أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : مَرقى 13















المزيد.....

الأولى والآخرة : مَرقى 13


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2974 - 2010 / 4 / 13 - 00:32
المحور: الادب والفن
    


ربّ خدعة ، هيّنة ، تهبُ لنا نعمى الحياة ، الثمينة . لا فائدة ، إذا ، من أتلاف حياتنا ، بلا طائل ، في مُناوشة مَريرة ، مُمضّة ، باطلة المآل . كذلك كنتُ أتفكرُ ، خللَ فسْحَة الهدوء ، المُبتسَرَة ، التي وَهَبَها لنا نشيدُ المؤذن ذاك ، الأليف ، الداعي لصلاة الفجر . جذّ الأمرُ إذاً ، في غمرَة جمعتنا حول طاولة قاعة السلاملك ، الكبرى ، والتي كان كبيرُ المجلس قد دعانا إليها ، طالباً إهمالَ السلاح جانباً لكي ننصت لكلمته . لقد بدا الرجلُ حينئذ ، على الأقل بنظري ، وكأنما دهمَه أحساسٌ بأنّ هذه هيَ كلمته ، الأخيرة ، في الحياة الأولى . كان إذاً يبغي كشفَ معميّات الأحداث الداهمَة ، التي تواترَت على تأليب خاطرنا مذ مبتدأ ليلة أمس . من جهتي ، كنتُ أقلّ استعداداً من الكبير ، لتقبّل فكرة التخلي عن الروح بهذه السرعة ، وبالتالي ، كنتُ مُنشغلاً بتدبير ما ، عاقل أو أخرق ، يُبعدُ قدح الفناء عن الفم . على ذلك ، فحينما طرَحَ الرجلُ مظنته ، على مسمع من أركان المجلس ، متسائلاً عمن يمكن أن يكونه ذلك الشخص ، المتورط ، الذي له المصلحة في الدسّ لدى الوزير ، فإنني كنتُ ولا غرو السبّاق لأجابته : " سعادة القبجي " . كنتُ أعرفُ ، ولا ريب ، أنه ضربٌ من الجنون مجرّد ذكر اسم القبجي ، بصيغة المتهم . ولكنني حينما أعطيتُ ذلك الجواب ، فإنني كنتُ بصدد الاستطراد مباشرة ؛ بأنني مجبَرٌ على انتحالَ صفته ، الساميَة ، أمام
أولئك الدالاتية ، المهاجمين .

" أمان " ، هكذا صرخَ آمر القابيقول ، وهوَ يلوّحُ بيده رايَة استسلامنا ، البيضاء " أمان ، باسم سعادة القبجي . إنّ رسولَ مولانا السلطان ، حفظه الله ، موجودٌ معَ الأعيان هنا ، داخل السلاملك " . لم يكن ، عبثاً ، اختياري هذا الرجلُ ، العسكريّ ، لكي يستهلّ تمثيلية " القبجي " ، المفترض أن أكونَ بطلها : لأنه الوحيدُ بين الحاضرين ، من كانَ لديه جرأة الاستهتار بمقام يمتّ للذات السلطانية ؛ لأنه انكشاريّ . دون أن أنسى ذكر اعتبار آخر ؛ وهوَ أنّ جماعة الوزير أولئك ، لن يكونوا من التهوّر حدّ أن يطلقوا النارَ على آمر يرلية الولاية وهوَ أعزلَ وبيده راية بيضاء . على أنّ ما كنتُ أجهله عندئذ ، أنّ قوّاص آغا ، كان لديه سببٌ آخر للمخاطرَة بتعريض نفسه للهلاك ؛ سببٌ ، لا يمتّ لذاك الاعتبار ، الذي تعهّدتُ عَرْضَهُ تواً . إذاك ، كان منبلجُ الفجر جلياً ، يُبددُ آخرَ آثار الليل ، وكنتُ واقفاً خلفَ الانكشاريّ ، أتطلعُ إلى تلك الناحيَة من الدار ؛ أين كانت ابنة الشاملي واقفة بدورها ، ملولة مروّعة ، تحاولُ مدافعة ذاك الوحش ، الدالاتيّ .

