أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الرواية : مَهوى 11















المزيد.....

الرواية : مَهوى 11


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2997 - 2010 / 5 / 6 - 10:56
المحور: الادب والفن
    



أكنتُ مَخدوعاً من لدن الزعيم ، عندما فاجأني بالقول أنه كانَ في ريبة من أنّ وصيفه دسَ سماً لياسمينة ؟ أكانَ الرجلُ على جهل ، حقا ، بأنّ أبنته حبلى ؟ كلّ من الاحتماليْن ، في الواقع ، يجعلني أعيدُ حساباتي ثانية ً. بطبيعة الحال فإنني لا أشكّ بحَمل ياسمينة ، وهيَ بنفسها لمّحَتْ إلى ذلك بكلّ بساطة ؛ ولو أنها شاءتْ أخذه على مَحمَل آخر ، جديّ أو هزليّ ، بتأكيدها أنها ستلدُ روحَ الله . " آه ، أيمكن أن تتكررَ معجزة العذراء ؟ " ، فكرتُ على نحو مباغت وليسَ بدون سعادة . إنّ الغيبَ يُبيح هذه الفرضية ـ بما أننا مؤمنون ، والحمد لله ـ وقصص القرآن تخبرنا عن حالات مُشابهًة ؛ من قبيل حبل الفتاة العذراء ، مريم ، أو حبل العجوز ، زوجة زكريا . أما العلم فيُبدد تلك الفرضية، المَوسومة، ببراهين ثلاثة : أولهما ، شغف ياسمينة بالذكر المُصَنع ؛ ثانيهما ، علاقتها الغامضة بالرجل الغريب ، المجهول ، الذي سبقَ لي أن سمعتُ صوته في مناسبتيْن ؛ وثالثهما ، الشرط ذاك ، المُمدّد أجلَ ليلة الدخلة لأكثر من ألف يوم .
" بإذن الله إنها بخير ، يا سيّدي . لننحي إذاً تلك الريبة "
قلتُ للمُضيف ، أخيراً ، مُطمئناً إياه على أبنته . ثمّ أردفتُ القولَ مع هزة من رأسي ، مُتسائلة : " إنكَ على ثقة ، بالمقابل ، بأنّ الوصيفَ سمّمَ آغا أميني ؟ "
" أجل . إنّ حاجبي سرَقَ كناشاً ، مفقوداً ، كانَ البابُ العالي بنفسه قد بثّ العيون في أنحاء الولاية بحثاً عن خبَره . لقد سَرقَ الكتابَ لكي يظهَرَ منسوخاً من بعد على الملأ ، فيقع اللومُ عليّ ويُقطع رأسي ، فيستولي هوَ على تركتي . وبتحريض أيضاً من القاروط سمّمَ الحاجبُ آمرَ القابيقول ، لأنه قرأ هذا الكتاب ؛ أو ربما بهدف تأليب وجاقه علينا بزعم أنني من اقترفتُ الجرمَ . والله أعلم " . حينما نطق الزعيمُ آخر مفردات جملته ، فإنني طفقتُ أتفكرُ بكثير من التوَجّس : إنه وأبنته طالعا أيضاً ذلك الكتاب ، المَنحوس ؛ كما أنّ كلا منهما مَريضٌ بمعنىً ما . أيمكنُ أنني عجزتُ عن التقاط شوارد عارض السمّ ، الخبيث ، على بدنهما وملامحهما ؟

