|
الفصل الثالث : مَنأى 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2999 - 2010 / 5 / 9 - 01:53
المحور:
الادب والفن
" إنّ المسكينَ راقدٌ بعدُ ، في غيبوبة الحُمّى " تسللَ إلى سَمْعي صوتٌ من قرب ؛ صوتٌ مُشفقٌ وأليفٌ ، في آن ، مُتماه مع هدير ، بعيد ، للذكر الحكيم . بعدئذ ، حلّ الصمتُ مُجدداً حولي ، فيما استمرّت التلاوة ، القصيّة . لم أكن قد فتحتُ عينيّ بعد ، حينما أدركتُ أنّ مَشامَ المكان ، أيضاً ، كانَ على نوع من الألفة ، الغامضة . رأيتني ، في آخر الأمر ، أرقدُ في حجرة ضيقة ، كئيبة ، لا يكادُ يدخلها نورُ النهار ؛ ما فتأتْ كوّة واحدة ، صغيرة ، بأعلى الجدار المُقابل ، هيَ مُتنفسها الوحيد . وإذ اعتادت العينُ على مرأى مألوفاتها ، فإنني رحتُ أتملى ما حولي من أشياء وموجودات ، وعلى قلتها . سقفُ الحجرة ، كانَ مَكسواً بجذوع من الأشجار ، المنحوتة والمصبوغة بالقار ؛ وكانَ من العلوّ أنه أتاحَ لسقيفة ، ضئيلة الحجم ، أن تأخذ مكانها ؛ ثمة ، في الجهة التي تعلو الباب . وحال السقف والباب ، كانت جدرانُ الحجرة ـ المَطلية بملاط أصفر ، قاتم ـ عارية تماماً من أيّ زخرفة أو تلبيس . " هل أنا في تكية ، أو زاوية ، لطريقة ما ؟ " ، ساءلتُ نفسي بحيرة . إنّ ألفة المكان ، الموصوفة ، أعادتْ لذاكرتي ولا غرو صوَرَ منزل أسرتي ، الأول ، المُكوّن من حجرَتيْن ؛ والذي كان مُلحقاً بزاوية النقشبندية ، ثمة في بير الأكراد ، في الميدان . آه ، إنّ بيت الطفولة ذاك ، قد أضحى الآنَ رماداً ، إثرَ هجوم الغوغاء على الزاوية ، وإحراقها من ثمّ . وهذا أيضاً ، كانَ مصيرُ منزلي الآخر ، المُرتكن على ناصية قهوة النوافر ، خلف الجامع الأموي . نعم . إنّ وقائعَ مهولة ، لا سابق لشناعتها ، وقعَتْ في مدينتنا خلال الأسبوع ، المُنقضي ؛ وقعت خلال الفترة عينها التي كنتُ فيها هنا ، مَحموماً ، طريحَ الفراش : كانَ المملوكُ ، الروميّ ، هوَ من أنبأني بما جرى آنذاك ، حينما دخلَ الحجرة فوجدَني قد أفقتُ من بحران الحمّى . إذاك ، بانَ الفرَح في ملامحه الحَسَنة ، فما عتمَ أن أنكبّ عليّ دونما تكلف وعانقني بحرارة . " سأمضي ، من فوري ، لكي أخبر سيّدنا " ، قالها بجذل . وكان يهمّ بالذهاب ، عندما أشرتُ له بالتمهّل . سألته عما إذا كان هوَ من غيّر لي ملابسي ، حينما كنتُ غائباً عن الدنيا . فأجابني أثر هنيهة تفكير : " أعتقدُ أنّ الصقليّ من فعل ذلك ، يا سيّدي " . قبل قليل ، وحالما فتحتُ عينيّ ، كنتُ قد تنبّهتُ إلى أنني مكتس بقنباز عتيق ، بسيط ، ولم يكن في الحجرة من أثر لملابسي ، المُستحدثة . عندئذ ، هتفَ سرّي بهلع : " لا بدّ أنّ أحدهم استولى على حزمة الأوراق تلك ؛ على كناش ياسمينة " .
