أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 2















المزيد.....

الفصل الثالث : مَنأى 2


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2999 - 2010 / 5 / 9 - 01:53
المحور: الادب والفن
    



" إنّ المسكينَ راقدٌ بعدُ ، في غيبوبة الحُمّى "
تسللَ إلى سَمْعي صوتٌ من قرب ؛ صوتٌ مُشفقٌ وأليفٌ ، في آن ، مُتماه مع هدير ، بعيد ، للذكر الحكيم . بعدئذ ، حلّ الصمتُ مُجدداً حولي ، فيما استمرّت التلاوة ، القصيّة . لم أكن قد فتحتُ عينيّ بعد ، حينما أدركتُ أنّ مَشامَ المكان ، أيضاً ، كانَ على نوع من الألفة ، الغامضة . رأيتني ، في آخر الأمر ، أرقدُ في حجرة ضيقة ، كئيبة ، لا يكادُ يدخلها نورُ النهار ؛ ما فتأتْ كوّة واحدة ، صغيرة ، بأعلى الجدار المُقابل ، هيَ مُتنفسها الوحيد . وإذ اعتادت العينُ على مرأى مألوفاتها ، فإنني رحتُ أتملى ما حولي من أشياء وموجودات ، وعلى قلتها . سقفُ الحجرة ، كانَ مَكسواً بجذوع من الأشجار ، المنحوتة والمصبوغة بالقار ؛ وكانَ من العلوّ أنه أتاحَ لسقيفة ، ضئيلة الحجم ، أن تأخذ مكانها ؛ ثمة ، في الجهة التي تعلو الباب . وحال السقف والباب ، كانت جدرانُ الحجرة ـ المَطلية بملاط أصفر ، قاتم ـ عارية تماماً من أيّ زخرفة أو تلبيس .
" هل أنا في تكية ، أو زاوية ، لطريقة ما ؟ " ، ساءلتُ نفسي بحيرة . إنّ ألفة المكان ، الموصوفة ، أعادتْ لذاكرتي ولا غرو صوَرَ منزل أسرتي ، الأول ، المُكوّن من حجرَتيْن ؛ والذي كان مُلحقاً بزاوية النقشبندية ، ثمة في بير الأكراد ، في الميدان . آه ، إنّ بيت الطفولة ذاك ، قد أضحى الآنَ رماداً ، إثرَ هجوم الغوغاء على الزاوية ، وإحراقها من ثمّ . وهذا أيضاً ، كانَ مصيرُ منزلي الآخر ، المُرتكن على ناصية قهوة النوافر ، خلف الجامع الأموي . نعم . إنّ وقائعَ مهولة ، لا سابق لشناعتها ، وقعَتْ في مدينتنا خلال الأسبوع ، المُنقضي ؛ وقعت خلال الفترة عينها التي كنتُ فيها هنا ، مَحموماً ، طريحَ الفراش : كانَ المملوكُ ، الروميّ ، هوَ من أنبأني بما جرى آنذاك ، حينما دخلَ الحجرة فوجدَني قد أفقتُ من بحران الحمّى . إذاك ، بانَ الفرَح في ملامحه الحَسَنة ، فما عتمَ أن أنكبّ عليّ دونما تكلف وعانقني بحرارة . " سأمضي ، من فوري ، لكي أخبر سيّدنا " ، قالها بجذل . وكان يهمّ بالذهاب ، عندما أشرتُ له بالتمهّل . سألته عما إذا كان هوَ من غيّر لي ملابسي ، حينما كنتُ غائباً عن الدنيا . فأجابني أثر هنيهة تفكير : " أعتقدُ أنّ الصقليّ من فعل ذلك ، يا سيّدي " . قبل قليل ، وحالما فتحتُ عينيّ ، كنتُ قد تنبّهتُ إلى أنني مكتس بقنباز عتيق ، بسيط ، ولم يكن في الحجرة من أثر لملابسي ، المُستحدثة . عندئذ ، هتفَ سرّي بهلع : " لا بدّ أنّ أحدهم استولى على حزمة الأوراق تلك ؛ على كناش ياسمينة " .