تطلعَ إليّ المُضيف باهتمام ، فوجدتني أتلعثمُ بنطق سؤالي ، الذي كنتُ قد فكرتُ فيه قبلاً : " ولكنّ الجانبَ الأول ، المُتعلق بنشر الكتاب على الملأ ، لم يَحصلَ في آخر المطاف ؟ "
" لا لم يحصل ، بالرغم من مضيّ شهرَيْن على سرقة الكناش . ربما أنّ للقاروط حساباته ، الشخصية ، التي لا تتفق ، بالضرورة ، مع حسابات الآخرين "
" وإذاً ، كانَ صحيحاً ما خبّرَهُ الوزيرُ للدالي باش آغا يقيني ، بأنّ الكتابَ موضوعٌ من لدن الوهّابية للنيل من هيبة مولانا السلطان ، أعزه الله ؟ "
" إنه يُهرّف ، ولا ريب ، ذلك الرجل المارق . فالمرحوم الشيخ ، البرزنجي ، المولود في كردستان والمتوفي في دمشق ، كانَ في حياته عالماً جليلاً كثيرَ التآليف . كانَ ، رحمه الله ، صوفياً على الطريقة القادرية ؛ فهوَ بهذه الحالة عدوٌ ، لدودٌ ، بنظر جماعة أبن وهّاب . أما كتاب " النفح الليلكي " ، فإنه تواريخ عامّة عن السلطنة، فضلاً عن تفاصيل ، خاصة ، عن حملة الوالي الجَرْمُكي على أعراب الحجاز ، الذين سبق لهم أن نهبوا وسبوا المحمل السلطاني ، الشريف "
" فما هوَ إذاً وجه الخطورة ، الجلل ، في هذا الكتاب ؛ حتى أنّ الباب العالي يهتمّ بمصادرته واتلافه ؟ " ، تساءلتُ باستغراب . هنا ، سكتَ الزعيمُ عن الجواب . عندئذ صارَ يتشاغل بمَسح العَرَق ، المُتهاطل على جسمه ، الجسيم ، بوساطة فوطة صغيرة . ثمّ ما عتمَ أن بدأ يتكلم بصوت مُنخفض نوعاً : " إننا نبحث معاً عن قاتل ، مفترَض ، في منزلي . أليسَ كذلك ؟ " سألني الزعيم المُتيسّم بمكر وأردف قائلاً " فالأجدى أن يتساءل المرء ، عما هيَ مصلحة القاروط في أن يُجزي ثمنَ كتاب بذهب من كيسه " . سكتّ مُنتظراً أن أسمعَ جواباً منه . فما عتمَ أن واصلَ هوَ القولَ : " فاعلم إذاً ، أنّ القاروط بادلَ حفنة من المال بكنز لا يكاد يُحصر أو يُقدّر . أجل ، فبما أنه قاروط الكنج الكرديّ ، والي الشام سابقاً ، فهوَ يعتبرُ نفسه وريثا لثروة أبيه بالتبني ، القارونية ، المَدفونة بحسَب الكتاب في برج سريّ ، يَحملُ الرقم 13 ، من أبراج القلعة الدمشقية " .