أربعُ حجرات ، مُتفاوتة الحجم ، بُذلتْ لإقامتنا هنا ؛ في مدرسة الحديث ، البرّانية ، المنذورة للمذاهب الأربعة ، والتي أنشأتها أميرة من بني أيوب ، ما لبثتْ أن دفنت فيها ، بحسَب وصيّتها ، وليلحقها فيما بعد زوجها وأبنها . هذه المدرسة ، الكائنة على طرف سوق ساروجة من ناحيَة القنوات ، مُكوّنة من دورَيْن ؛ أرضيّ وعلويّ . الدور الأول ، يضمّ الجانب الأكبر منه مسجداً ، له بوابة كبيرة ، ذات قوس حجرية ، وسقفها مزيّن بالعقود المزخرفة . فيما المساحة المُتبقية شغلتها قاعات الكتب والدراسة والأشغال ، إضافة لحجرات كبيرة الحافظات ومساعداتها . والدور الثاني ، يقيمُ فيه دارسات الحديث والفقه والتفسير ، يتقاسمنَ خمس عشرة حجرة ، صغيرة ، مُوَزعة على ثلاث ردهات . ثمة حديقة ، متوسطة الحجم ، على طرف المدرسة ، وكانت مُجزأة بدورها إلى قسمَيْن : أحدهما ، كانَ مزروعاً بالخضار والبقول ، فضلاً عن مسكبَة لأعشاب العطارة . أما القسم الآخر ، فكان عبارة عن حوضيْن كبيريْن ، يحتفي كلّ منهما بأنواع الزهور والورود ، المهيمن عليها بعضُ الأشجار المثمرة والبريّة . إنّ كوخاً صغيراً ، كان يقوم هناك على طرف الحديقة ، ولا يكادُ المرءُ يتمكن من تمييزه ؛ بسبب الغطاء الأخضر ، الكثيف ، للأشجار والتعاريش والخمائل : هنا ، في هذا المَسْكن ، عليّ كانَ أن أشارك العشابَ المُحنك ، العجوز ، مَسرّة العمل والقيلولة في آن . " كما ترى ، فإننا لم نضيّعَ وقتنا ، عندما كنتَ أنتَ مُستمتعاً بأسبوع من الراحة " ، قال لي الزعيمُ مازحاً . كنا الآنَ في عزّ الظهيرة ، نتجوّل عبر ممشى الحديقة ، الرئيس ، المَفروش برمل أحمر ، ناعم ، والمُظلل بسقالة خشبية ، مُرتفعة ، يَهمي عليها أفرع وأغصان الكرمة . في هذا المَنأى ، إذاً ، كانَ على جماعتنا ، المُكوّنة من خمسة أفراد ، أن تجدَ ملجأً يَحميها لحين من الزمن . إنّ أوقاف المدرسة ، المُقترة ، لم تكن تكفي مصاريفها بالطبع ، فكانت تدبّر أمورها بما ينفحها إياه أهلُ الخير ؛ وكانَ كبيرُ الأعيان أكثرهم سخاءً . كبيرة الحافظات ، من جهتها ، كانت قد اقترَحَتْ على الزعيم ، درءاً للشبهات ، أن يتمّ تمويه أقامتنا هنا ، وكما لو أننا في أشغالنا ، المُعتادة : إذاك ، عليه كانَ أن يقبلَ ، بتواضع ولا ريب ، مهنة الجنائني ؛ طالما أنه يجد ذوقه بين الزهور والرياحين . وبالقرب من الحديقة نفسها ، كانَ عليّ ، من جهتي ، أن أعاونَ العشابَ في أمور أجيدها ، ولا غرو ؛ طالما أنّ مهنتي الأساس تداورُ بين الحكمة والعطارة . أما عن المَملوكيْن ، الملوليْن ، المُتقاسمَيْن غرفة واحدة ، فإنهما قنعا بملبس خادمات الدار ، وراحَ كلّ منهما يُزاول عملاً يتقنه بكلّ تأكيد . بقيَ وضعُ الوصيفة ، في آخر الأمر ؛ وكان ، للحقيقة ، مُشكل جماعتنا .
