|
الرواية : مَهوى
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2975 - 2010 / 4 / 14 - 22:39
المحور:
الادب والفن
هيَ ذي بارقة اتفاق آخر ، كأنما مًستلة من ظلماء ليلة الأمس ؛ ليلة الهَول ، المُنفطرَة بالمقابل عن كثبان عنبَر و أهاضيب مسك . كنتُ عندئذ ما أفتأ في قاعة السلاملك ، الكبرى ، مضطجعاً على الأريكة . وكان ٍرأسي ، بدوره ، يتوسّد النمْرَقة المُظهّرة بالبروكار . مسحوقاً بنوائب الإرهاق والقلق ، كنتُ أحاولُ ، دونما أمل ، جذبَ طرَف النعاس إلى أجفان أجفاها النوم بما جدّ من مشاغل الساعة ، الغشيمَة . حتى رأيتني بمنأىً عن كلّ ذلك ، أغوصُ شيئاً فشيئاً في مَسْغبَة الحضور ، الحبيب . راحتْ كفي تداعبُ بدنَ الخليلة ، الداني ؛ الكفّ نفسه ، المُحتفي بنصره بخاتم النجاة ، القدسيّ . إذاك ، كانَ جَسَدُها يتكوّن ، من جديد ، على شكل جرّة المُدام ؛ بخصر مُضمَر ، مُسْكر ، مقرون بإعجاز العجيزة ، الفارهَة ؛ كان مُنصهراً في أوار لظى الرغبة والمتعة والشهوة ـ كما خبرَته أناملي ، دوماً . ولكن ما أسرَعَ أن تلاشى هذا الحضور من المَشهد ، ونظري ما عادَ يُبصر سوى سراب طيف . " لستُ طيفاً ، أيها الخليلُ ، الملولُ ، بل روحُ ابنة الجبل ؛ روح القتيل ، المُدوّم فوق رأسكَ ، أبداً ، حتى يحظى بدَم المُجرم " ، خاطبتني زمرّد وهيَ ثمة ، تهمي رويداً في لجّة النهر .
تعباً ، أفيقُ من عرامة المنام ، على هَدأ المكان . فقدّرتُ أنّ قيلولة ما ، مُبكرَة ، قد داعبَت ولا غرو أهدابَ أهل المجلس ؛ أنهم الآن في كلّ مهبّ ، مُحتمل ، من مضاجع الدار . صرتُ أتسلى ، ضجراً ، بتأمل مناظر الحجرَة ، المتنوّعة ، والتي تراءتْ لعينيّ في نقوش أفاريز وأعمدة السقف والجدران ؛ من حلان ومقرنصات وتوريقات وآيات ، وغير ذلك من أفانين . إلى أن جُذبَ بصري ، أخيراً ، إلى سموّ آية ، كريمة ، منقوشة ثمة في كرْمَة الجصّ ، الوارفة ، المُعَشقة مدخل القاعة : { قل لن يَصيبكم إلا ما كتبَ لكم } . وبدافع التسلية ، أيضاً ، تساءلتُ عن معنى مفردة " يَصيبكم " ، في تلك الآية : أهوَ معناها الظاهر ، (الأذى المادي ) ، أم معناها الباطن ( الأذى المعنوي ) ؛ أيْ أذى العين الحاسدة. ما أن نطق سرّي مفردة " العين " ، حتى أجابه فؤادي بخفق من لوعة الحنين . غمامة من غمّ ، عَبَرَتْ عندئذ خلل فضاءات نفسي ، حينما حضرَ مُجدداً وجه الخليلة ، الغائبة ؛ وجه زمرّد ، المُرَقش بوشم الطفولة ، الأزرق ، درءاً للعين الشريرة . ثمّ راحَ ، على الأثر ، يتشكل أمامي مشهَدُ الحلم . زفرتُ مهموماً آخر تفصيل من المنام ، لأقع من ثمّ فريسة ، سائغة ، لأنياب ومخالب ذئب تأنيب الضمير : كنتُ من الأثرَة ، أنني أعتدتُ ليلاً المخطرَة بالجبّة ، تموّهاً ، بما أنّ منزل الخليلة كائنٌ في أشدّ أحياء المدينة تلوثاً بالبدعَة تلك ؛ المَوْسومة بالوهّابية . ولكنني لم أشأ حينئذ الإصغاءَ لمخاوف زمرّد ، وحثها إيايَ على بيع المنزل وشراء آخر ، يكونُ أكثر نأياً عن هذا