أربعُ حجرات ، مُتفاوتة الحجم ، بُذلتْ لإقامتنا هنا ؛ في مدرسة الحديث ، البرّانية ، المنذورة للمذاهب الأربعة ، والتي أنشأتها أميرة من بني أيوب ، ما لبثتْ أن دفنت فيها ، بحسَب وصيّتها ، وليلحقها فيما بعد زوجها وأبنها . هذه المدرسة ، الكائنة على طرف سوق ساروجة من ناحيَة القنوات ، مُكوّنة من دورَيْن ؛ أرضيّ وعلويّ . الدور الأول ، يضمّ الجانب الأكبر منه مسجداً ، له بوابة كبيرة ، ذات قوس حجرية ، وسقفها مزيّن بالعقود المزخرفة . فيما المساحة المُتبقية شغلتها قاعات الكتب والدراسة والأشغال ، إضافة لحجرات كبيرة الحافظات ومساعداتها . والدور الثاني ، يقيمُ فيه دارسات الحديث والفقه والتفسير ، يتقاسمنَ خمس عشرة حجرة ، صغيرة ، مُوَزعة على ثلاث ردهات . ثمة حديقة ، متوسطة الحجم ، على طرف المدرسة ، وكانت مُجزأة بدورها إلى قسمَيْن : أحدهما ، كانَ مزروعاً بالخضار والبقول ، فضلاً عن مسكبَة لأعشاب العطارة . أما القسم الآخر ، فكان عبارة عن حوضيْن كبيريْن ، يحتفي كلّ منهما بأنواع الزهور والورود ، المهيمن عليها بعضُ الأشجار المثمرة والبريّة . إنّ كوخاً صغيراً ، كان يقوم هناك على طرف الحديقة ، ولا يكادُ المرءُ يتمكن من تمييزه ؛ بسبب الغطاء الأخضر ، الكثيف ، للأشجار والتعاريش والخمائل : هنا ، في هذا المَسْكن ، عليّ كانَ أن أشارك العشابَ المُحنك ، العجوز ، مَسرّة العمل والقيلولة في آن .
" كما ترى ، فإننا لم نضيّعَ وقتنا ، عندما كنتَ أنتَ مُستمتعاً بأسبوع من الراحة " ، قال لي الزعيمُ مازحاً . كنا الآنَ في عزّ الظهيرة ، نتجوّل عبر ممشى الحديقة ، الرئيس ، المَفروش برمل أحمر ، ناعم ، والمُظلل بسقالة خشبية ، مُرتفعة ، يَهمي عليها أفرع وأغصان الكرمة . في هذا المَنأى ، إذاً ، كانَ على جماعتنا ، المُكوّنة من خمسة أفراد ، أن تجدَ ملجأً يَحميها لحين من الزمن . إنّ أوقاف المدرسة ، المُقترة ، لم تكن تكفي مصاريفها بالطبع ، فكانت تدبّر أمورها بما ينفحها إياه أهلُ الخير ؛ وكانَ كبيرُ الأعيان أكثرهم سخاءً . كبيرة الحافظات ، من جهتها ، كانت قد اقترَحَتْ على الزعيم ، درءاً للشبهات ، أن يتمّ تمويه أقامتنا هنا ، وكما لو أننا في أشغالنا ، المُعتادة : إذاك ، عليه كانَ أن يقبلَ ، بتواضع ولا ريب ، مهنة الجنائني ؛ طالما أنه يجد ذوقه بين الزهور والرياحين . وبالقرب من الحديقة نفسها ، كانَ عليّ ، من جهتي ، أن أعاونَ العشابَ في أمور أجيدها ، ولا غرو ؛ طالما أنّ مهنتي الأساس تداورُ بين الحكمة والعطارة . أما عن المَملوكيْن ، الملوليْن ، المُتقاسمَيْن غرفة واحدة ، فإنهما قنعا بملبس خادمات الدار ، وراحَ كلّ منهما يُزاول عملاً يتقنه بكلّ تأكيد . بقيَ وضعُ الوصيفة ، في آخر الأمر ؛ وكان ، للحقيقة ، مُشكل جماعتنا .