حينما أكتبُ هذه الكلمات ، المُستعيدة تذكرة حياتي ، أتنبّه إلى استعمالي لمفردات ، مُستمدّة ، ولا ريب ، من وَحْي وجودي في جزيرة الأروام هذه ؛ مثل مفردة " تمثيلية " ، التي تعني شيئاً يُشبه ما يرويه الحكواتي في مقهي النوافر ، الدمشقي ، الذي كنت أسكنُ قريباُ منه : ولكن العجَبَ في أمر هذه التمثيلية ، أنّ أبطال الحكاية يُشخصونَ برجال ونساء ، حقيقيين ، يُبادرون بالمحاورة مع بعضهم البعض وعلى خشبة مكان عام ، يسمّى لديهم بـ " المَرْسَح " ، وعلى مرأى من الناس طبعاً . من ناحية أخرى ، تنبّهتُ أيضاً إلى ذكري أسم قوّاص آغا خطأ بصفة " آمر القابيقول " ؛ وربما بسبب أنّ ندّه ، آغا أميني ، ما يفتأ يلعب دوراً رئيساُ هنا ، في هذا الكناش ـ وكدتُ أن أكتبَ " في هذه الرواية " أو " في هذه التمثيلية " ، سَهواً كذلك . لن أصححَ شيئاً ، في تذكرتي : فمن سيَعثر على كلماتي ، في آخر المطاف ؛ من يَهتمّ ؟

عادة ً ، عندما يتردّد ، ملياً ، اسمٌ ما ، معيّنٌ ، في دخيلتكَ ، فإنك لن تلبث أن تجده عفواً على لسانكَ . كذلك كان أمري مع اسم رسول السلطان ، طالما أنّ سرّي راح يلوكه في صيغة صفته ، الجديدة ؛ صفة التقمّص ؛ وطالما أنّ مرسومَ الفرمان ، الهمايوني ، في قبضتي الآن ، أتحرز عليه ولا غرو ـ كما لو أنه يدٌ صديقة ، منقذة . بيْدَ أنّ هذا ، بطبيعة الحال ، لم يكن كلّ شي . فإنني رحتُ أتلمّسُ كفي الأيمن ، المُحتفي بنصره بالخاتم المُفضض ، المنقوش عليه أثرٌ ، أو علامة ربما ، من وصيّة الأبّ .
" هذا كائنُ للنجاة . سبق لمولانا ، قدّس سرّه ، أن تحصّل عليه من جملة منح الخلافة الدّهلوية " ، كان والدي ، رحمه الله ، قد ألحفَ عليّ ، في ليلة الطعن ، المشئومة . علاوة على أنه كان في ذهني ، أيضاً ، ذلك الملبَس ، المُتفرنج ، الذي دأبتُ على مواظبة الظهور فيه ؛ وهوَ الملبسُ ، الشائعُ بين موظفي تخت السلطنة ، منذ أن شرَعَ الباب العالي بخطط الإصلاح الأخيرة . وفي آخر المطاف ، فإنّ هذه الجرأة على نحل صفة شخصيّة رسميّة ، على درجة بيّنة من السموّ ، ما كانت لتتهيأ لي ، لولا أنني كنتُ عندئذ على مرمى من شخصيّة أخرى ، أخطر مقاماً وأجلّ : ملاك الآخرة ؛ الذي كان ثمة ، يتأملني عن كثب بهمّة جديرة بمهمّته .