" إنّ نرجس ، المسكينة ، ما فتأت في حال سيئة " قالَ لي كبيرُ الأعيان ، المُكتسي بمَلبس الجنائني . كنتُ معه هنا ، في كوخ العشاب ، بعدما مضى معلمي إلى شأن ما من شؤونه . حينما نطقَ الزعيمُ اسم الفتاة ، كنتُ أدركُ ، ولا شك ، أنه يَقصد الوصيفة السابقة لأبنته . وعليّ كانَ أن أعرف ، قبل ذلك ، أنّ تلك البنت ، الفتية ، وقعَتْ بدورها فريسة للحمّى وحالما وصلتْ لهذه الدار ، الكبرى . إلا أنّ صحتها ، في اليومَيْن الماضييْن ، تحسنت قليلاً بفضل صفات الأعشاب ، الناجعة ، التي مّدها بها معلمي . وإذاً ، طمأنتُ الزعيمَ بقولي ، أنّ البنتَ في طور النقاهة وستشفى سريعاً . من ناحية أخرى ، كنتُ قد لحظتُ ، قبلاً ، اهتمامَ الرجل ، المُبالغ فيه نوعاً ، بحالة المَريضة ؛ حدّ انه كان يَسْهرُ ، بنفسه ، فوقَ رأسها . وقد تهيأ لي ، يومَ أمس ، مُعاينتها عن قرب ، فرأيتُ أنّ لحجرتها باباً داخلياً ، مُوارباً ، يُفضي إلى حجرة سيّدها . " يجب أنّ أسعى لخلوة مع الفتاة ، وعلى جناح من العجلة " ، خاطبتُ داخلي . أجل، كانت الوصيفة محفظة أسرار ياسمينة . إنها على علم ، والحالة تلك ، بكثير من الخفايا ؛ وبالأخص ، ما يتعلق منها بلغز الكناش . لقد سبقَ للصقليّ ، حينما استجوبته ، أن أنكرَ وجودَ حزمة الأوراق ، المَخطوطة ، طيّ ملابسي القديمة ، عندما بادرَ هوَ إلى استبدالها بأخرى ، مناسبة ، بأمر من سيّده . لا يمكن أن تكونَ الحزمة قد سَقطتْ ، تلقائياً ، من الحزام ، أثناء نقلي محمولاً عبرَ الممرّ السرّي ، في الطريق إلى هذه المدرسة . لأنني كنتُ عندئذ مكتس بسروال مُفقش ، وكانَ من المنطقيّ أن تستقرّ الحزمة فيه أو في أحدى فردتيْ جزمتي ، الجلدية . فهل عثرَ عليها الزعيم ، اتفاقاًً ، وأخفى الأمرَ عن علمي ؟ " إنني قلقٌ ، بحق ، على مصير قوّاص آغا " ، عادَ الرجلُ إلى الكلام وهوَ متكدرُ المزاج . ثمّ أضافَ : " ما كانَ عليّ وقتذاك أن أدعه في المنزل ، كما كانَ يصرّ ". تطلعتُ إليه بنظرة متأملة ، فيها بعض الدهشة . إذ كنتُ على علم بأنّ خطيبَ أبنته ، السابق ، ما كانَ على حظوة في نفسه ؛ بل كانَ مَفروضاً عليه بدالة أمرته على وجاق اليرلية . والآن ، بعدما بَرحَ هذا الهمّ ، باختفاء أثر ياسمينة كما وباندثار سلطة الآمر ، يأتي الزعيمُ لكي يفوه بهذا الكلام ، الغريب . بَيْدَ أنني لم اُسألَ من لدنه ، مطلقاً ، بما كانَ قد سمعه مني ، من اتهام لقوّاص آغا . فقبل هنيهات من فقداني الوعي ، في تلك الظهيرة ، الجهنمية ، طلبتُ من الزعيم أن ينقذ أبنته من براثن القاتل ؛ الذي سمّ آغا أميني وذبحَ الوصيف . لم أنطق آنئذ أسم القوّاص ؛ إلا أنّ معنى كلمتي ، ولا ريب ، ما كانَ له أن يُحجَبَ عن ذهن الكبير . ولكن ، ماذا لو أنّ آمرَ اليرلية قد قتلَ ، بدوره ، في ذلك اليوم المشؤوم ؟ تحرّكتْ نوازعُ الفضول ، مجدداً ، في عروقي ، وقلتُ أنّ السرّ لا يجوز له أن يدفن مع من رَحَلَ . فعليّ من كلّ بدّ ، وبأيّ شكل ، أن أختلي مع نرجس : ليسَ كناش ياسمينة من فقدَ مني حسب ، بل أيضاً خاتم مولانا ؛ الذي كان يُبارك بنصرَ يدي اليمنى .