" إنّ نرجس ، المسكينة ، ما فتأت في حال سيئة "
قالَ لي كبيرُ الأعيان ، المُكتسي بمَلبس الجنائني . كنتُ معه هنا ، في كوخ العشاب ، بعدما مضى معلمي إلى شأن ما من شؤونه . حينما نطقَ الزعيمُ اسم الفتاة ، كنتُ أدركُ ، ولا شك ، أنه يَقصد الوصيفة السابقة لأبنته . وعليّ كانَ أن أعرف ، قبل ذلك ، أنّ تلك البنت ، الفتية ، وقعَتْ بدورها فريسة للحمّى وحالما وصلتْ لهذه الدار ، الكبرى . إلا أنّ صحتها ، في اليومَيْن الماضييْن ، تحسنت قليلاً بفضل صفات الأعشاب ، الناجعة ، التي مّدها بها معلمي . وإذاً ، طمأنتُ الزعيمَ بقولي ، أنّ البنتَ في طور النقاهة وستشفى سريعاً . من ناحية أخرى ، كنتُ قد لحظتُ ، قبلاً ، اهتمامَ الرجل ، المُبالغ فيه نوعاً ، بحالة المَريضة ؛ حدّ انه كان يَسْهرُ ، بنفسه ، فوقَ رأسها . وقد تهيأ لي ، يومَ أمس ، مُعاينتها عن قرب ، فرأيتُ أنّ لحجرتها باباً داخلياً ، مُوارباً ، يُفضي إلى حجرة سيّدها .
" يجب أنّ أسعى لخلوة مع الفتاة ، وعلى جناح من العجلة " ، خاطبتُ داخلي . أجل، كانت الوصيفة محفظة أسرار ياسمينة . إنها على علم ، والحالة تلك ، بكثير من الخفايا ؛ وبالأخص ، ما يتعلق منها بلغز الكناش . لقد سبقَ للصقليّ ، حينما استجوبته ، أن أنكرَ وجودَ حزمة الأوراق ، المَخطوطة ، طيّ ملابسي القديمة ، عندما بادرَ هوَ إلى استبدالها بأخرى ، مناسبة ، بأمر من سيّده . لا يمكن أن تكونَ الحزمة قد سَقطتْ ، تلقائياً ، من الحزام ، أثناء نقلي محمولاً عبرَ الممرّ السرّي ، في الطريق إلى هذه المدرسة . لأنني كنتُ عندئذ مكتس بسروال مُفقش ، وكانَ من المنطقيّ أن تستقرّ الحزمة فيه أو في أحدى فردتيْ جزمتي ، الجلدية . فهل عثرَ عليها الزعيم ، اتفاقاًً ، وأخفى الأمرَ عن علمي ؟
" إنني قلقٌ ، بحق ، على مصير قوّاص آغا " ، عادَ الرجلُ إلى الكلام وهوَ متكدرُ المزاج . ثمّ أضافَ : " ما كانَ عليّ وقتذاك أن أدعه في المنزل ، كما كانَ يصرّ ". تطلعتُ إليه بنظرة متأملة ، فيها بعض الدهشة . إذ كنتُ على علم بأنّ خطيبَ أبنته ، السابق ، ما كانَ على حظوة في نفسه ؛ بل كانَ مَفروضاً عليه بدالة أمرته على وجاق اليرلية . والآن ، بعدما بَرحَ هذا الهمّ ، باختفاء أثر ياسمينة كما وباندثار سلطة الآمر ، يأتي الزعيمُ لكي يفوه بهذا الكلام ، الغريب . بَيْدَ أنني لم اُسألَ من لدنه ، مطلقاً ، بما كانَ قد سمعه مني ، من اتهام لقوّاص آغا . فقبل هنيهات من فقداني الوعي ، في تلك الظهيرة ، الجهنمية ، طلبتُ من الزعيم أن ينقذ أبنته من براثن القاتل ؛ الذي سمّ آغا أميني وذبحَ الوصيف . لم أنطق آنئذ أسم القوّاص ؛ إلا أنّ معنى كلمتي ، ولا ريب ، ما كانَ له أن يُحجَبَ عن ذهن الكبير . ولكن ، ماذا لو أنّ آمرَ اليرلية قد قتلَ ، بدوره ، في ذلك اليوم المشؤوم ؟ تحرّكتْ نوازعُ الفضول ، مجدداً ، في عروقي ، وقلتُ أنّ السرّ لا يجوز له أن يدفن مع من رَحَلَ . فعليّ من كلّ بدّ ، وبأيّ شكل ، أن أختلي مع نرجس : ليسَ كناش ياسمينة من فقدَ مني حسب ، بل أيضاً خاتم مولانا ؛ الذي كان يُبارك بنصرَ يدي اليمنى .