" كنز الكنج "
ردّدتُ في نفسي لأكثر من مرة . أعتقدُ أنه سلفَ وتناهى لعلمي خبَرُ هذه الحكاية ؛ التي هيَ بالأسطورة أشبَه . نعم . إنّ كلّ حكاية تحتبي على كنز ما ، سرّي ، نحيلها للفور إلى أساطير الطفولة . ولكنّ الأمرَ هنا ، مُختلفٌ ولا شك ؛ فهوَ مُتواشجٌ مع سرّ الكناش ؛ مع مَضمونه ، لو شئنا التحديد أكثر . على ذلك ، فإنّ الفضول ألحّ عليّ أن أقطعَ صمتي بهذا السؤال ، البريء : " ولكن المَنطقيّ ، والحالة تلك ، أنّ القاروط كانَ سيحصل على الكنز بمعونة أبيه ؛ وبالتالي ، ألا يكونَ بحاجة لعناء البحث عن كناش مفقود وملعون ؟ "
" معكَ حق ، يا آغا . ويعلمُ الله أنني فكرتُ بالطريقة ذاتها . إلا أنَ سؤالك ، على أي حال ، لا يُمكن أن يجدَ جواباً ، سديداً ، سوى عند القاروط نفسه " . وكانَ المُضيف في سبيله لأتمام كلامه ، لولا أنّ عنف الأنفجارات ، المُتواترة ، أضحى من القوّة أنه فضل السكوتَ بدوره . تماماً ، وفي هذه اللحظة ، تذكرتُ سؤالي الذي طرحته صباحاً على الزعيم في حجرة أعماله . " كان بودّكَ ، يا سيّدي ، أن توضحَ لي لبْسَ مَخرَج النجاة ، السرّي ، الكائن في القبو " ، قلتُ للمُضيف . أرعشَ عينيه ، كأنه أخذ على حين غرة ، ثمّ أتبع ذلك بمط شفتيه مُتفكراً . وإلى النهاية خرجَ صوته ضعيفاً ، بأثر دويّ القنابر : " إنكَ سألتني حينئذ ، إذا لم أكن مُخطئاً ، عن سبب استنكافي عن استعمال المخرج ذاك ، عندما كانَ الموتُ أقربَ إلينا من ظلنا . فاعلم إذاً أنّ مفتاحَيْ بابَيْ المخرج ، الداخلي والبرّاني ، كانا بحوزة الوصيف . حتى إذا طلبتُ منه ، في لحظة الخطر تلك ، أن يسلمني إياهما فإنه أدعى فقدانهما من حجرته "
" وهل تحققتَ من الأمر ، أيها الكبير ؟ "
" نعم ، بطبيعة الحال . وتبيّن لي ، بعد موته ، أنه كان يكذب "
" لقد سبقَ وأخبرتني ، كما أذكر، أنّ الحاجبَ كانَ يحاول النجاة بنفسه ، عن طريق الممر ذاك ، فصرعه أحدهم بخنجر ؟ "
" أجل ، وكانت المفاتيحُ مرميّة قربَ جثته "
" وهل كانَ ذلكَ حالُ الخنجر ، أيضاً ؟ "
" لا ، لم يُعثر على أداة القتل هذه "
" فلم علينا ، إذاً ، أن نجزمَ بأنّ الوصيفَ ذبحَ بخنجر وليسَ بقامَة ، مثلاً ؟ " . سألتُ مُتعمّداً استخدامَ ضمير الجمع ، لكي لا يُسيء الزعيمُ فهمي . بَيْدَ أنّ رعشة عينيّ الرجل ، خيّبتْ أملي . لم أرغبَ أن يتفاقمَ الحَرَجُ بيننا ، وعلى ذلك أردفتُ القولَ : " إنه أمرٌ غير مهمّ ، على أيّ حال . ولكنني ، من بعد أذنكَ يا سيّدي ، أرغبُ بمُعاينة مكان الجثة " ، ثمّ أضفتُ بسرعة " كما وأتمنى أن يُتاحَ لي ، أيضاً ، رؤية مخرج النجاة ثمة ". إذاك ، كان الزعيمُ ما يفتأ يُحدّق فيّ بنظرته المَليّة ، المُتفرّسة . ولكنه ما أسرَعَ أن تزحزحَ بحيوية من مكانه الرطيب ، المُنعش . " كما تشاء ، يا آغا . سنمضي إلى القبو من ساعتنا ، فربما أن مشاغلَ هذا اليوم ، الحافل ، لن تمنحنا وقتاً كافياً لفعل ذلك " ، قالها المُضيف دونما حرارة. ولكنّ رأيه كانَ مصيباً ، في آخر المطاف.