كارثة كبرى ، ولا غرو ، حلّتْ بالمدينة ، المَنكوبة أصلاً بالفوضى ، حينما سيطرَ انكشاريّو القابيقول على زمام الوضع . مُبتدأ الأمر ، كانَ على شكل نذير ، مُبين ، لم يكتنه خطورته آمرُ اليرلية ، الأحمق : كانَ عليه أن يضعَنا في الصورة مُسبقاً ، وأن يستنفرَ وجاقه في أهبة كاملة ، بعدما عَرَفَ نية الوجاق الآخر ، المُنافس ؛ وعلى لسان آمره بالذات. نعم . كانَ على القوّاص أن يأمرَ بحَجز " آغا باقوني " ذاك ـ الذي خلفَ آغا أميني على رأس القيادة ـ وتسليم رأسه من ثمّ لمجلس العمومية بجناية الخيانة . فآمر القابيقول ، الجديد ، كانَ قد حضرَ بنفسه إلى مقرّ قشلة اليرلية ، ليجتمع مع القوّاص ، وكانَ ذلك في اليوم الذي سبق الهجوم . لقد زعمَ أمامَ منافسه بأنّ ثمة تدبيراً خفياً ، موثقا ، بين المجلس والوزير ، بوساطة من قبجي السلطان ، يقضي بالتخلص نهائياً من الأنكشارية في الولاية الشامية : " ألم يستثني فرمانُ الأمان ، العليّ ، وجاقيْنا من العفو ، حينما سمّى الآخرين ، المُستفيدين منه ؟ ألم يتقرّب آمرُ الأورطات من المجلس ، بسعي من شمّو آغا والقاروط ، ومباشرة ً بعد موت آغا أميني ؟ وهذا الأخير ، ألم يُسَمَّم في منزل الشاملي ، على كل حال ؟ " ، تساءلَ آمرُ القابيقول وهوَ يغلي بالغضب مُحرضاً الآخر على التمرّد . وإذاً ، فحينما كانَ القوّاصُ ثملاً غافلاً ، يَشحذ نصلَ ذكره على رؤى بَدَن عروسه ، الموعودة ؛ في عين الوقت ، كانَ آغا باقوني يشحذ نصل سيفه ، لكي يغرزه في ظهر المجلس . " أحقاً أنّ اسمَ " باقوني " هذا ، يَعني بالكرديّة : ريح الدّبر ؟ " ، سألني الزعيم مُتضاحكاً . لا بدّ أنها المرّة الأولى ، التي يَشيعُ فيها المرَحُ على قسمات والد ياسمينة ، منذ تلك القنبرة اللعينة ، الغادرة . نعم . كانَ أمرُ التخلص من كبير المجلس مُبيّتاً ، وخطط له بعناية بُعيْدَ ليلة الأورطات . إنّ سمْتَ مدفعية القابيقول ، المركونة في ساحة وعلى أسطح الجامع الأموي ، كانَ محسوباً بدقة ، لكي تقعَ القنابرُ فوق منزل الكبير ، في الوقت المعيّن ، المطلوب . ولكن نجا الرجلُ ، وبالمقابل ، قتلت مربية ياسمينة وخادمتها . لم يكن قد جُزمَ بعدُ ، بمصير ياسمينة. جثتان مُتفحمتان ، تماماً ، عُثرَ عليهما في جناح الحريم ؛ وقد دلت علاماتٌ ، مُعيّنة ، أنّ أحداهما كانت لمربية ياسمينة . وكانَ على روايتي للواقعة ، أو الرؤيا ، أن تعزز الرأي بأنّ الجثة الأخرى هيَ للخادمة وليسَ لسيّدتها . اليوم ، بعد مرور أكثر من جمعة على بدء الهجوم ، يُسيطر وجاقُ الأنكشارية على الشام ، بما في ذلك حَيّ سوق ساروجة ، الواقع داخل سورها ، والذي تقبع فيه مدرسة الحديث هذه ؛ أين تختفي جماعتنا . ولكنّ حَيّ الصالحية ، القابع خارج السور ، بقيَ بمنأى عن سيطرة القابيقول ، لأنه كانَ على حياده ، دوماً ، في غمرة الصراع مع الوزير . بالمقابل ، فإنّ الكثير من الأسر الكردية هجَرَتْ الميدانَ والشاغور ، في هذه الآونة ، لكي تجدَ مأوىً لها بحماية بني جلدتها ؛ هناك ، في شرق الصالحية : إنّ لقبَ " باقوني " ، إذاً ، كانَ من تركيب كرد المدينة ، المتأذين بشدّة من سيطرة الأنكشارية . ومنذ الآن ، حينما أعمّمُ كلمة " الأنكشارية " ، فإنني أعني حصراً وجاقَ القابيقول ، المُنتمي جلّ عناصره للأغراب الترك . فوجاق الأنكشارية الآخر ، اليرلية ، المُشكل أساساً من العناصر المحلية ، الشامية ، كانَ قد انتهى ، عملياً ، في حاضرتنا ؛ فسلّمَ بعضُ أنفاره وضباطه أنفسهم للخصوم ، والبعضُ الآخر لزموا بيوتهم وتخلوا عن كلّ شيء يأساً وإملاقا . هكذا ، خسرَ المجلسُ قوته الضاربَة ، بعدما سبقَ وفقدَ معظمَ أركانه ، خلال أسبوع واحد ، حَسب : ماتَ آغا أميني ، مسموماً ؛ وقتلَ الشيخ القبّان وشهبندر التجار ؛ وأضحى مصيرُ كلّ من القوّاص والعريان ، مجهولاً . أما الشاملي وعبدُ الله ، كاتبُ كلمات هذا الكناش ، فإنّ أثرَ كلّ منهما ، المفقودَ ، كانَ عليه أن ينتهي إلى سورة " العذراء " ؛ التي شاءتْ أن تؤرّث أوارَ اعتقاد الخلق ، الراسخ ، بموعد حلول القيامة ، الداني .