" أيّ رسول هناك ؟ ما هذا الهراء ؟ "
أرسلَ صوتٌ ما ، من تلك الناحية ، رَعْدَ عَجَمته في سحابة وجه قوّاص آغا ، الجهمَة . هذا الأخير ، لم يبال بتصعيد هزل اللحظة ، حينما أجابَ بلهجته الجدّية ، الواثقة : " تفضلوا ، إذاً ، وتحققوا من الأمر عن قرب "
" ليبقَ الرجلُ ثمة ، في مكانه . ولكن عليكم أن تضعوا أسلحتكم جانباً ، قبل الخروج من القاعة " ، هتفَ ذلك الصوت أثرَ بضعة لحظات من صمت ، متردد . إذ تناهى إلينا ، بغتة ، صدى من بعيد ، لصخب صليات ناريّة كثيفة ، كأنما متأت من جهات عدّة من المدينة . بيْدَ أنّ الهدوءَ ، المتململ ، كان ما يفتأ يجوبُ هنا ، في هذه الدار ، الكبيرة ، حينما أبصرتُ شبحاً ينفصلُ عن أنداده ، عند مدخل قاعة السلاملك ، فيتجه نحوي بخطوه الثقيل ، العسكريّ . ضابط شاب ، إذاً ، هوً من تراءى لعينيّ ، هذه المرة ، بإطلالته من الوسَط المشرَع بالغدارات والحراب . قامته ، الضئيلة نوعاً ، كانت تنتصبُ الآن قدّامي ، فيما نظرته الحادّة ، الخضراء ، راحت تحومُ فوق المشهَد الجزع ، المشوّش ، قبل أن تحُط على هيئتي . علاوة على السَرْبوش ، كانتْ بَذتي ، المتبخترَة بقماش إنجليزيّ الهَوَى ، المُفصل في قطعتيْن حسب ، مَحَط تأمّل هذا الدالي باش . كان معلوماً منذ زمن ، أنّ نسخاً محظوظة ، مُطابقة لهندامي ، كانت تتشرّف بكساء أجساد الحاشيَة السلطانية ، المُتنعّمَة .
" أأنتَ ، حقاً ، رسولُ مولانا السلطان ، أعزه الله ؟ " ، سألني الضابط باللغة العثمانية ؛ بنبرَة تتبطن معاً الحذر والحيرة والاحترام . ابتسامة مُبتسَرة ، مُتسامحَة ، أينعت عندئذ على شفتيّ ؛ ابتسامة ، تجودُ فيها ، عادة ً، شجرَة ُ صرامة رجل الدولة في مواسم ، نادرة . الدالي باش ، شاءَ ربما أن يُماهي نبرته بالخبث ، حينما عاد ليقول : " بحسب علمي ، من المُفترض أنّ حضرتكم في ضيافة سعادتلو الوزير ، والي الشام "
" ذاكَ الرجل ، لم يَعُد له أيّ صلة بالولاية الشامية " ، أجبته باللغة ذاتها ، التي أجَدتها منذ صغري . ما أن سمعَ الدالي باش كلمتي ، حتى تغيّر لونه الرائق ، الحنطيّ ، إلى لون آخر ، ممتقع وشاحب . لقد تعمّدتُ أن أستخدمَ تعبير " ذاكَ الرجل " ، للحط من شأن الوزير والإيهام بأنه مغضوبٌ عليه من الدولة ؛ من لدن الباب العالي ، الذي كنتُ ـ كذا ، رسولَ جلالته . كان مستمعي ما يفتأ يحدّق فيّ بنظرة دهشة ، حينما تحركتُ بتثاقل ، لأتناولَ الرق الجلديّ ، القابع على الطاولة أمامي .
" ها هوَ فرمانُ السلطان ، المُعَظم "، قلتُ له وأنا أخرج المرسومَ من حافظته . ثمّ أدنيتُ يمنَ كفي من عينيّ الرجل ، مستطرداً على الأثر : " تفضل ، أيها الضابط ، وتفحّص خاتمَ السلطنة ، إن كان لديكَ شكٌ ، بعد " . ما أن أبصرَ الدالي باش نقشَ الخاتم ، المُرَقش بجلالة هذه الكلمة : " مولانا " ، حتى خرّ على قدميه بخشوع ـ ليغفر الربُّ لي ـ ليقبّل يَدَنا ، المَيمونة . وفي الهنيهة التالية ، حصلَ شيءٌ غريبٌ ،غير متوقع . إذ دوّى عندئذ وقعٌ ، بالغ القوّة ، لعدد من قنابر المدافع ، فهزّ المكان للحظات . ذلك القصف ، كان إيذاناً لهجوم ما ـ كما خطر لي في الحال ؛ وكما أعلنه تصاعد وتيرة صدى الأعيرة النارية ، البعيد .