كارثة كبرى ، ولا غرو ، حلّتْ بالمدينة ، المَنكوبة أصلاً بالفوضى ، حينما سيطرَ انكشاريّو القابيقول على زمام الوضع . مُبتدأ الأمر ، كانَ على شكل نذير ، مُبين ، لم يكتنه خطورته آمرُ اليرلية ، الأحمق : كانَ عليه أن يضعَنا في الصورة مُسبقاً ، وأن يستنفرَ وجاقه في أهبة كاملة ، بعدما عَرَفَ نية الوجاق الآخر ، المُنافس ؛ وعلى لسان آمره بالذات. نعم . كانَ على القوّاص أن يأمرَ بحَجز " آغا باقوني " ذاك ـ الذي خلفَ آغا أميني على رأس القيادة ـ وتسليم رأسه من ثمّ لمجلس العمومية بجناية الخيانة . فآمر القابيقول ، الجديد ، كانَ قد حضرَ بنفسه إلى مقرّ قشلة اليرلية ، ليجتمع مع القوّاص ، وكانَ ذلك في اليوم الذي سبق الهجوم . لقد زعمَ أمامَ منافسه بأنّ ثمة تدبيراً خفياً ، موثقا ، بين المجلس والوزير ، بوساطة من قبجي السلطان ، يقضي بالتخلص نهائياً من الأنكشارية في الولاية الشامية : " ألم يستثني فرمانُ الأمان ، العليّ ، وجاقيْنا من العفو ، حينما سمّى الآخرين ، المُستفيدين منه ؟ ألم يتقرّب آمرُ الأورطات من المجلس ، بسعي من شمّو آغا والقاروط ، ومباشرة ً بعد موت آغا أميني ؟ وهذا الأخير ، ألم يُسَمَّم في منزل الشاملي ، على كل حال ؟ " ، تساءلَ آمرُ القابيقول وهوَ يغلي بالغضب مُحرضاً الآخر على التمرّد . وإذاً ، فحينما كانَ القوّاصُ ثملاً غافلاً ، يَشحذ نصلَ ذكره على رؤى بَدَن عروسه ، الموعودة ؛ في عين الوقت ، كانَ آغا باقوني يشحذ نصل سيفه ، لكي يغرزه في ظهر المجلس .
" أحقاً أنّ اسمَ " باقوني " هذا ، يَعني بالكرديّة : ريح الدّبر ؟ " ، سألني الزعيم مُتضاحكاً . لا بدّ أنها المرّة الأولى ، التي يَشيعُ فيها المرَحُ على قسمات والد ياسمينة ، منذ تلك القنبرة اللعينة ، الغادرة . نعم . كانَ أمرُ التخلص من كبير المجلس مُبيّتاً ، وخطط له بعناية بُعيْدَ ليلة الأورطات . إنّ سمْتَ مدفعية القابيقول ، المركونة في ساحة وعلى أسطح الجامع الأموي ، كانَ محسوباً بدقة ، لكي تقعَ القنابرُ فوق منزل الكبير ، في الوقت المعيّن ، المطلوب . ولكن نجا الرجلُ ، وبالمقابل ، قتلت مربية ياسمينة وخادمتها . لم يكن قد جُزمَ بعدُ ، بمصير ياسمينة. جثتان مُتفحمتان ، تماماً ، عُثرَ عليهما في جناح الحريم ؛ وقد دلت علاماتٌ ، مُعيّنة ، أنّ أحداهما كانت لمربية ياسمينة . وكانَ على روايتي للواقعة ، أو الرؤيا ، أن تعزز الرأي بأنّ الجثة الأخرى هيَ للخادمة وليسَ لسيّدتها .
اليوم ، بعد مرور أكثر من جمعة على بدء الهجوم ، يُسيطر وجاقُ الأنكشارية على الشام ، بما في ذلك حَيّ سوق ساروجة ، الواقع داخل سورها ، والذي تقبع فيه مدرسة الحديث هذه ؛ أين تختفي جماعتنا . ولكنّ حَيّ الصالحية ، القابع خارج السور ، بقيَ بمنأى عن سيطرة القابيقول ، لأنه كانَ على حياده ، دوماً ، في غمرة الصراع مع الوزير . بالمقابل ، فإنّ الكثير من الأسر الكردية هجَرَتْ الميدانَ والشاغور ، في هذه الآونة ، لكي تجدَ مأوىً لها بحماية بني جلدتها ؛ هناك ، في شرق الصالحية : إنّ لقبَ " باقوني " ، إذاً ، كانَ من تركيب كرد المدينة ، المتأذين بشدّة من سيطرة الأنكشارية .
ومنذ الآن ، حينما أعمّمُ كلمة " الأنكشارية " ، فإنني أعني حصراً وجاقَ القابيقول ، المُنتمي جلّ عناصره للأغراب الترك . فوجاق الأنكشارية الآخر ، اليرلية ، المُشكل أساساً من العناصر المحلية ، الشامية ، كانَ قد انتهى ، عملياً ، في حاضرتنا ؛ فسلّمَ بعضُ أنفاره وضباطه أنفسهم للخصوم ، والبعضُ الآخر لزموا بيوتهم وتخلوا عن كلّ شيء يأساً وإملاقا . هكذا ، خسرَ المجلسُ قوته الضاربَة ، بعدما سبقَ وفقدَ معظمَ أركانه ، خلال أسبوع واحد ، حَسب : ماتَ آغا أميني ، مسموماً ؛ وقتلَ الشيخ القبّان وشهبندر التجار ؛ وأضحى مصيرُ كلّ من القوّاص والعريان ، مجهولاً . أما الشاملي وعبدُ الله ، كاتبُ كلمات هذا الكناش ، فإنّ أثرَ كلّ منهما ، المفقودَ ، كانَ عليه أن ينتهي إلى سورة " العذراء " ؛ التي شاءتْ أن تؤرّث أوارَ اعتقاد الخلق ، الراسخ ، بموعد حلول القيامة ، الداني .