علاوة على وجاق القابيقول ، فإنّ جماعة أبن وهّاب ، سيكون لها شأنٌ ، مُستطير ، فيما جدّ من وقائع على رأس المدينة ، المنكوبة . هذه الجماعة ، المَشنوعة الاسم ، كانت أساساً على مذهب الحنابلة ، وقريبة بالتالي من وجاق اليرلية . إلا أنّ افتراقها عن وجاق القابيقول ، الحنفيّ المذهب ، لم يمنعها من الإنضواء تحت رايته والضرب بسيفه ، بعدما تمّ له الاستيلاء على أمور الشام . وكانت الإنكشارية ، من جهتها ، بأمسّ الحاجة لحليف كهذا ؛ لفتاوى أقطابه ووجود أتباعه في الشارع . على ذلك ، اُطلقَ يَدُ الجماعة في مَباحَة شنيعة ، شاملة ، كانَ ضحاياها من كلّ صنف ومن مختلف المراتب . كانَ أهلُ الطرُق ، ولا غرو ، على مرمى سهم أولئك الغوغاء ، الطائش . استهلّ هؤلاءُ فرعنتهم بمهاجمة تكايا وزوايا القادرية والنقشبندية ، فعاثوا فساداً في عمائرها ، وتنكيلاً بشيوخها ومريديها . إنّ موتَ صديقنا ، الشيخ القبّان ، حرقاً ، داخل زاويته في الشاغور ، كانَ على أيدي أتباع أبن وهّاب . ولكنّ الحدَث ، في حقيقته ، كان من تصاريف الفوضى ، التي أعقبَتْ ثورة العامّية ؛ ومن واردات عجز مجلسها عن ضبط الأمور وتساهله غير المُبرّر ، وغير المُغتفر ، مع أعمال الجماعة الشريرة وشططها المُتفاقم . ولكنّ خطيّة جماعة أبن وهّاب ، المُتمثلة بمحاولة القضاء على الطرق الصوفية ، ما أسرعَ أن دفعَ ثمنها الأنكشارية ؛ حينما توحّد ضدهم الأورطاتُ ـ من دالاتية ولاوند ومغاربة وبغادة ومواصلة ـ والتي ينتمي أفرادُها وقوادُها للطرق تلك ؛ وخصوصاً ، القادرية والنقشبندية . إذاك ، وضعَ هؤلاء قواتهم بأمرة شمّو آغا ؛ زعيم الصالحية . إنّ هذا الرجل ، في آخر المطاف ، كانَ له فضل ردّ أنفار القابيقول عن حيّ سوق ساروجة ، بعد استيلائهم عليه بفترة وجيزة : هنا ، في هذا الحيّ الدمشقي ، الراقي ، المَنعوت باسم " كوجك آستانة " ( آستانة الصغرى ) : يقومُ قصر القاروط ؛ الصديق المُقرّب للزعيم الكرديّ شمّو آغا. وأيضاً ، هنا تقوم مدرسة الحديث ، الكبرى ، التي يصلها نفقٌ طويل ، سرّي ، بمنزل الشاملي ؛ زعيم حيّ القنوات . من جهتي ، وعلى أثر إنصاتي للزعيم ، الذي روى لي تفاصيل ما جرى في مدينتنا من مآس ، فإنني تأثرتُ للغاية لخبر موت الشيخ القبّان ، رحمه الله . ولكنّ مصيره ، على أيّ حال ، كانَ أقلّ مأسوية من مصير رفيقه ؛ شهبندر التجار .