" إنّ الأمرَ ، يا سيّدي ، لا يبدو مُجرّد رشق ، طائش ، من هنا أو هناك "
قلتُ لمُضيفي ، مًعلقاً على دوي القصف المُتواتر ، فيما نحنُ نهمّ بالنزول إلى القبو خللَ مدخل السلاملك . فأجابني وكأنما دَهَمَه خاطرٌ ، طارىء : " فإنه لا بدّ أن يكونَ تمهيداً لهجوم كبير ، من جهة وجاق القابيقول ". نعم . هذا أيضاً ، للحق ، ما كانَ يعتملُ في فكري . وكنا الآنَ ننحدر الدرجَ الحجريّ المليء بالظلال ، مُهتدين ببصيص أنوار الشمسيات ، المحفورة في الجدران . وقلتُ للكبير ، حالما ألفتُ جوّ المكان : " لقد مضى يومان على موت آمر الوجاق . وكنتُ أتساءلُ ، يا سيّدي ، عما يكمن وراءَ أجَمَة صمت قادته "
" ولكن تذكر ، يا آغا ، أنهم رُدّوا بقوّة ، في حينه ، حينما حاولوا اجتياح الأسواق "
" لم يكن ذلك هجوماً مُخططاً بعناية ، بل ردّة فعل على موت آمرهم آغا أميني "
" لن نحكمَ على نواياهم ، بطبيعة الحال ، إلا بعدَ التحقق من مصدر هذا القصف " ، أجابني الكبيرُ وأردَفَ من ثمّ بنبْرَة أخرى أقلّ قلقا " بعد قليل سيلتمُّ المجلسُ لدينا ، على مائدة الغداء . وعند ذلك ، سنعرف جلية الأمر " . وما لم يكن يعرفه الزعيمُ عندئذ ، أنّ المجلسَ لن يكونَ بوسعه الاجتماع في منزله ، أبداً .
" أفّ ، أيمكنُ أن يكونَ قد أشكلَ عليّ ، حينما استللتُ المفاتيحَ من خزانتي ؟ " ، ساءلَ المُضيف نفسه بصوت مسموع . ففي طريقنا إلى القبو ، كانَ قد عرّجَ على حجرة أعماله لكي يجلبَ مفتاحَيْ المخرج هذا ، السرّي ، الذي كنا اللحظة نقف بمقابله . ولكن في البدء ، عليّ أن أنوّه بأنّ بابَ المَخرج ، البرّاني ، كانَ مَخفياً أيضاً بعناية . إنه يكمن في هذه الباحة ، الضئيلة، التي تتوسّط عمارة الدرَج الحجريّ ، اللولبيّ الشكل ، والمُنارة بكوى صغيرة وكبيرة ، مطلة على الحديقة وسور الدار. وكانَ مدخلُ الممر مموّهاً بدرفتيه الخشبيتين ، المُزخرفتين ؛ بهدف أن توهمَ عينُ الفضول بأنه ثمة مجرّد كوّة كبيرة ، مُصمّتة ، مَنحوتة في أدنى الجدار . أما الباب الجوانيّ ، المُقابل ، فكانَ يُفضي للحَرَمْلك ـ كما صرّحَ لي الزعيمُ ، قبل قليل ، باقتضاب وغموض .
" فلنجرّب ، على كلّ حال ، فربما أنّ العتمة هنا ضللتني " ، قال الرجلُ وهوَ يتجه بيده نحوَ الباب الأول ، ليضع في ثقب غاله ، الضخم ، أحدَ المفتاحيْن . ثمّ ما عتمَ أن فتحَ الباب ، بعدما عولجَ قفله ببعض الجهد . وكذلك فعلَ بالباب الثاني ، وكانت النتيجة مُشابهة . إلا أنّ حيرة الزعيم ، البيّنة ، لم تنقض على ما يبدو . هوَ ذا يهز رأسه ، مُقلباً باعثَ المُشكل بين أصابعه . " يا له من أمر عَجَب . إنّ كلا من هذيْن المفتاحيْن ، ولا ريب ، هوَ نسخة مُستحدَثة من المفتاح ، الأصل " ، ندّتْ عنه بتنهّدة مديدة . فسألتُ مُضيفي : " ألم تنتبه للأمر قبلاً ، يا سيّدي ؟ "
" أبداً . ففي ذلك الوقت ، كما تعلم ، كان رأسُ كلّ منا ، نحن من شهدَ الليلة تلك ، المَهولة، مثقلاً بالإرهاق والنعاس والشجن " . أما أنا ، شاهدُ العيان ، الوحيد ، على عجائب الدار ومغامضها ، فلم يكن مني عندئذ إلا أن خاطبتُ مُضيفي ، ساخراً : " إنّ المفتاحَ ، الأصل ، هوَ ثالثُ الأغراض ، المفقودة ، بعدَ الكناش والخنجر " . ثمّ ما لبثَت وهلة الصمت ، المُريب ، أن هيمَنت على الموقف . وكنا في هذه الحالة ، عندما أجفلنا معاً من وقع دويّ قصف ، قريب للغاية . ثمّ ما لبثَ انفجارٌ آخر ، مَهولٌ ومُُزلزل ، أن تبعَ الأول ؛ وكانَ من القوّة ، حتى أنّ جسمَيْنا ارتطما معاً بالباب المُحاذي لموقفنا ، والمؤدي إلى الممرّ السرّي . وما عتمَتْ ذيولٌ من غبار ، جنائزية المَشام ، أن تسَرّبَتْ إلينا خلل الباب الآخر ، المؤدي للحرملك . نعم . لقد وقعتْ قنبرة على أمّ رأس المنزل .

