أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى















المزيد.....

الفصل الثالث : مَنأى


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2998 - 2010 / 5 / 7 - 04:28
المحور: الادب والفن
    


إنّ ما أقصّه هنا ، في كناش تذكرتي ، لن يقرأه أحدٌ غيري ، والله اعلم .
مضى نحو العام ، وأنا مقيمٌ في جزيرة الأروام هذه ، الكبرى ؛ مُسَرْغنٌ في واقع الحال . ولكنّ منفايَ ، الاختياريّ ، بدأ حقيقة ً قبل ذلكَ بسبعة عشر عاماً : مَضيتُ في سفارة ، سرّية ، إلى " جزيرة " أخرى ؛ هيَ بوطان ، التي كانت تختَ إمارة بدرخان باشا ؛ حاكم كردستان ، السابق . كنتُ وقتئذ على خطل الظنّ ، بأنّ سفارتي تلك ستكون مهمّة سهلة ً، نوعاً ـ كحال سابقتيْها في جبل لبنان ومصر ـ وأنها لن تستغرق أكثرَ من بضعة شهور . إلا أنّ هذا ، حديثٌ آخر .
وإذاً فالواقعة ، العجيبة ، التي سأقصّها الآن ، لن يُصدّقها من لم يكن مؤمناً بعقيدة محمّد ؛ على فرَض أنّ تذكرتي هذه ، العتيدة ، وقعتْ بين يديه وكانَ يُجيد العربية . إلا أنني مطمأنّ لحقيقة أخرى ، اختبرتها بنفسي ؛ وهيَ أنّ الحكاية قد اكتسَبَتْ المصداقية من لدن أغلب العامّة والخاصّة ، عندما أضحَتْ الشامَ الشريف قبلة ً لكلّ من كانَ يسعى للقاء وجه ربّه ، عند ساعة القيامة ، القريبة ؛ لكلّ من كانَ يوقنُ ، حقا ، بأنها مدينة الله وجنة الأولى والآخرة . نعم . لقد جرى الأمرُ ثمة ، في قبو منزل الشاملي ، لحظة هممتُ وإياهُ بمغادرته خللَ الممرّ ذاك ، السرّي . وكانَ المُضيف ، من جهته ، شاهداً على مستهلّ الواقعة ، على الأقل .
فحينما نطقَ آخرَ مفردات عبارته ، لحظ هوَ أنّ وجهي بدا على منقلب مُلغز ، مُحيّر ، وقد تناوبته ،على التوالي ، ألوان الصفرة والحمرة والزرقة . من ناحيتي ، أتذكرُ أنّ دفقا دموياً ، غزيراً ، كان لحظتئذ آخذاً بالتصاعد من قلبي ليغمرَ من ثمّ دماغي .
" لن يتبعنا أهلكَ ، إذاً . آه ، تذكرتُ أنّ هذا يوم جمعة ؛ ولا يجوز مُخالفة شرط عقد النكاح " ، خاطبتُ الزعيمَ باستهتار وكنتُ أشعرُ بأنني في بدء بحران لا حدّ له . إذاك ، رشقني الرجلُ بنظرة صارمة ومُشفقة ، في آن . ثمّ ما لبث أن كظمَ مشاعره وقال لي برويّة : " دَع عنكَ القولَ ، يا آغا . هيا لنلحق بجماعتنا قبل أن يفوتَ الوقتُ "
" وإذاً لم يفت الوقتُ ، بَعْدُ . فاصعَدْ إلى فوق ؛ إلى الحَرَمْلك ، لكي تنقذ أبنتكَ من براثن القاتل "
" إنكَ تهذي ، يا رجل "
" إنه هوَ من دسَّ السمّ لآغا القابيقول ؛ إنه من ذبحَ وصيفك ، أيها الزعيم "
" عليهما اللعنة ، معاً . فليكن مصيرهما جهنم وبئس المصير "
" ألا تريدُ أن تعرفَ حقيقة من سَرَق كتابكَ وغدَرَ بكَ في بيتكَ ؟ " ، قلتها بإصرار ثمّ اتجهتُ فجأة نحوَ الباب ذاك ، المُفضي للحرملك لأردف القولَ " أفتح البابَ لأبنتكَ ؛ أفتح البابَ لكي يخرجَ منه روحُ الله " .