علاوة على وجاق القابيقول ، فإنّ جماعة أبن وهّاب ، سيكون لها شأنٌ ، مُستطير ، فيما جدّ من وقائع على رأس المدينة ، المنكوبة . هذه الجماعة ، المَشنوعة الاسم ، كانت أساساً على مذهب الحنابلة ، وقريبة بالتالي من وجاق اليرلية . إلا أنّ افتراقها عن وجاق القابيقول ، الحنفيّ المذهب ، لم يمنعها من الإنضواء تحت رايته والضرب بسيفه ، بعدما تمّ له الاستيلاء على أمور الشام . وكانت الإنكشارية ، من جهتها ، بأمسّ الحاجة لحليف كهذا ؛ لفتاوى أقطابه ووجود أتباعه في الشارع . على ذلك ، اُطلقَ يَدُ الجماعة في مَباحَة شنيعة ، شاملة ، كانَ ضحاياها من كلّ صنف ومن مختلف المراتب . كانَ أهلُ الطرُق ، ولا غرو ، على مرمى سهم أولئك الغوغاء ، الطائش . استهلّ هؤلاءُ فرعنتهم بمهاجمة تكايا وزوايا القادرية والنقشبندية ، فعاثوا فساداً في عمائرها ، وتنكيلاً بشيوخها ومريديها . إنّ موتَ صديقنا ، الشيخ القبّان ، حرقاً ، داخل زاويته في الشاغور ، كانَ على أيدي أتباع أبن وهّاب . ولكنّ الحدَث ، في حقيقته ، كان من تصاريف الفوضى ، التي أعقبَتْ ثورة العامّية ؛ ومن واردات عجز مجلسها عن ضبط الأمور وتساهله غير المُبرّر ، وغير المُغتفر ، مع أعمال الجماعة الشريرة وشططها المُتفاقم .
ولكنّ خطيّة جماعة أبن وهّاب ، المُتمثلة بمحاولة القضاء على الطرق الصوفية ، ما أسرعَ أن دفعَ ثمنها الأنكشارية ؛ حينما توحّد ضدهم الأورطاتُ ـ من دالاتية ولاوند ومغاربة وبغادة ومواصلة ـ والتي ينتمي أفرادُها وقوادُها للطرق تلك ؛ وخصوصاً ، القادرية والنقشبندية . إذاك ، وضعَ هؤلاء قواتهم بأمرة شمّو آغا ؛ زعيم الصالحية . إنّ هذا الرجل ، في آخر المطاف ، كانَ له فضل ردّ أنفار القابيقول عن حيّ سوق ساروجة ، بعد استيلائهم عليه بفترة وجيزة : هنا ، في هذا الحيّ الدمشقي ، الراقي ، المَنعوت باسم " كوجك آستانة " ( آستانة الصغرى ) : يقومُ قصر القاروط ؛ الصديق المُقرّب للزعيم الكرديّ شمّو آغا. وأيضاً ، هنا تقوم مدرسة الحديث ، الكبرى ، التي يصلها نفقٌ طويل ، سرّي ، بمنزل الشاملي ؛ زعيم حيّ القنوات .
من جهتي ، وعلى أثر إنصاتي للزعيم ، الذي روى لي تفاصيل ما جرى في مدينتنا من مآس ، فإنني تأثرتُ للغاية لخبر موت الشيخ القبّان ، رحمه الله . ولكنّ مصيره ، على أيّ حال ، كانَ أقلّ مأسوية من مصير رفيقه ؛ شهبندر التجار .