الحيّ ، الموبوء بالتزمّت والتطرّف ، وأدنى قرباً من حيّ المغاربة ، المنفوح ببهار أطعمة موطنها ، الشهية . من ناحيتهم ، كان أهلُ البدعة تلك ، مُمَوَّهين بدورهم ببرقع الإمام ، ابن تيمية ، وكانوا هم ، في واقع الحال ، من مَهّدَ الدربَ لعصيان الوجاقات حينما أشاعوا الاضطرابَ في الولاية ، في مبتدأ عهد الوزير فيها . على ذلك ، كان على شوكة شرورهم أن تشتدّ ، إثرَ الثورة العامّية ، الأخيرة ، حدّ أن تبلغَ بهم الجرأة مهاجمَة تكايا وزوايا الطرق الصوفيّة ؛ بزعم أنها أمكنة الفسوق والفحشاء ، يُقترف فيها معاصي شرب الخمر والحشيش ومعاشرة الغلمان . بله أن يتصوّر المرءُ ما كان من تنكيلهم ، أولئك الغوغاء ، بأمكنة الشبْهَة : فكانوا يرفعون عقيرتهم بالتهليل والتكبير أثناء تحطيم الدنان وأهراق نبيذها أرضاً ، وكذلك لما عمدوا إلى سَوْق الغواني إلى مَهْلكة مصيرهنّ ، المعروف ـ كأضاحي العيد الكبير .
شهَدتُ بنفسي ، عياناً ، إحدى موبقات أهل البدعة ، في مُستهلّ سفر الفوضى هذا ، الربيعيّ . إذ اتفقَ أن كنتُ في صبيحة أحد أيام الجمعة ، المُباركة ، في عطالتي الرَخيّة ثمة ؛ في منظرة قهوة " بين النهرين " ، المُسترخيَة بدورها في جنة جزيرة المَرْجَة ، المُشكلة من فرعَيْ نهر بردى . على أنه يتوجّب القولَ منذ البدء ، بأنّ ما طرأ على المدينة من تغيير ، مُصاقب للحركة العمومية ، أثرَ بطبيعة الحال على أحوال ساكنيها وتصاريف عيشهم . ولكن في مفاضلة أمكنة اللهو ، بقيت المقاهي هيَ الأكثر ارتياداً من لدن العامّة والخاصّة ، على حدّ سواء . بيْدَ أنّ فتاوى شيخ الشام ، المتواترَة ، المُحرّمَة النرجيلة والقهوة والراوي ( الحكواتي ) ، كادت أن تجعلَ من مقاهي البلد أشبَهَ بالبيداء الموحشة ، المُقفرَة . على ذلك ، كنتُ في مقهى " بين النهرين " ، على مزاج سيء ، بعدما أجابَ النادلُ طلبي فنجانَ قهوة ، قائلاً بجفاء : " نحن لا نقدّم المعاصي ، هنا " . عليكَ اللعنة إذاً ، يا شيخَ الشام ؛ يا مُريدَ أبن عبد الوهّاب ، الزنديق . على أنني تجاهلتُ ذلك المُنغص ، وأقبلتُ على إجتلاء المناظر الخلابَة ، المتراميَة حولي ، والمونقة بفضل أشعة شمس ، المُشرقة بدفء غامر . بعد مضي قليل من الوقت ، إذا بعينيّ تغادران مألوف مباهجَ مكانها هذا ، الأثير ، إلى مَشهَد مَخطر من الخلق ، راحَ يتعاظم عَدَدُهُ هناك ، على الضفة المُقابلة لموقفي : كانَ وَجهُ الغرابَة في تحشد أولئك الناس ، هوَ حركات أيديهم ، المُرتفعة جَمْعاً نحوَ السماء العلى ، وكأنما مُسّت عقولهم ثمة برؤيا ما . لأنهضنّ ، قلتُ في نفسي ، لكي أفهمَ ما يجري هناك ، بحقّ ربّ السماء العلى . " و ليتَ أني لم أفعل ذلك " ، ها أنا ذا ، هنا في منزل الشاملي ، أرددُ بسرّي ـ كما في كلّ مرة أستعيدُ ذكرى تلك الواقعة . إنّ " ليت " هذه ، في جملتي التامة تلك ، هيَ بحسب حديث نبويّ شريف ، من وَحي الشيطان . فلا محلّ لـ " ليت " ، ولا داعي للندامة . لقد رأيتُ وسمعتُ وشهدتُ . وكفى .