ويتذكرُ الزعيم ، بأنني حالما مَسَستُ البابَ ، فقد رحتُ أترنح هنا وهناك ، إلى أن سقطتُ أرضاً . كانَ هوَ يحملُ كيسَ مُدخراته ، الثمين ، وعلى ذلكَ هُرعَ بأثر الآخرين طلباً للنجدة . بَيْدَ أنّ ما أذكره ، من ناحيتي ، كانَ مُختلفاً ولا شك . فلما صرتُ عند الباب ، الموصَد ، خيّل إليّ أنّ ثمة من يقف خلفه . ألتفتُ نحوَ المُضيف ، لكي أحثه ثانية ً على فتح سبيل روح الله ، وإذا به قد اختفى في غلسة ممرّ النجاة . في اللحظة نفسها ، إذا بيد تطرقُ البابَ بإلحاح. فمَيّزتُ بوضوح صوتَ مَعبودتي ، المتضرّع . لحسن الفأل ، كانَ والدها قد نسيَ المفتاحَ في موضعه ، فقمتُ إليه من فوري وعالجتُ به القفلَ . ما أن صرنا وجهاً لوجه ، حتى رَمَتْ ياسمينة نفسها عليّ وكانت تنشجُ بصوت عال . ضممتها بقوّة الشوق والتوق ـ كأنما هيَ أملٌ وحيدٌ على الأرض . أعضاؤنا لحَمَها العناقُ وشفاهنا أذابها الرشفُ . إنها المرة الأولى ، والأخيرة على كلّ حال ، التي يُتاح لنا فيها نعمة الضمّ ، والشمّ ، واللمْس ، والبَوس ، والعَض ، والقرْص ، والهَرش ، والمصّ ، والنيْك ؛ وأيضاً المُناغاة ، والمُناجاة ، والمؤانسة ، والمُداعبة ، والمُفاحشة .. وكلّ ما في قاموس الشهوة ، السرّي ، من مفردات وأفعال .
" يا حبيبي ، بحياتي عندكَ . دََعَني ألاعب أعضائي بهذا العضو "، قالتها برجاء وإغراء . رأيتني ، على خلاف المرة السابقة ، في مًساهلة بيّنة أمامَ رغبتها التلهي بالذكر ذاك ، المُصنع . كانت الآن مُستلقية ً فوق العتبَة ، المُحَجّرَة ، في ألق عريها ، الصاعق ، المَبْذول عضواً عضواً لوثن المُتعة ، الروميّ ، المَشغول من خشب مصقول بحذق وإتقان . من جعبة لحاظ عينيْها الأخاذتيْن ، الساحرَتيْن ، كانت إذاك تريَشُ نحوي السهمَ تلو الاخر ، فيما فمها المُنمَنم ، الزهريّ الشفتيْن ، كانَ يفتح بين حين وحين على أصوات آهاتها وتأوهاتها وتنهداتها وصرخاتها . حتى إذا جُننتُ غيرة ً من ذلك الغريم ، المَصنوع ،
فإنني هُرعتُ نحوها لأنتشلها بيدَيْ الرجولة ، القويتيْن ، فأرفعها في الهواء ثمّ أحطها من بعد في حجري . إذاك ، كانَ كلّ من جسدها المُثير ، المَسكوب من إبريز وفضة ، وشعرها المَحلول ، المدلوق من عسل وشهد ، يفترش لحمَ جَسَدي ، العاري . وإذا بنا نباغتُ بوقع أقدام ، هيّن ، آخذ بالطرق على درجات السلم ، الحجريّ ، الموصول بمدخل الحَرَمْلك . كانَ ما أبصرته ، من ثمّ ، على شيء من الهَوْل ، حتى أنني لم أكد أصدّق عينيّ .