كان الدالي باش ما يفتأ في حركته تلك ، المُبجلة ، حينما فجأته تلك الأصوات . وما عتمَ أن أندفعَ ضابط آخر إلى داخل القاعة ، فقطع علينا الخلوَة . تناهضَ الدالي باش بقامته الرشيقة ، ليقابل هذا الشخص ، الذي كان يبدو أقلّ مقاماً منه : " ماذا يجري ، هناك ؟ " ، سأله باهتمام واضح . الضابط الآخر ، أجاز لنفسه إجابة آمره باللغة الكردية ، ما دام الأمر على جانب من السرّية ؛ وما دام على جهل بأنني أفهم هذه اللغة جيداً : " قوّة اليرلية ، التي تحمي هذا الحيّ ، كانت مشتبكة مع رجالنا ، حينما تدخل وجاقُ القابيقول وشنّ هجوماً كبيراً من جهة الأسواق "
" لقد خدعنا ، يا رجل " ، أجابه الدالي باش باللغة نفسها وبنبرة مفاجئة ، شديدة الوقع . ثمّ عقب على ذلك وهوَ يعرضُ عليه مرسوم الأمان ، قائلاً : " أنظر هنا ، إنه فرمان مولانا الباديشاه . لقد عزلَ الوزيرَ ، وبالمقابل ، شمَلَ الشامَ بعفوه " . حينما كان الضابط الآخرُ ، مبهوراً ، يقرأ الأسطرَ الأخيرة من الورقة ، لاحظتُ أنّ يده كانت ترجف قليلاً .
" عليكَ الآن ، وبدون إبطاء ، إبلاغ رفاقكَ بالأمر . وبادر ، قبل كل شيء ، لإطلاقَ آمر اليرلية وتوجيهه إلينا " ، أمرَه ، مُستخدماً هذه المرّة اللغة العثمانية . فعل ذلك ، ولا ريب ، مراعاة لمقامي . فما كان من الآخر ، المأمور ، إلا أن رمقني بنظرة مواربَة ، خاطفة ، ثمّ هزّ رأسه بحركة خضوع قبل مغادرته المكان . إذاك ، كانَ الوقتُ المناسبُ لطرح عبء الهواجس ، قد أضحى من الضيق أن رأيتني ألتفتُ إلى الدالي باش ، لأقول له بلهجة غير مكترثة : " أعجُبُ من أمره ، ذاك الرجل . إنه على علم ، بكل تأكيد بوجودي هنا ، في هذا المنزل ، وبالرغم من ذلك كان يتوهّم أنّ الأمرَ يتعلق باجتماع ما ، خطير " . رفعَ الدالي باش حاجبه الأيسرَ ، السميك ، بحركة تدلّ على جهله مقصد كلمتي ، ثمّ ما لبثَ أن تساءلَ : " المعذرة ، يا سعادة المبعوث . ولكن أيّ اجتماع ، هذا ؟ "
" اجتماع مجلس الأعيان "
" سعادتكم تعنون ربما ، مجلس العمومية ؟ "
" آه ، نعم . إنهم باتوا ، في هذه الأيام ، يطلقون أسماء غريبة ، هنا في الشام الشريف "
" رأيُ سعادتكم ، في محله . إنّ في نفسي ريَبٌ من هكذا أسماء ونعوت : عمومية ؛ مجلس ؛ اجتماع .. "
" على أنكَ لم تصارحني بعد ، أيها الدالي باش ، عما دفع الوزير للاستعانة بالأورطات ، للهجوم على بيت كبير الأعيان ؟ "
" إنّ الأمرَ ، يا سيّدي ، يتعلقُ بكتاب "
" كتاب ؟ " ، عبّرتُ عندئذ أمام الضابط ، ولأول مرة ، عن شعور حَقّ ؛ عن شعور عارم بالدهشة .