" والذين يكنزون الذهبَ والفضة فبشرهم بعذاب أليم "
قالَ شيخ الشام ، ثمّ ألتفتَ ناحية القاضي مُبتسماً بمكر وتشفّ . فما كانَ من الآخر ، المُنتصب قربه ، إلا مبادلته المُجاملة ، الوديّة ، فأجاب مؤكداً : " إنّ حكم الشريعة في حق الشهبندر ، واضحٌ ومُبرَم " . وكانَ السوقُ ، الطويل ، الحافلُ بالخلق من تجار وباعة وحرفيين ومُشترين وجوالين ، قد شهدَ قبل ذلكَ منظراً مؤثراً ، نادراً بحق . فالشهبندر ، الرثّ الهيئة والشكل ، كانَ عندئذ قد أخرجَ بالقوّة من مقره عمله ، الرخيّ ، ليقدمَ ذليلاً مُهاناً آية خضوعه للأنكشارية ، حتى أنه شالَ عمامته عن رأسه ورماها أرضاً أمام قدَميْ آمرهم ، هاتفاً بخضوع : " مالي ومتاعي ، جميعاً ، بتصرف من يحمي تجارتنا وأهلنا "
" إنّ مالكَ ومتاعكَ ميسورٌ لنا ، فلا حاجة بكَ لتجشم العناء بهذا الشأن " ، أجابه الطاغية ، آغا باقوني ، مُكشراً عن أسنان مسودّة ، صدئة . وأضافَ قائلاً : " ولكنّ رأسكَ ، الكبير ، هوَ ما نحتاجه في واقع الحال " . و أخيراً ، حينما سيقَ شهبندرُ التجار ، عاريَ الصدر مغلولاً بالحديد ، إلى دكان الجزار ، لكي يُذبَح خارجه كالنعاج ، فإنه ما لبث أن أستعادَ نفحة من الكرامة والأنفة . التفتَ الرجلُ نحوَ الجهة تلك ، التي يقف عندها كلّ من الشيخ والقاضي والأنكشاري ، وصاحَ فيهم بصوت مُصمّ ، سَمعته الشام كلها : " يا أصحاب السيادة والسماحة والفضيلة ، أنّ كفي فاضَ خيراً على أهل السوق . فليكن بعلمكم ، يا جهلة ، إنّ كنزَ ذهبي وفضتي ، الذي تتهمونني به ، قد دفعتُ زكاته ذهباً وفضة . أما أنتم ، يا من تنيكونَ نساءكم كما يُناك الغلمانُ ، فقد دفعتم الزكاة برازاً ومنياً ".



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7
- الرواية : مَهوى 6
- الرواية : مَهوى 5
- الرواية : مَهوى 4
- الرواية : مَهوى 3
- الرواية 2
- الرواية : مَهوى
- الأولى والآخرة : مَرقى 13
- الأولى والآخرة : مَرقى 12
- الأولى والآخرة : مَرقى 11
- الأولى والآخرة : مَرقى 10
- الأولى والآخرة : مَرقى 9
- الأولى والآخرة : مَرقى 8
- الأولى والآخرة : مَرقى 7
- الأولى والآخرة : مَرقى 6


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 2