" أنتَ هنا ، أيها الغلام ، وأنا أبحثُ عنكَ فوق في حجرتكَ ؟ "
توجهت المرأة نحوَ ياسمينة بقولها ؛ بفحيح صوتها ، المُرعب . للوهلة الأولى ، كانَ قد خيّلَ لوهمي أنها المُربية ، العجوز ، من تراءى إلينا عند عتبة ذلك الباب . إلا أنّ نور الشمسيّة ، الخافت ، ما عتمَ أن جلا منظرَ المرأة ، المَجهولة . كانت كاملة الوجه والبدن ، زرقاء العينين . فما لبثَ داخلي أن هتف مروّعاً : " إنها الجنيّة ، خصْمُ الصّبْيان ؛ إنها التابعَة " . لقد تذكرتُ بلمحَة ما قرأته ، مرة َ، عن وصف هذه الغول ، التي صادفها رسولُ الله في أحدى الليالي ، فلعنها ووعدها بنار السّعير . نعم . إنها هنا ، الآنَ . ولكنني فكرتُ عندئذ ، مُطمئناً نوعاً ، أنّ الأمرَ أشكلَ على الجنية ؛ حينما تاهتْ في أنحاء المنزل بحثاً عن بغيَتها . أما ياسمينة ، فكانت في حال عَدَم من الفرَق والارتياع والترقب ـ كأنما تنصتُ إلى داعي المَنيّة وهوَ يهمّ بنعي خبَرَها . بحركة عفوية ، مدّتْ فتاتي يدها إلى ثوبها الحريريّ ، الرهيف ، المُلقى إلى جانب فسَترَت جسدها به ، ثمّ خاطبَتْ الغول بصوت ضعيف ، واهن : " أنظري ، يا سيّدتي . أنا لستُ غلاماً ؛ بل امرأة "
" أعرف ذلك ، يا حمقاء . إنني كنتُ أتحدّث مع أبنك وليسَ معك " ، فحّتْ الجنية مُجدداً وكانت ترمي بطنَ ياسمينة بشرر أزرق من حدَقتيْها الشريرتيْن . ما يُنكي ، أنّ وجودي لم يكن يعني شيئاً لهذه المخلوق ، المسخ ؛ أو أنها عَميَتْ عنه لسبب ما . وعادتْ الفتاة تتوسّل مُنتحبة ً: " دَعيني ألده ، أولاً ؛ فهوَ روحُ الله " . فما أن سَمعَتْ الشريرة اسم الخالق جلّ وعلا ،حتى فارقتْ هدوءها إلى منقلب طائش ، لا يُحمَدُ عقباه . إذاك ، انقضتْ على ياسمينة ، المسكينة ، فأمسكتْ يَديْها وصارتْ تكتفهما ، ثمّ سَحَبَتْ الثوبَ وشرَعَت تقمّطها به . من جهتي ، كنتُ مشلولَ الإرادة ، مسلوبَ الفكر ، مُكوّماً على عريي بالقرب من بقعة صراع المَصير هذا . ولكنّ مَولانا ، قدّسَ سرّه ، كانَ ثمة ، إلى الأخير ؛ وأجازَ لي بعلامة من حضوره : وكانَ الخاتمُ ، في بنصر يدي اليمنى ، هوَ العلامة ، المَطلوبة . لقد استعدتُ وعيي بلمحَة ، فتذكرتُ أنّ السيوطي ، في مؤلفه " كتاب الرحمة " ، أوحى بطريقة نجاة ، وحيدة ، للخلاص من براثن التابعًة .