خطة النجاة ، التي صاغها ذهني على عجالة ، مُسابقة للمجهول ؛ هذه الخطة ، كانت معقولة وطائشة ، في آن : معقولة ، لأنه ما كان ثمة شيء يمكن لي خسارته ، لو أنّ هدَفَ الوزير كان القضاء على المجلس ؛ وطائشة ، لأنّ الدالي باش كان من الممكن أن يكشفَ التمثيلية ، التي كنتُ بطلها . من النافل هنا ، إعادة ذكر هذه الحقيقة ؛ وهيَ أننا نحيا مرة واحدة حسب . مفردة " الحياة " هنا ، كان من الممكن أن يحلّ ضدّها بمحلها ؛ أي مفردة " الموت " ، لو كانَ للأمورَ أن تجري على منقلب آخر . من جهته ، فإنّ كبيرَ الأعيان ، كان يبدو أكثرَ الجميع حيوية ، بعيد يقظته من نوم الساعات القليلة من صباح هذا اليوم . ربما زايله القلقَ إثرَ جلاء المهاجمين عن داره وطمأنته على أهله . ولكن ها هوَ قد أضحى مجدداً نهبَة ً للتوجّس : " إننا في المجلس ، مسئولون كلنا عن استعارَة الآغا العطار لصفة القبجي " . كنا وقتئذ في البيت نفسه ، على مائدة الفطور ، المُقتصَدَة الأطعمَة والأشربَة ، بعدما هربَ أغلب خدمه وحشمه . لقد تفرقَ هؤلاء في مهبّ المَباحَة ، الطارئة ، إثرَ شهودهم مصرَع رئيسهم ؛ ذلك الوصيف ، المَبْخوس الفأل . على ذلك ، فإنني أدركُ ، ولا غرو ، معنى هذا القول : " من الآن فصاعداً يتوجّبُ عليكَ ، يا آغا ، أن تحتفظ بالكابوس لساعات يقظتكَ أيضاً " . إنه صديقي ، العريان ، من أجازَ لنفسه هذه الكلمة بعدما تغيّبَ عُمْراً صوته . كانَ الضيفُ آخر من دخلَ قاعة الطعام ، فسادَ الصّمتُ عندئذ . إنه ذلك الدالي باش ، واسمه آغا يقيني ، من قبلَ دعوة الشاملي لأخذ قسط من الراحَة في الدار ، بعد عناء تلك الليلة ، المهولة . كان المتفقُ بيننا ، نحن أركان المجلس ، أنّ آمرُ الدالاتية هذا ، قد فارقَ ، إلى غير رجعة ، موقفَ الوزير . ثمّ شاءَ الرجلُ تأكيدَ وفائه لنا ، بالذهاب إلى أبعدَ من ذلك ؛ بأن أعلن ، على المائدة ، نيّته في ضمّ الأورطات إلى حَرَس المجلس ، الأهليّ ، للتعويض عن فقداننا دعم وجاق القابيقول ، إثرَ موت آمره ، آغا أميني .

في ألق ساعة الصبح ، كان الهدوءُ يحتلّ المكانَ تماماً ، يتخلله ، أحياناً ، طاريء دخيلٌ من صدى الأعيرة النارية ، القصية . إذاك ، كنت في قاعة السلاملك ، مضطجعاً على الأريكة وقد جعلتُ نمْرَقة تحت رأسي . وحيداً كنتُ ، بعدما غادَرَني كلّ من آمرَيْ اليرلية والدالاتية ، فرُحْتُ إذاً أحاولُ النأيَ عن خلسَة النوم . كنتُ أتفكر بالكلام الغريب ، الذي سبقَ وفاهَ فيه آغا يقيني ، بخصوص المهمّة التي كلفه فيها الوالي ، الغشوم ، والتي كادَتْ أن تكلفنا حياتنا : " إنّ الصدقَ لدى الولاة ، لمعْوَزٌ قليلُ " ، بدأ آغا يقيني كلامه وهوَ ينفخُ نسمة من غيظ داخله " لقد أصابَ ، حقاً ، مَنْ نعَتَ الوزيرَ بالمارق . هذا الرجلُ ، الدّعي ، كان قد استدعاني ظهرَ الأمس إلى مقرّه . أنتَ تعرف ، ربما ، أنّ للقلعة مخارج سرّية ، تستعمل للضرورة . على كلّ حال ، كنتُ لديه حينئذ واستمعتُ إليه . كلمني عن وجود سعادتكم في المدينة ، وزعم أنكم الآن في ضيافته ، ولكنه لم ينبَسَ بتاتاً بأمر البيبلوردي ، المُنزل من السدّة العليّة . قالَ أنّ رسول السلطان ، حفظه الله ، مكلف بالتوسّط بين المتخاصمين في الولايَة ، وأنه سيجتمع معهم كلا على حدة . ثمّ دخلَ بعد ذلك ، فوراً ، في موضوع الكتاب . إنه يدّعي ، كذباً ولا ريب ، أنّ سعادتكم ، مبعوث مولانا السلطانَ ، مهتمٌ بكناش مفقود ، عَرَفَ من ثقاة أنه بحوزة الآغا الشاملي . وقالَ ، أنه سبق وطلب الكتابَ مراراً من الآغا ، ولكنه أجابه في كل مرة بجهله أمره . اسمُ هذا الكناش هوَ " النفحُ الليْلكي والفتحُ الجَرْمُكي " من تأليف رجل يُدعى الشيخ البرزنجي . هذا الشيخ ، كما فهمتُ من الوزير ، كان في البدء عالماً جليلاً ، ثمّ أرتدّ إلى دعوة الزنديق ، ابن عبد الوهّاب ، حينما استقرّ في مكة . وعلى ذلك ، يبدو أنّ البرزنجي ألفَ ذلك الكتابَ ، الموسوم ، بطلب من أولئك الوهابيّة ، المرتدّين ؛ وأنّ متنه ، عبارة عن سَرْد لتواريخ خلفاء آل عثمان ، رضيَ الله عنه وعنهم ، ولكنه بقلم زنيم ، زنديق ـ كأنما حبْرُهُ هوَ سمّ زعّاف ؛ على حدّ تأكيد الوزير " . فما كادَ آغا يقيني ينهي جملته تلك ، الأخيرة ، حتى رأينا آمر اليرليّة يقتحمُ علينا خلوتنا ، في حجرة السلاملك ، هاتفاً بصوت مخنوق بالانفعال : " ماتَ آغا أميني ، مسموماً . إنّ حركة القابيقول ، الأخيرة ـ كما عاينتُ ذلك بنفسي ـ ما كانت موجّهة ضد الدالاتية ، بل ضد وجاقنا . إذ يدّعي أتباعُهُ أنه عادَ إلى مقرّ قشلته ، في مأذنة الشحم ، في وقت متأخر من الليل ، وكان ثائراً مهتاجاً فراحَ يشتمُ المجلس وكبيره . كما ويزعمون ، أيضاً ، أنّ عارضَ التسمّم كان بادياً عندئذ على ملامح الآغا ، فما هيَ إلا برهة أخرى وأسلم الروحَ إلى باريها " .

= انتهى الفصل الأول من الروايَة ، ويليه فصلها الثاني ؛ وهوَ بعنوان " مَهوى "



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأولى والآخرة : مَرقى 12
- الأولى والآخرة : مَرقى 11
- الأولى والآخرة : مَرقى 10
- الأولى والآخرة : مَرقى 9
- الأولى والآخرة : مَرقى 8
- الأولى والآخرة : مَرقى 7
- الأولى والآخرة : مَرقى 6
- الأولى والآخرة : مَرقى 5
- الأولى والآخرة : مَرقى 4
- الأولى والآخرة : مَرقى 3
- الأولى والآخرة : مَرقى 2
- الأولى والآخرة : مَرقى
- الأولى والآخرة : توضيحٌ حولَ خطة التحقيق
- الأولى والآخرة : مقدّمة المُحقق
- لماذ قتلتم مروة ؟
- رؤى
- بحثاً عن طريدةٍ اخرى
- قيثارة الأطياف
- تراتيل
- ترانيم


المزيد.....




- -عصر الضبابية-.. قصة الفيزياء بين السطوع والسقوط
- الشاعر المغربي عبد القادر وساط: -كلمات مسهمة- في الطب والشعر ...
- بن غفير يسمح للمستوطنين بالرقص والغناء أثناء اقتحام المسجد ا ...
- قصص ما وراء الكاميرا.. أفلام صنعتها السينما عن نفسها
- الفنان خالد تكريتي يرسم العالم بعين طفل ساخر
- رابط شغال ومباشر.. الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2025 ...
- خبر صحفي: كريم عبدالله يقدم كتابه النقدي الجديد -أصوات القلب ...
- موسيقى للحيوانات المرهقة.. ملاجئ الولايات المتحدة الأمريكية ...
- -ونفس الشريف لها غايتان-… كيف تناول الشعراء مفهوم التضحية في ...
- 10 أيام فقط لإنجاز فيلم سينمائي كامل.. الإنتاج الافتراضي يكس ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : مَرقى 13