مَرقى 11
-
الأولى والآخرة : مَرقى 10
-
الأولى والآخرة : مَرقى 9
-
الأولى والآخرة : مَرقى 8
-
الأولى والآخرة : مَرقى 7
-
الأولى والآخرة : مَرقى 6
-
الأولى والآخرة : مَرقى 5
-
الأولى والآخرة : مَرقى 4
-
الأولى والآخرة : مَرقى 3
-
الأولى والآخرة : مَرقى 2
المزيد.....
-
تحية لروح الكاتب فؤاد حميرة.. إضاءات عبثية على مفردات الحياة
...
-
الكاتب المسرحي الإسرائيلي يهوشع سوبول: التعصب ورم خبيث يهدد
...
-
من قال إن الفكر لا يقتل؟ قصة عبد الرحمن الكواكبي صاحب -طبائع
...
-
أروى صالح.. صوت انتحر حين صمت الجميع
-
السعودية تخطط لشراء 48 فدانا في مصر لإقامة مدينة ترفيهية
-
هل يشهد العالم -انحسار القوة الأميركية-؟ تحليل فالرشتاين يكش
...
-
التمثيل النقابي والبحث عن دور مفقود
-
الفنان التونسي محمد علي بالحارث.. صوت درامي امتد نصف قرن
-
تسمية مصارعة جديدة باسم نجمة أفلام إباحية عن طريق الخطأ يثير
...
-
سفارة روسيا في باكو تؤكد إجلاء المخرج بوندارتشوك وطاقمه السي
...
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|