" أواه ، عيني . أواه ، ماذا فعلت يا فاجرة ؟ "
صرختْ الجنية برعد صوتها ، الهادر والمُرعب . تأكدتُ إذاً من أنها لم تلحظ وجودي ؛ ولغاية في نفسه سبحانه وتعالى . وكنتُ قد تناولتُ الذكرَ الخشبيّ ، المُهمل أرضاً ، فهويتُ به بضربة قوية ، ماحقة ، على مكمن السّحْر ، الأزرق ؛ على عيني الغول . برأس الذكر ، المُدبّب ـ كنصل سيف رومانيّ ـ طعنتُ أولاً العينَ اليسرى ، ثمّ سحَبته بلمحَة وثنيتُ على العين الأخرى . " هيا ، لنفرّ من هنا " ، هتفتُ بحبيبتي في اللحظة التالية . وكانت الجنيّة ، عمياءَ ومَسعورة ، قد أفلتتْ الفتاة من يديها وأخت تصرخ وهيَ تشدّ بكفيها على العينيْن ، المَدميتيْن : " تعالَ يا أخي شمْهورَش ؛ تعالَ يا قاضي الجنّ وخذ بحَيْفي من هذه البغي ". كنتُ وفتاتي في الممرّ السرّي ، المُعتم ، نركضُ بأقصى سرعة أقدامنا ،عندما سَمعنا خلفنا ما يُشبه دمدمَة ، مُزمجرَة ، لدابّة ما ، مفترسَة ، تجري بأثرنا . وبما أنني كنتُ لا مرئياً لجماعة الجنّ ، فإنني حثثتُ ياسمينة أن تواصلَ ركضها وألا تلتفتَ خلفها .
" وداعاً ، يا حبيبي . ربما نلتقي ثمة ، في الحياة الآخرة . لا تفرّط بالكناش ، وعشْ سعيداً " ، كانَ هذا ، ويا للحَسْرَة ، آخر كلمات الحبيبة ، المَعبودَة ؛ وبالتالي ، آخر عهدي بها في الحياة الأولى . فما أن غابَ صوتها ، حتى تجسّمَ قاضي الجنّ ذاك ، بهيئة آدمية ، فحاذاني دون أن يلمَحَني فيما كان يهرولُ نحوَ هدفه. إلى ظهر هذا المَخلوق ، المسخ ، قذفتُ خاتمَ النجاة رأساً وبكلّ توقي لإنقاذ ياسمينتي . ترنحَ الغولُ ، وما لبثَ أن وقعَ أرضاً . وكنتُ بدوري قد حاذيته راكضاً بأنفاس لاهثة ، متقطعة ، فالتقطتُ خاتمي بهداية بصيص من نوره ، القدسيّ ، ثمّ تابعتُ الجَري . " الشكرُ لله " ، صرتُ أرددُ في سرّي لازمَة المؤمن في كلّ حين . حتى إذا بدا لي أنني وصلتُ إلى نهاية الممرّ ، فقد فاجأني ثمة مرأى طرق أربع . كلّ من تلك الطرق ، كما تأكدَ لعينيّ ، كان عبارة عن ممرّ بدوره ، أضيقَ قليلاً من الممر الأصل ، وكان يؤدي إلى جهة مختلفة عن الأخرى .
" آه ، إنها المَتاهة " ، ندّتْ عني بنفخة قنوط . ولكن ، يا لسَعد من يكون شيخه حليفاً . إذ كانت هناك ، في سقف النفق ، كوى مُضاءة بشمس النهار ، الساطعة . عند ذلك لحظتُ كتابة بالعربية ، منقوشة ضمن إطار حجريّ ، مثبّت عند مدخل كل ممرّ : " الوزير " لليافطة الأولى ؛ " القاتل " للثانية ؛ " الكتاب " للثالثة ؛ و" ياسمينة " للرابعة . هنا ، عند هذه اليافطة ، الأخيرة ، راوحتُ قدميّ وأنا في منقلب الحال من الأمل إلى اليأس . نعم . كان مدخل ممرّ ياسمينتي مَسدوداً بجدار زجاجيّ ، مُصمّت ، لا يكاد يُرى . وكنتُ قد حاولتُ عبثاً ، بمعونة الخاتم وبدونها ، أن أخترقَ حُجُبَ هذا العائق ، الطاريء . أشتعلَ غضبي مرارة ً ، فإذا بي أقذف بالخاتم إلى الخلف . عندئذ ، حَدَثٌ أمرٌ آخر ، عجبٌ ، يَمتّ لعجائب هذا اليوم ، المًستطير . فقد بَرَقَ فوقي سقفُ الممرّ ، المُجَذع برقائق الخشب ، ثمّ أعقبَ ذلك دويّ مُرعد . مُباغتاً ، ألتفتّ إلى وراء لأجدَ الممر الثالث ، المُحاذي ، مُناراً بضوء ساطع ، مُبهر : وكانَ كناش الشيخ ، البرزنجي ، هناك في صدر المكان ذاك ؛ الذي بدا بسقفه المُرتفع ، المُزخرف ، وباتساع باحته ، المُرخمَة ـ كما لو أنه قاعة مكتبة ، رَحبَة ، في منزل أحد السّراة . كانَ الطريق مفتوحاً ، ميسوراً ، فاتجهتْ نحوَ كتابي بتصميم وثقة وجسارة .