" والذين يكنزون الذهبَ والفضة فبشرهم بعذاب أليم " قالَ شيخ الشام ، ثمّ ألتفتَ ناحية القاضي مُبتسماً بمكر وتشفّ . فما كانَ من الآخر ، المُنتصب قربه ، إلا مبادلته المُجاملة ، الوديّة ، فأجاب مؤكداً : " إنّ حكم الشريعة في حق الشهبندر ، واضحٌ ومُبرَم " . وكانَ السوقُ ، الطويل ، الحافلُ بالخلق من تجار وباعة وحرفيين ومُشترين وجوالين ، قد شهدَ قبل ذلكَ منظراً مؤثراً ، نادراً بحق . فالشهبندر ، الرثّ الهيئة والشكل ، كانَ عندئذ قد أخرجَ بالقوّة من مقره عمله ، الرخيّ ، ليقدمَ ذليلاً مُهاناً آية خضوعه للأنكشارية ، حتى أنه شالَ عمامته عن رأسه ورماها أرضاً أمام قدَميْ آمرهم ، هاتفاً بخضوع : " مالي ومتاعي ، جميعاً ، بتصرف من يحمي تجارتنا وأهلنا " " إنّ مالكَ ومتاعكَ ميسورٌ لنا ، فلا حاجة بكَ لتجشم العناء بهذا الشأن " ، أجابه الطاغية ، آغا باقوني ، مُكشراً عن أسنان مسودّة ، صدئة . وأضافَ قائلاً : " ولكنّ رأسكَ ، الكبير ، هوَ ما نحتاجه في واقع الحال " . و أخيراً ، حينما سيقَ شهبندرُ التجار ، عاريَ الصدر مغلولاً بالحديد ، إلى دكان الجزار ، لكي يُذبَح خارجه كالنعاج ، فإنه ما لبث أن أستعادَ نفحة من الكرامة والأنفة . التفتَ الرجلُ نحوَ الجهة تلك ، التي يقف عندها كلّ من الشيخ والقاضي والأنكشاري ، وصاحَ فيهم بصوت مُصمّ ، سَمعته الشام كلها : " يا أصحاب السيادة والسماحة والفضيلة ، أنّ كفي فاضَ خيراً على أهل السوق . فليكن بعلمكم ، يا جهلة ، إنّ كنزَ ذهبي وفضتي ، الذي تتهمونني به ، قد دفعتُ زكاته ذهباً وفضة . أما أنتم ، يا من تنيكونَ نساءكم كما يُناك الغلمانُ ، فقد دفعتم الزكاة برازاً ومنياً ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفصل الثالث : مَنأى
-
الرواية : مَهوى 11
-
الرواية : مَهوى 10
-
الرواية : مَهوى 9
-
الرواية : مَهوى 8
-
الرواية : مَهوى 7
-
الرواية : مَهوى 6
-
الرواية : مَهوى 5
-
الرواية : مَهوى 4
-
الرواية : مَهوى 3
-
الرواية 2
-
الرواية : مَهوى
-
الأولى والآخرة : مَرقى 13
-
الأولى والآخرة : مَرقى 12
-
الأولى والآخرة : مَرقى 11
-
الأولى والآخرة : مَرقى 10
-
الأولى والآخرة : مَرقى 9
-
الأولى والآخرة : مَرقى 8
-
الأولى والآخرة : مَرقى 7
-
الأولى والآخرة : مَرقى 6
المزيد.....
-
تحية لروح الكاتب فؤاد حميرة.. إضاءات عبثية على مفردات الحياة
...
-
الكاتب المسرحي الإسرائيلي يهوشع سوبول: التعصب ورم خبيث يهدد
...
-
من قال إن الفكر لا يقتل؟ قصة عبد الرحمن الكواكبي صاحب -طبائع
...
-
أروى صالح.. صوت انتحر حين صمت الجميع
-
السعودية تخطط لشراء 48 فدانا في مصر لإقامة مدينة ترفيهية
-
هل يشهد العالم -انحسار القوة الأميركية-؟ تحليل فالرشتاين يكش
...
-
التمثيل النقابي والبحث عن دور مفقود
-
الفنان التونسي محمد علي بالحارث.. صوت درامي امتد نصف قرن
-
تسمية مصارعة جديدة باسم نجمة أفلام إباحية عن طريق الخطأ يثير
...
-
سفارة روسيا في باكو تؤكد إجلاء المخرج بوندارتشوك وطاقمه السي
...
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|