" تعالوا ، يا أهل الإسلام ، وانظروا إلى تطبيق حكم الشريعة بالغواني " كان يتعالى عندئذ الصوتُ الجهير للمُنادي ، القويّ البنية ، وهوَ في مكانه قربَ القاضي ، الذي كان بالمقابل قميءَ المنظر . لم أكن طبعاً أولَ الواصلين ، ولكنني تمكنتُ بطريقة ما ، من الاهتداء لموطىء قدم ، مناسب . ثلاث فتيات ، شبه عاريات ، كنّ ثمة قد جمّعنَ على مرأى من الحشد . لحظتُ أنّ أوسط تلك النسوة ، كانت على جانب مؤثر من الحسن ، وبالرغم من أنها بدَتْ آنئذ مروّعة بشدّة ، تحاولُ لملمة جسد ، مباح ، لا يكاد يسترُ بهاءَهُ سوى خرَق مُمَزقة ، خلقة . فجأة ، تلاقت عيناي بعينيّ الفتاة تلك ، اللتيْن كانتا من الحَوَر ، أنهما سَحَرتاني لدرجة أنني دأبت على تأملهما ، طويلاً ، حتى كدتُ أسلو مأساة صاحبتهما ؛ مأساة لحظة على أبواب الآخرة . لم أحد نظري عن الفتاة ، إلا حينما أنهضَ الإنكشاريّ ، المرافقُ ، رفيقتها التي كانت الأقرب إلى موقف الجلاد . هذا الأخير ، كان في تلك الهنيهة يشمخ بهامته ، الهائلة الجَسامة والعلوّ ، والمكتسيَة ملبساً غريباً ؛ بقبعة لباديّة ، حمراء اللون ، وقميص قطنيّ فوق سروال منفوش الجانبيْن . هذا الجلادُ القرمزيّ ، العملاقُ ، كان إذاً يهمّ بتسلمّ ضحيته من مرافقها ، العسكريّ . فما أن وقعَ بصرُ البنت على هيئة الرجل ، المُرْعبة ، حتى تراخت بغتة ، ثمّ انهارت إلى الأرض بلا حراك . كان من الممكن لهذا العملاق ، كما تمنيتُ حقاً ، أن يدَع تلك التعسَة في غيبوبتها ، أبداً . ولكنه ، على ما يبدو ، كان غيرَ ذي عجلة : أنحنى على البنت فشالها من الأرض بيد واحدة ، واستقام من ثمّ بكامل قامته ، الهائلة . بقي الوحشُ لحظات يعرض الضحيّة ، الفاقدة الوعي ، على أنظار الناس ، ثمّ ما عتمَ أن أنحنى بها ثانية ، ولكن ليمسّ هذه المرّة جسَدَها العلويّ بسطح الماء . حينما انتفضتْ البائسة متيقظة معولة ، قبض الجلادُ عندئذ على جسدها بقبضتيه ، المريعتيْن ، وأخذ يغمر رأسها كله في غمرة التيار ، القويّ . لأكثر من عشر مرات ، بطيئة ممضة معذبة ، كان الرأسُ يُدْفع في الماء ، مُختنقاً رويداً ، ليرفع من جديد إلى رحمة الهواء . ولكن في اللحظة تلك ، التي هَمَدَ فيها كيانُ الضحيّة ، كله ، بلا أي نفس ، حصل شيءٌ في غايَة الفظاعة .