" أفتح البابَ لأبنتكَ ؛ أفتح البابَ لكي يخرجَ منه روحُ الله "
هكذا كنتُ قد خاطبتُ الزعيم ، عندما همّ بتركي وحيداً عند مدخل الممرّ ذاك ، السرّي . وفيما بعد ، حينما سيذاعُ على الملأ خبرُ الواقعة ، فإنّ اسمَ ياسمينة حذفَ منه ببساطة . وكانَ ذلك لسببيْن ، كما قدّرتُ ؛ أولهما ، أننا مسلمون ، عثمانيون ، ولا مكانَ للأنثى ، باعتقادنا ، في أصل النبوّة ؛ وثانيهما ، أنّ رمزَ " العذراء " ، كان يوحي لنا بعقيدة أهل الصلبوت ، الكفار .
وعلى كلّ حال ، فإنّ بعضَ أتباع الأرفاض ، من الشيعة الغاليَة ، زحفوا إلى لقائي آنذاك بوهم أنني " الباب " ؛ أنني المُنذرُ بظهور من يؤمنونَ بأنه الغائب ، المُنتظر . أما أخواننا ، السنة ، فإنهم على اختلاف فرقهم ومذاهبهم قد أجمعوا على الاعتقاد ، يقيناً ، بأنّ روح الله ، المُبَشَّر بوراثة الأرض ، إن هوَ إلا الخضر عليه السلام .
وليغفر الربّ لهذا العبد ، الذي يخط كلماته هنا ، إذا أعتقدَ ، بدوره ، أنه التقى البشارة في مكان آخر ، غير الشام . وسأذكرُ نتفاً من اللقاء ، الذي حصلَ هناك ، في الآستانة . فقبل عام مضى ، كنتُ في قصر الأمير بدرخان ، حينما دخلَ علينا رجلٌ أربعينيّ ، مكتس بملابس خضراء ، وكانَ النورُ يتلألأ في قسماته الدقيقة ، البهيّة . آنذاك ، كانَ الأميرُ ينتظر قرارَ سَرْغنته ، بعدما حصلَ على عفو مولانا السلطان ، وكانَ قصرُهُ مَحَجََّ كثيرين من أبناء قومه ؛ من المقيمين في تخت السلطنة ، خصوصاً . كانَ من زواره الوجهاءُ والملاكُ والضباط وموظفو الدولة ، الكبار . وأيضاً كان بينهم الفقراءُ ، من حرفيين وحمالين وموسيقيين ومطربين وشعراء . من هذه الفئة ، الأخيرة ، كانَ ذاكَ الرجل ، الأخضر ـ كما قدّم نفسه . لقد حَمَلَ الشاعرُ هديّة لأميره ؛ نسخة من مجموعة قصائده ، التي كانَ ينوي طباعتها في العاصمة ، والمُتصدّرة بهذا العنوان ، " ديوان نالي " .
" إنّ اسمَ الكتاب ، ولا غرو ، يُنبي بأنّ صاحبه في حال من الجَوَى والألم " ، توجّه الأميرُ إلى الضيف بنبرَة وديّة ، دافئة . صوت الشاعرُ ، كانَ عميقاً بحق ، وكأنما صادرٌ من أغوار مغارة ، مُستحيلة . وبهذا الصوت ، ردّ على تحيّة مُضيفه بالقول : " إنه اسمُ خادمكم ، يا سيّدي ". ولقد أكرمَ الضيفُ ، كما كانَ شأنُ بقية ضيوف القصر ، ثمّ أنصرفَ إلى حال سبيله . وكنتُ في تلك الأثناء قد تحادثتُ مع الرجل بلهجته، المميزة ؛ بما أنني أنحدرُ ، مثله سواءً بسواء ، من أحدى قصبات إمارة بابان . وعلمتُ منه أنه سبق وزارَ الشام ، عقب خروج المصريين منها ، وأنها كانت وقتئذ من سوء الحال، أنّ أهلها كانوا على يقين بقرب القيامة ، وينتظرون نذيرها . وطالما أنّ الشاعرَ كانَ مُريداً ، نقشبندياً ، فقد وجَدَ مأوىً في أحدى حجرات تكية مولانا ، الجاثمة في سفح جبل الصالحية ، فبقيَ هناك حوالي ثلاثة أعوام . هذا ما كانَ من أمره في الشام . أما هنا ، في الآستانة ، فما مضى أسبوعٌ على الأثر ، إلا والعيون تنتشر في أنحاء المدينة ، بحثاً عن ذلك الشاعر." إنّ لهذا الديوان شأناً خطيراً ، في قادم الأيام ؛ إنه سيكونُ قرآنَ الكرد " ، هتفَ الأميرُ بنبوءته لحاشيَة مجلسه . من جهتي ، كنتُ أكثر اهتماماً بأمر آخر ، عرفته تواً ؛ وهوَ أنّ اسمَ الشاعر ، الحقيقي ، كان " الخضرُ ".

> مستهل الفصل الثالث من رواية " الأولى والآخرة " ..



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7
- الرواية : مَهوى 6
- الرواية : مَهوى 5
- الرواية : مَهوى 4
- الرواية : مَهوى 3
- الرواية 2
- الرواية : مَهوى
- الأولى والآخرة : مَرقى 13
- الأولى والآخرة : مَرقى 12
- الأولى والآخرة : مَرقى 11
- الأولى والآخرة : مَرقى 10
- الأولى والآخرة : مَرقى 9
- الأولى والآخرة : مَرقى 8
- الأولى والآخرة : مَرقى 7
- الأولى والآخرة : مَرقى 6
- الأولى والآخرة : مَرقى 5


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى