أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : مَرقى 13















المزيد.....

الأولى والآخرة : مَرقى 13


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2974 - 2010 / 4 / 13 - 00:32
المحور: الادب والفن
    


ربّ خدعة ، هيّنة ، تهبُ لنا نعمى الحياة ، الثمينة . لا فائدة ، إذا ، من أتلاف حياتنا ، بلا طائل ، في مُناوشة مَريرة ، مُمضّة ، باطلة المآل . كذلك كنتُ أتفكرُ ، خللَ فسْحَة الهدوء ، المُبتسَرَة ، التي وَهَبَها لنا نشيدُ المؤذن ذاك ، الأليف ، الداعي لصلاة الفجر . جذّ الأمرُ إذاً ، في غمرَة جمعتنا حول طاولة قاعة السلاملك ، الكبرى ، والتي كان كبيرُ المجلس قد دعانا إليها ، طالباً إهمالَ السلاح جانباً لكي ننصت لكلمته . لقد بدا الرجلُ حينئذ ، على الأقل بنظري ، وكأنما دهمَه أحساسٌ بأنّ هذه هيَ كلمته ، الأخيرة ، في الحياة الأولى . كان إذاً يبغي كشفَ معميّات الأحداث الداهمَة ، التي تواترَت على تأليب خاطرنا مذ مبتدأ ليلة أمس . من جهتي ، كنتُ أقلّ استعداداً من الكبير ، لتقبّل فكرة التخلي عن الروح بهذه السرعة ، وبالتالي ، كنتُ مُنشغلاً بتدبير ما ، عاقل أو أخرق ، يُبعدُ قدح الفناء عن الفم . على ذلك ، فحينما طرَحَ الرجلُ مظنته ، على مسمع من أركان المجلس ، متسائلاً عمن يمكن أن يكونه ذلك الشخص ، المتورط ، الذي له المصلحة في الدسّ لدى الوزير ، فإنني كنتُ ولا غرو السبّاق لأجابته : " سعادة القبجي " . كنتُ أعرفُ ، ولا ريب ، أنه ضربٌ من الجنون مجرّد ذكر اسم القبجي ، بصيغة المتهم . ولكنني حينما أعطيتُ ذلك الجواب ، فإنني كنتُ بصدد الاستطراد مباشرة ؛ بأنني مجبَرٌ على انتحالَ صفته ، الساميَة ، أمام
أولئك الدالاتية ، المهاجمين .

" أمان " ، هكذا صرخَ آمر القابيقول ، وهوَ يلوّحُ بيده رايَة استسلامنا ، البيضاء " أمان ، باسم سعادة القبجي . إنّ رسولَ مولانا السلطان ، حفظه الله ، موجودٌ معَ الأعيان هنا ، داخل السلاملك " . لم يكن ، عبثاً ، اختياري هذا الرجلُ ، العسكريّ ، لكي يستهلّ تمثيلية " القبجي " ، المفترض أن أكونَ بطلها : لأنه الوحيدُ بين الحاضرين ، من كانَ لديه جرأة الاستهتار بمقام يمتّ للذات السلطانية ؛ لأنه انكشاريّ . دون أن أنسى ذكر اعتبار آخر ؛ وهوَ أنّ جماعة الوزير أولئك ، لن يكونوا من التهوّر حدّ أن يطلقوا النارَ على آمر يرلية الولاية وهوَ أعزلَ وبيده راية بيضاء . على أنّ ما كنتُ أجهله عندئذ ، أنّ قوّاص آغا ، كان لديه سببٌ آخر للمخاطرَة بتعريض نفسه للهلاك ؛ سببٌ ، لا يمتّ لذاك الاعتبار ، الذي تعهّدتُ عَرْضَهُ تواً . إذاك ، كان منبلجُ الفجر جلياً ، يُبددُ آخرَ آثار الليل ، وكنتُ واقفاً خلفَ الانكشاريّ ، أتطلعُ إلى تلك الناحيَة من الدار ؛ أين كانت ابنة الشاملي واقفة بدورها ، ملولة مروّعة ، تحاولُ مدافعة ذاك الوحش ، الدالاتيّ .

حينما أكتبُ هذه الكلمات ، المُستعيدة تذكرة حياتي ، أتنبّه إلى استعمالي لمفردات ، مُستمدّة ، ولا ريب ، من وَحْي وجودي في جزيرة الأروام هذه ؛ مثل مفردة " تمثيلية " ، التي تعني شيئاً يُشبه ما يرويه الحكواتي في مقهي النوافر ، الدمشقي ، الذي كنت أسكنُ قريباُ منه : ولكن العجَبَ في أمر هذه التمثيلية ، أنّ أبطال الحكاية يُشخصونَ برجال ونساء ، حقيقيين ، يُبادرون بالمحاورة مع بعضهم البعض وعلى خشبة مكان عام ، يسمّى لديهم بـ " المَرْسَح " ، وعلى مرأى من الناس طبعاً . من ناحية أخرى ، تنبّهتُ أيضاً إلى ذكري أسم قوّاص آغا خطأ بصفة " آمر القابيقول " ؛ وربما بسبب أنّ ندّه ، آغا أميني ، ما يفتأ يلعب دوراً رئيساُ هنا ، في هذا الكناش ـ وكدتُ أن أكتبَ " في هذه الرواية " أو " في هذه التمثيلية " ، سَهواً كذلك . لن أصححَ شيئاً ، في تذكرتي : فمن سيَعثر على كلماتي ، في آخر المطاف ؛ من يَهتمّ ؟

عادة ً ، عندما يتردّد ، ملياً ، اسمٌ ما ، معيّنٌ ، في دخيلتكَ ، فإنك لن تلبث أن تجده عفواً على لسانكَ . كذلك كان أمري مع اسم رسول السلطان ، طالما أنّ سرّي راح يلوكه في صيغة صفته ، الجديدة ؛ صفة التقمّص ؛ وطالما أنّ مرسومَ الفرمان ، الهمايوني ، في قبضتي الآن ، أتحرز عليه ولا غرو ـ كما لو أنه يدٌ صديقة ، منقذة . بيْدَ أنّ هذا ، بطبيعة الحال ، لم يكن كلّ شي . فإنني رحتُ أتلمّسُ كفي الأيمن ، المُحتفي بنصره بالخاتم المُفضض ، المنقوش عليه أثرٌ ، أو علامة ربما ، من وصيّة الأبّ .
" هذا كائنُ للنجاة . سبق لمولانا ، قدّس سرّه ، أن تحصّل عليه من جملة منح الخلافة الدّهلوية " ، كان والدي ، رحمه الله ، قد ألحفَ عليّ ، في ليلة الطعن ، المشئومة . علاوة على أنه كان في ذهني ، أيضاً ، ذلك الملبَس ، المُتفرنج ، الذي دأبتُ على مواظبة الظهور فيه ؛ وهوَ الملبسُ ، الشائعُ بين موظفي تخت السلطنة ، منذ أن شرَعَ الباب العالي بخطط الإصلاح الأخيرة . وفي آخر المطاف ، فإنّ هذه الجرأة على نحل صفة شخصيّة رسميّة ، على درجة بيّنة من السموّ ، ما كانت لتتهيأ لي ، لولا أنني كنتُ عندئذ على مرمى من شخصيّة أخرى ، أخطر مقاماً وأجلّ : ملاك الآخرة ؛ الذي كان ثمة ، يتأملني عن كثب بهمّة جديرة بمهمّته .

" أيّ رسول هناك ؟ ما هذا الهراء ؟ "
أرسلَ صوتٌ ما ، من تلك الناحية ، رَعْدَ عَجَمته في سحابة وجه قوّاص آغا ، الجهمَة . هذا الأخير ، لم يبال بتصعيد هزل اللحظة ، حينما أجابَ بلهجته الجدّية ، الواثقة : " تفضلوا ، إذاً ، وتحققوا من الأمر عن قرب "
" ليبقَ الرجلُ ثمة ، في مكانه . ولكن عليكم أن تضعوا أسلحتكم جانباً ، قبل الخروج من القاعة " ، هتفَ ذلك الصوت أثرَ بضعة لحظات من صمت ، متردد . إذ تناهى إلينا ، بغتة ، صدى من بعيد ، لصخب صليات ناريّة كثيفة ، كأنما متأت من جهات عدّة من المدينة . بيْدَ أنّ الهدوءَ ، المتململ ، كان ما يفتأ يجوبُ هنا ، في هذه الدار ، الكبيرة ، حينما أبصرتُ شبحاً ينفصلُ عن أنداده ، عند مدخل قاعة السلاملك ، فيتجه نحوي بخطوه الثقيل ، العسكريّ . ضابط شاب ، إذاً ، هوً من تراءى لعينيّ ، هذه المرة ، بإطلالته من الوسَط المشرَع بالغدارات والحراب . قامته ، الضئيلة نوعاً ، كانت تنتصبُ الآن قدّامي ، فيما نظرته الحادّة ، الخضراء ، راحت تحومُ فوق المشهَد الجزع ، المشوّش ، قبل أن تحُط على هيئتي . علاوة على السَرْبوش ، كانتْ بَذتي ، المتبخترَة بقماش إنجليزيّ الهَوَى ، المُفصل في قطعتيْن حسب ، مَحَط تأمّل هذا الدالي باش . كان معلوماً منذ زمن ، أنّ نسخاً محظوظة ، مُطابقة لهندامي ، كانت تتشرّف بكساء أجساد الحاشيَة السلطانية ، المُتنعّمَة .
" أأنتَ ، حقاً ، رسولُ مولانا السلطان ، أعزه الله ؟ " ، سألني الضابط باللغة العثمانية ؛ بنبرَة تتبطن معاً الحذر والحيرة والاحترام . ابتسامة مُبتسَرة ، مُتسامحَة ، أينعت عندئذ على شفتيّ ؛ ابتسامة ، تجودُ فيها ، عادة ً، شجرَة ُ صرامة رجل الدولة في مواسم ، نادرة . الدالي باش ، شاءَ ربما أن يُماهي نبرته بالخبث ، حينما عاد ليقول : " بحسب علمي ، من المُفترض أنّ حضرتكم في ضيافة سعادتلو الوزير ، والي الشام "
" ذاكَ الرجل ، لم يَعُد له أيّ صلة بالولاية الشامية " ، أجبته باللغة ذاتها ، التي أجَدتها منذ صغري . ما أن سمعَ الدالي باش كلمتي ، حتى تغيّر لونه الرائق ، الحنطيّ ، إلى لون آخر ، ممتقع وشاحب . لقد تعمّدتُ أن أستخدمَ تعبير " ذاكَ الرجل " ، للحط من شأن الوزير والإيهام بأنه مغضوبٌ عليه من الدولة ؛ من لدن الباب العالي ، الذي كنتُ ـ كذا ، رسولَ جلالته . كان مستمعي ما يفتأ يحدّق فيّ بنظرة دهشة ، حينما تحركتُ بتثاقل ، لأتناولَ الرق الجلديّ ، القابع على الطاولة أمامي .
" ها هوَ فرمانُ السلطان ، المُعَظم "، قلتُ له وأنا أخرج المرسومَ من حافظته . ثمّ أدنيتُ يمنَ كفي من عينيّ الرجل ، مستطرداً على الأثر : " تفضل ، أيها الضابط ، وتفحّص خاتمَ السلطنة ، إن كان لديكَ شكٌ ، بعد " . ما أن أبصرَ الدالي باش نقشَ الخاتم ، المُرَقش بجلالة هذه الكلمة : " مولانا " ، حتى خرّ على قدميه بخشوع ـ ليغفر الربُّ لي ـ ليقبّل يَدَنا ، المَيمونة . وفي الهنيهة التالية ، حصلَ شيءٌ غريبٌ ،غير متوقع . إذ دوّى عندئذ وقعٌ ، بالغ القوّة ، لعدد من قنابر المدافع ، فهزّ المكان للحظات . ذلك القصف ، كان إيذاناً لهجوم ما ـ كما خطر لي في الحال ؛ وكما أعلنه تصاعد وتيرة صدى الأعيرة النارية ، البعيد .

كان الدالي باش ما يفتأ في حركته تلك ، المُبجلة ، حينما فجأته تلك الأصوات . وما عتمَ أن أندفعَ ضابط آخر إلى داخل القاعة ، فقطع علينا الخلوَة . تناهضَ الدالي باش بقامته الرشيقة ، ليقابل هذا الشخص ، الذي كان يبدو أقلّ مقاماً منه : " ماذا يجري ، هناك ؟ " ، سأله باهتمام واضح . الضابط الآخر ، أجاز لنفسه إجابة آمره باللغة الكردية ، ما دام الأمر على جانب من السرّية ؛ وما دام على جهل بأنني أفهم هذه اللغة جيداً : " قوّة اليرلية ، التي تحمي هذا الحيّ ، كانت مشتبكة مع رجالنا ، حينما تدخل وجاقُ القابيقول وشنّ هجوماً كبيراً من جهة الأسواق "
" لقد خدعنا ، يا رجل " ، أجابه الدالي باش باللغة نفسها وبنبرة مفاجئة ، شديدة الوقع . ثمّ عقب على ذلك وهوَ يعرضُ عليه مرسوم الأمان ، قائلاً : " أنظر هنا ، إنه فرمان مولانا الباديشاه . لقد عزلَ الوزيرَ ، وبالمقابل ، شمَلَ الشامَ بعفوه " . حينما كان الضابط الآخرُ ، مبهوراً ، يقرأ الأسطرَ الأخيرة من الورقة ، لاحظتُ أنّ يده كانت ترجف قليلاً .
" عليكَ الآن ، وبدون إبطاء ، إبلاغ رفاقكَ بالأمر . وبادر ، قبل كل شيء ، لإطلاقَ آمر اليرلية وتوجيهه إلينا " ، أمرَه ، مُستخدماً هذه المرّة اللغة العثمانية . فعل ذلك ، ولا ريب ، مراعاة لمقامي . فما كان من الآخر ، المأمور ، إلا أن رمقني بنظرة مواربَة ، خاطفة ، ثمّ هزّ رأسه بحركة خضوع قبل مغادرته المكان . إذاك ، كانَ الوقتُ المناسبُ لطرح عبء الهواجس ، قد أضحى من الضيق أن رأيتني ألتفتُ إلى الدالي باش ، لأقول له بلهجة غير مكترثة : " أعجُبُ من أمره ، ذاك الرجل . إنه على علم ، بكل تأكيد بوجودي هنا ، في هذا المنزل ، وبالرغم من ذلك كان يتوهّم أنّ الأمرَ يتعلق باجتماع ما ، خطير " . رفعَ الدالي باش حاجبه الأيسرَ ، السميك ، بحركة تدلّ على جهله مقصد كلمتي ، ثمّ ما لبثَ أن تساءلَ : " المعذرة ، يا سعادة المبعوث . ولكن أيّ اجتماع ، هذا ؟ "
" اجتماع مجلس الأعيان "
" سعادتكم تعنون ربما ، مجلس العمومية ؟ "
" آه ، نعم . إنهم باتوا ، في هذه الأيام ، يطلقون أسماء غريبة ، هنا في الشام الشريف "
" رأيُ سعادتكم ، في محله . إنّ في نفسي ريَبٌ من هكذا أسماء ونعوت : عمومية ؛ مجلس ؛ اجتماع .. "
" على أنكَ لم تصارحني بعد ، أيها الدالي باش ، عما دفع الوزير للاستعانة بالأورطات ، للهجوم على بيت كبير الأعيان ؟ "
" إنّ الأمرَ ، يا سيّدي ، يتعلقُ بكتاب "
" كتاب ؟ " ، عبّرتُ عندئذ أمام الضابط ، ولأول مرة ، عن شعور حَقّ ؛ عن شعور عارم بالدهشة .

خطة النجاة ، التي صاغها ذهني على عجالة ، مُسابقة للمجهول ؛ هذه الخطة ، كانت معقولة وطائشة ، في آن : معقولة ، لأنه ما كان ثمة شيء يمكن لي خسارته ، لو أنّ هدَفَ الوزير كان القضاء على المجلس ؛ وطائشة ، لأنّ الدالي باش كان من الممكن أن يكشفَ التمثيلية ، التي كنتُ بطلها . من النافل هنا ، إعادة ذكر هذه الحقيقة ؛ وهيَ أننا نحيا مرة واحدة حسب . مفردة " الحياة " هنا ، كان من الممكن أن يحلّ ضدّها بمحلها ؛ أي مفردة " الموت " ، لو كانَ للأمورَ أن تجري على منقلب آخر . من جهته ، فإنّ كبيرَ الأعيان ، كان يبدو أكثرَ الجميع حيوية ، بعيد يقظته من نوم الساعات القليلة من صباح هذا اليوم . ربما زايله القلقَ إثرَ جلاء المهاجمين عن داره وطمأنته على أهله . ولكن ها هوَ قد أضحى مجدداً نهبَة ً للتوجّس : " إننا في المجلس ، مسئولون كلنا عن استعارَة الآغا العطار لصفة القبجي " . كنا وقتئذ في البيت نفسه ، على مائدة الفطور ، المُقتصَدَة الأطعمَة والأشربَة ، بعدما هربَ أغلب خدمه وحشمه . لقد تفرقَ هؤلاء في مهبّ المَباحَة ، الطارئة ، إثرَ شهودهم مصرَع رئيسهم ؛ ذلك الوصيف ، المَبْخوس الفأل . على ذلك ، فإنني أدركُ ، ولا غرو ، معنى هذا القول : " من الآن فصاعداً يتوجّبُ عليكَ ، يا آغا ، أن تحتفظ بالكابوس لساعات يقظتكَ أيضاً " . إنه صديقي ، العريان ، من أجازَ لنفسه هذه الكلمة بعدما تغيّبَ عُمْراً صوته . كانَ الضيفُ آخر من دخلَ قاعة الطعام ، فسادَ الصّمتُ عندئذ . إنه ذلك الدالي باش ، واسمه آغا يقيني ، من قبلَ دعوة الشاملي لأخذ قسط من الراحَة في الدار ، بعد عناء تلك الليلة ، المهولة . كان المتفقُ بيننا ، نحن أركان المجلس ، أنّ آمرُ الدالاتية هذا ، قد فارقَ ، إلى غير رجعة ، موقفَ الوزير . ثمّ شاءَ الرجلُ تأكيدَ وفائه لنا ، بالذهاب إلى أبعدَ من ذلك ؛ بأن أعلن ، على المائدة ، نيّته في ضمّ الأورطات إلى حَرَس المجلس ، الأهليّ ، للتعويض عن فقداننا دعم وجاق القابيقول ، إثرَ موت آمره ، آغا أميني .

في ألق ساعة الصبح ، كان الهدوءُ يحتلّ المكانَ تماماً ، يتخلله ، أحياناً ، طاريء دخيلٌ من صدى الأعيرة النارية ، القصية . إذاك ، كنت في قاعة السلاملك ، مضطجعاً على الأريكة وقد جعلتُ نمْرَقة تحت رأسي . وحيداً كنتُ ، بعدما غادَرَني كلّ من آمرَيْ اليرلية والدالاتية ، فرُحْتُ إذاً أحاولُ النأيَ عن خلسَة النوم . كنتُ أتفكر بالكلام الغريب ، الذي سبقَ وفاهَ فيه آغا يقيني ، بخصوص المهمّة التي كلفه فيها الوالي ، الغشوم ، والتي كادَتْ أن تكلفنا حياتنا : " إنّ الصدقَ لدى الولاة ، لمعْوَزٌ قليلُ " ، بدأ آغا يقيني كلامه وهوَ ينفخُ نسمة من غيظ داخله " لقد أصابَ ، حقاً ، مَنْ نعَتَ الوزيرَ بالمارق . هذا الرجلُ ، الدّعي ، كان قد استدعاني ظهرَ الأمس إلى مقرّه . أنتَ تعرف ، ربما ، أنّ للقلعة مخارج سرّية ، تستعمل للضرورة . على كلّ حال ، كنتُ لديه حينئذ واستمعتُ إليه . كلمني عن وجود سعادتكم في المدينة ، وزعم أنكم الآن في ضيافته ، ولكنه لم ينبَسَ بتاتاً بأمر البيبلوردي ، المُنزل من السدّة العليّة . قالَ أنّ رسول السلطان ، حفظه الله ، مكلف بالتوسّط بين المتخاصمين في الولايَة ، وأنه سيجتمع معهم كلا على حدة . ثمّ دخلَ بعد ذلك ، فوراً ، في موضوع الكتاب . إنه يدّعي ، كذباً ولا ريب ، أنّ سعادتكم ، مبعوث مولانا السلطانَ ، مهتمٌ بكناش مفقود ، عَرَفَ من ثقاة أنه بحوزة الآغا الشاملي . وقالَ ، أنه سبق وطلب الكتابَ مراراً من الآغا ، ولكنه أجابه في كل مرة بجهله أمره . اسمُ هذا الكناش هوَ " النفحُ الليْلكي والفتحُ الجَرْمُكي " من تأليف رجل يُدعى الشيخ البرزنجي . هذا الشيخ ، كما فهمتُ من الوزير ، كان في البدء عالماً جليلاً ، ثمّ أرتدّ إلى دعوة الزنديق ، ابن عبد الوهّاب ، حينما استقرّ في مكة . وعلى ذلك ، يبدو أنّ البرزنجي ألفَ ذلك الكتابَ ، الموسوم ، بطلب من أولئك الوهابيّة ، المرتدّين ؛ وأنّ متنه ، عبارة عن سَرْد لتواريخ خلفاء آل عثمان ، رضيَ الله عنه وعنهم ، ولكنه بقلم زنيم ، زنديق ـ كأنما حبْرُهُ هوَ سمّ زعّاف ؛ على حدّ تأكيد الوزير " . فما كادَ آغا يقيني ينهي جملته تلك ، الأخيرة ، حتى رأينا آمر اليرليّة يقتحمُ علينا خلوتنا ، في حجرة السلاملك ، هاتفاً بصوت مخنوق بالانفعال : " ماتَ آغا أميني ، مسموماً . إنّ حركة القابيقول ، الأخيرة ـ كما عاينتُ ذلك بنفسي ـ ما كانت موجّهة ضد الدالاتية ، بل ضد وجاقنا . إذ يدّعي أتباعُهُ أنه عادَ إلى مقرّ قشلته ، في مأذنة الشحم ، في وقت متأخر من الليل ، وكان ثائراً مهتاجاً فراحَ يشتمُ المجلس وكبيره . كما ويزعمون ، أيضاً ، أنّ عارضَ التسمّم كان بادياً عندئذ على ملامح الآغا ، فما هيَ إلا برهة أخرى وأسلم الروحَ إلى باريها " .

= انتهى الفصل الأول من الروايَة ، ويليه فصلها الثاني ؛ وهوَ بعنوان " مَهوى "



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأولى والآخرة : مَرقى 12
- الأولى والآخرة : مَرقى 11
- الأولى والآخرة : مَرقى 10
- الأولى والآخرة : مَرقى 9
- الأولى والآخرة : مَرقى 8
- الأولى والآخرة : مَرقى 7
- الأولى والآخرة : مَرقى 6
- الأولى والآخرة : مَرقى 5
- الأولى والآخرة : مَرقى 4
- الأولى والآخرة : مَرقى 3
- الأولى والآخرة : مَرقى 2
- الأولى والآخرة : مَرقى
- الأولى والآخرة : توضيحٌ حولَ خطة التحقيق
- الأولى والآخرة : مقدّمة المُحقق
- لماذ قتلتم مروة ؟
- رؤى
- بحثاً عن طريدةٍ اخرى
- قيثارة الأطياف
- تراتيل
- ترانيم


المزيد.....




- روسيا.. جمهورية القرم تخطط لتدشين أكبر استوديو سينمائي في جن ...
- من معالم القدس.. تعرّف على مقام رابعة العدوية
- القضاء العراقي يوقف عرض مسلسل -عالم الست وهيبة- المثير للجدل ...
- “اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش ...
- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : مَرقى 13