" أنتظر عندكَ ، يا آغا . لا تتحرّك من مكانكَ قبل أن أعودَ "
خاطبني الزعيمُ وهوَ يهمّ بمغادرتي . وكانَ يريدُ الاستفاضة بأمر ما ، فارتجّ عليه القول . ولكنه تمالك زمامَ نفسه ، أخيراً ، فأعلن أنه سيصعد لفوق حالاً . وكانت نبرته عندئذ مَشحونة بنذير القادم ، الأسوأ . لم يُصَبْ أحدُنا ، لحسن الحظ ، بأيّ أذىً بدَنيّ . ما أن غادرَ الرجلُ المكانَ ، حتى رأيتني مُتململاً فوقَ أرضيّة انتظار ، مُشتعلة . لقد استبقيتُ هنا ، فكرتُ بتوجّس ، لكي أبقى حارساً لباب الممرّ ومفتاحه ؛ ولكي أستقبل أهلَ الحرملك ، إذا ما شاءَ الزعيمُ إجلاءهم عن الدار . إنّ الحالَ ، ولا غرو ، لا يُحْمَد .
صورة المَعبودة ، أيقونتها ، كانت مُعلقة ثمة ، على الباب المُفضي لحجرتها ؛ وكنتُ أتملاها بنظرة فيها ما فيها من قلق وإشفاق وإملاق . من تلك الجهة ، إذاً ، بدأ يتسرّبُ شيءٌ من الدخان بأثر الغبار . فما كانَ مني ، بحركة جنون وجَوَى ، إلا أن قفزتُ من موضعي وهممتُ بالصعود متأثراً خطى المُضيف . ولكن ، في الهنيهة التالية ، كانَ أحدهم ينزل عبرَ الدرج عينه ، بسرعة ولهوجة . اعتقدتُ أنه الزعيم ، فقمتُ بدوري لألقاه . إلا أنّ وصيفة ياسمينة ، الفتيّة، هيَ من اصطدمتُ بها هناك ، في أعلى السلم الحجريّ . كانت الفتاة مُكتسية ً بملاءة سوداء ، تغطي هيئتها كلها . بَدَتْ مُُروّعة للغاية ، حدّ أنّ سحنتها المُصفرّة ، المُمتقعة ، لم تكن تمتّ لعالم الأحياء .
" ما الأمر ؟ هل سيّدتك بخير ؟ " ، سألتها من فوري . فما كانَ من الوصيفة، على دَهشتي ، إلا أن ترامَتْ عليّ مُنتحبَة بشدّة . كنتُ أحتضنها بين ذراعيّ ، وأنا جامدٌ بلا روح ـ كصنم من حجر . وبدلاً من أن تجيبَ مساءلتي ، مدّت الفتاة يدها إلى ثوبها ، فاستلّتْ من فتحة الصدر حزمة ما ، صغيرة ، مَلفوفة بمزقة من قماش نسائيّ . " إنه يَخصّكَ ، يا سيّدي . لقد أوصتني هيَ أن أسلمكَ هذا الكناش ، المَحزوم هنا طيّ الثوب " ، قالتها مصحوبة بشهقات بكاء مُتصلة . فيما بعد حسب ، عليّ كان أن أدرك ، جلياً ، ما كانت تعنيه الوصيفة بكلمتها تلك ، المُحيلة لمصدر " الوصيّة " . أما في هذه اللحظة ، فكنتُ أنظرُ مَصدوماً إلى حزمة من أوراق مخطوطة ، حائلة القدَم ، وقد نُضَّ عنها قطعة القماش التي تسترها . " إنّ هذا ليسَ " كناشي " ، المطلوب " : أسْررَتُ لنفسي بحيرة ، وأنا أفكرُ بعدد أوراق الرزمة ؛ وكانت لا تكاد تتجاوز العشرين . وكنتُ في وارد تفحّص الأوراقَ ، المَجموعة إلى بعضها البعض بوساطة الخياطة ، وإذا بخطوات مُوقعَة على السلم ، تنبي بقدوم آخرين إلى القبو . إذاك ، بادرتُ من فوري لرفع كرزيتي الحريرية ، الناصعة ، لأدسّ الكناشَ في حزام سروالي الأسود ، الكتانيّ . على الأثر ، أطلّ المملوكُ الصقليّ متبوعاً برفيقه ، القبرصيّ . كان الأولُ ينوء تحت ثقل بقجة حريرية ، مَحزومة بظهره. أما الثاني ، فكان يمسكُ في يده بمشكاة ، خامد النور. وحال الوصيفة سواءً بسواء ، كانَ كلاهما مُتأثراً إلى حدّ ذرف الدموع . هارباً من صيغة الوضوح ، توجّهتُ إليهما ما أن همدا بالقرب مني ، بسؤال مُبْهَم لا يرجو جواباً ، قاطعاً : " وبقية أهل الدار ؛ هل هم في الطريق إلينا ، أيضاً ؟ "