" أرجموا الزانيَة " صاحَ رجلٌ كهلٌ ، وقورُ الهيئة بعَمامة من خزّ ، ناصع البَياض ، وجبّة من كتان رماديّ . كان يقفُ هناك ، خلف القاضي مباشرة ، حينما رأى أحدى البنتيْن ، اللتيْن تنتظران يد الجلاد ، وهيَ تنهض فجأة على قدَميْها فتندفعُ ، كعاصفة ، نحوَ ضفة النهر فتقفز إلى أسفل . يا الله ، كانت الفتاة نفسها ، الحسناء ، التي سَحَرني حَوَرُ عينيها . أبصرتها ، مبهوراً متلاحق الأنفاس ، وهيَ ثمة في اللجة الغامرَة ، تحاول بلا طائل مقاومة التيار الجامح ، حينما هطلَ فوقها وابلٌ من حجارة ذلك الجمع ، المُتحمّس ، المُهتاج بفعل نداء شيخ الشام . نعم ، وما فتأتْ تينكَ العينيْن ، الساحرتيْن ، يفعلان فيّ التأثير ذاته ، حتى بعدما ذوَتا رميماً ربما ، أو صارتا ، على الأرجح ، في باطن الأسماك . نعم . كنتُ أستعيدُ ذكرى ذاك اليوم ، البغيض ، من أيام ربيع العامّية ، الدامي ، فيما أنا مستلق هنا فوق أريكة مدبّجة ، في قاعة السلاملك بمنزل كبير الأعيان . ولكي أطرُد تلك الذكرى ، آنياً على الأقل ، عدتُ أرسلُ طرفي نحو ما يُحيطني من بذخ المكان . وهيَ ذي آية أخرى ، كريمة ، تتراءى لعينيّ بحسن نقشها ، الذهبيّ ، المحفور فوق افريز الجدار ، الملبّس بالجصّ :{ كتابٌ فصّلتْ آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون } . هذه الآية ، الإلهية ، المُفصّلة بلغة عربية ، بليغة ، شاءتْ أن تعيدني ، بغتة ، إلى ذكر ذلك الكتاب ، المعلوم ؛ إلى الكناش ، المفقود ، الذي ألّفَ نكايَة ً بخلفاء آل عثمان . بلبلني التفكيرُ ، بعد فترة من التأمل ، فتناهضتُ من رقادي واتجهتُ ناحيَة مدخل القاعة الخلفيّ ، المؤدي لجهة الحديقة . ما أن خطوتُ بحذائي المقيطن عدّة خطوات ، هيّنة الوقع ، على أرض الممشى ، الحجريّ ، حتى تناهي لسَمعي ما يُشبه المناجاة ، متأت من جهة المنظرَة ، فجمدتُ بمكاني بلا أي حركة : كانت هذه ، هيَ نفسُ الأصوات النجيّة ، الغامضة ، التي سبقَ وأنصتُ إليها ثمة ، في سلم الحرملك ، قبيل فجأة لقائي بابنة صاحب الدار .
< مستهلّ الفصل الثاني ، من رواية " الأولى والآخرة "
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأولى والآخرة : مَرقى 13
-
الأولى والآخرة : مَرقى 12
-
الأولى والآخرة : مَرقى 11
-
الأولى والآخرة : مَرقى 10
-
الأولى والآخرة : مَرقى 9
-
الأولى والآخرة : مَرقى 8
-
الأولى والآخرة : مَرقى 7
-
الأولى والآخرة : مَرقى 6
-
الأولى والآخرة : مَرقى 5
-
الأولى والآخرة : مَرقى 4
-
الأولى والآخرة : مَرقى 3
-
الأولى والآخرة : مَرقى 2
-
الأولى والآخرة : مَرقى
-
الأولى والآخرة : توضيحٌ حولَ خطة التحقيق
-
الأولى والآخرة : مقدّمة المُحقق
-
لماذ قتلتم مروة ؟
-
رؤى
-
بحثاً عن طريدةٍ اخرى
-
قيثارة الأطياف
-
تراتيل
المزيد.....
-
-باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
-
فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
-
مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
-
إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر
...
-
مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز
...
-
الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
-
اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
-
نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم
...
-
هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية
...
-
بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|