" كنا مع سيّدنا هناك ، في الحرملك ، نحاول عبثاً إخماد النيران . ولكننا نجحنا أخيراً في السيطرة على الحريق ، حينما أنضمّ إلينا ، فيما بعد ، قوّاص آغا وبعضُ رجال الحيّ " ، أجابني الصقليّ بلهجة ضائعة . ثمّ عقبَ الروميّ على كلام رفيقه ، فقال بخوف : " لقد اُخبرَ سيّدنا ، من لدن قوّاص آغا ، بحقيقة الوضع . إنّ وجاق القابيقول يُسيطر الآن على الأسواق ، وبدأ أفراده بسدّ مدخل الحيّ . ولهذا السبب ، ربما ، وقفَ ضربُ القنابر " .
حينئذ أسلمتُ أمري للخالق ؛ لواهب الحياة ومُسْتردّها في آن .على ذلك ، حلّ الصمتُ مُتطاولاً، مُمضاً ، فوق كاهل هذه النفوس المُتوجّسة ، التي كانت تتوقُ ولا ريب للحظة النجاة . كانَ مُوارباً بابُ المَخرج ، السرّي ، إلا أنّ مفتاحه ، بالمقابل ، كانَ في متناول اليد . مَضتْ برهة أخرى ، قبل أن يتناهى إلى سمعنا صدى إيقاع أقدام ثقيلة ، ضاربَة على مَزهَر أعصابنا . كانَ الزعيم لوحده ، إذاً ، وبين يديه كيسٌ من الخيش ، ثقيلٌ نوعاً . وضعَ غرضه على الأرض ، ثمّ اتجه نحوَ باب المخرج ذاك ، دونما أن ينظر في وجه أيّ منا . عالجَ القفل بالمفتاح ، ثمّ ما لبثَ أن التفتَ نحوَ مملوكه ، الروميّ ، فأمرَه بنبرَة هادئة : " أشعل المصباحَ ، يا فتى " ، وأتبعَ ذلك بتوجّهه للآخرين قائلاً " هيا إذاً ، ولنغادرَ هذا البيت " . عندئذ ، كانَ ما يزالُ واقفاً ينتظرُ مرورَ جماعته . مشى أولاً القبرصيّ بمصباحه ، ثمّ الفتاة بنحيبها ، فالصقليّ بمتاعه . وحينما جاءَ دوري ، سألتُ الزعيمَ بصوت مُرتعش ، مُرجف : " وأهلكم فوق ، يا سيّدي ، ألا ينضمونَ إلينا ؟ "
" لم يبقَ أنسيّ واحدٌ في داري ، يا آغا . ثمة الجنيّة ، " التابعَة " ، حسب . إنها من سَرَق أرواحَ أولادي ، الواحد بأثر الآخر " .

> ويليه الفصل الثالث من الرواية ؛ وهوَ بعنوان " مَنأى " ..



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7
- الرواية : مَهوى 6
- الرواية : مَهوى 5
- الرواية : مَهوى 4
- الرواية : مَهوى 3
- الرواية 2
- الرواية : مَهوى
- الأولى والآخرة : مَرقى 13
- الأولى والآخرة : مَرقى 12
- الأولى والآخرة : مَرقى 11
- الأولى والآخرة : مَرقى 10
- الأولى والآخرة : مَرقى 9
- الأولى والآخرة : مَرقى 8
- الأولى والآخرة : مَرقى 7
- الأولى والآخرة : مَرقى 6
- الأولى والآخرة : مَرقى 5
- الأولى والآخرة : مَرقى 4


المزيد.....




- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الرواية : مَهوى 11