أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : صراط















المزيد.....


الأولى والآخرة : صراط


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3013 - 2010 / 5 / 24 - 16:45
المحور: الادب والفن
    


" لو ملكَ المنافقون ، لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك "
قالَ سماحة شيخ الشام ، ثمّ أردَف " هكدا يقول الرسول عليه الصلاة والسلام ، في حديث مُثبت " . من ناحيتي ، يتوجّبُ عليّ الإشارة هنا ، بأنني أعني سراج العابدين بصفة " شيخ الشام " ؛ بمعنى أنه من النافل ، بعدَ الآن ، أن أكرر في كلّ مرة كلمة " الجديد " . أما سلفه ـ ذلك الوهّابي ـ فلن نتجاهل صفته ، حينما يكون علينا العودة بالحكاية لما سلفَ من وقائع . وفي حقيقة الحال ، فلم يخفَ عليّ أنّ سراج العابدين ، في ذكره للحديث الشريف ، إنما كانَ يقصد أولئك الوهّابيين بالذات . أكتبُ ذلك ، لأنّ سماحته لم يستطرد القولَ بالشرح والتفصيل . هذا ، لعمري ، دَيْدَنُ أهل الطريقة من نقشبنديين وأضرابهم .
" ولكنّ فرحة الخلق ، الذين غمَروا طرقات الحيّ في هذا اليوم ، المَشهود ، لدليلٌ على قلة المنافقين وخسرانهم المُبين " ، قالَ الشاملي في تعقيبه على كلام سماحة الشيخ . بدا الإرتياحُ على وجوه الحاضرين ؛ إذا ما استثنينا صديقي ، العريان . فإنّ ملامحه أفصحَتْ عن الضيق ، مُمهّدة لما سيفاجأ به الآخرين من قول : " إنّ الدودَ يَنخرُ الشجرة من أصلها ، لا من خارجها " . وكانَ عليه الاستطرادَ ، تحتَ وقع إلحاح العيون المُتسائلة : " أجل ، أيها الأفاضل . لقد تمكنَ المنافقون من الأمر ، بسبب عجز مجلس العمومية وعدم كفاءة قوّتها "
" أتمنى منكَ ، أيها المحترم ، أن توضحَ ما تعنيه بعجز المجلس وضعفه ؟ " ، إنبرى قوّاص آغا للردّ بعصبية ملحوظة . إلا أنّ الصمتَ ، المتوتر ، شاءَ أن يكونَ الجواب . على ذلك ، وجدتها سانحة ً ، مناسبَة ، للتفكر بمغزى تجاهل كبير العمارة لمقام شيخ الشام ؛ طالما أنه ابتدهَ قوله بمخاطبة العموم . بَيْدَ أنّ صمتَ العريان ، المُبيّت النيّة ، لم يستمرّ مطولاً . حدّقَ في عينيْ مُجادله ، ثمّ أجابه بنبرَة فيها بعض التهكم : " لعلكَ ، يا آغا ، أدرى الجميع بمقصد القول . أمْ أنّ خسارتنا المدينة برمّتها ، في يوم واحد حَسْب ، لا يعني لكَ شيئاً كثيراً ؟ ". انتفضَ مُغضباً آمرُ اليرلية ، السابق ، حتى كادَ أن يَرمي فنجانَ القهوة من يده . كانَ الرجلُ الآنَ مُستقيماً بجذعه وكأنه على نيّة النهوض من مكانه ، حينما بادرَ كبيرُ الأعيان للتدخل ، مُهدئاً . كبيرة الحافظات ، حِشمَة ًوذوقاً منها ، كانَ قد سَبَقَ لها الانسحاب من المكان ، ومباشرة ً عقب انتهاء الوليمة . وعلى ذلك ، أشارَ الشاملي بيده نحوَ الخدم ، يأمرهم بالانصراف أيضاً .

" على رسلكم ؛ أيها الوجهاء ، الأكارم "
شرَعَ الكبيرُ القولَ بهدوء ، منقلاً بصرَه بين المُتخاصمَيْن . ثمّ أعقبَ : " علينا الركون لسعة الَصَدر وألا نسمحَ للفرقة بعدُ ، بأنْ تجدَ لها مكاناً بيننا . كما أنه علينا أن نتبيّنَ ، بتبصّر وتعقل ، هذه الحقيقة المُهمّة ؛ ألا وهيَ حظوتنا بالمباركة والتأييد من لدن سماحة الشيخ وزعيم الصالحية وآمر الأورطات " . هؤلاء الأخيرين ، كانوا يَمنحونَ الشاملي آيات تأييدهم وتعاطفهم ، حينما وجدتها فرصة للتدخل ، بدوري ، في المُجادلة . عندئذ لم أجز لنفسي أن تبدوَ كظهير ، مُتجلّ ، لأحد من المُتخاصمَيْن ـ فقلتُ بلهجة ودّية : " لنشكر الله ، قبل كلّ شيء ، على سلامة صديقينا ، المُبجليْن ؛ الآغا العريان وقوّاص آغا . أمّا بالنسبة لحظوتنا بحضور السادة الأفاضل ، الآخرين ، فإنّ كبيرَ المجلس كانَ لسان حالنا ؛ بالتعبير عن السعادة والامتنان " . ثمّ أضفتُ باللهجة ذاتها : " رحمَ الله صديقيْنا ، الشيخ القبّان وشهبندر التجار . وليعوّضنا ، جلّ وعلا ، عن خسارة فقدانهما . وعلى هذا ، أسمحُ لنفسي بالتفاؤل خيراً ، بحقيقة وجود من ذكرهم الكبيرُ بيننا ، ليسَ فقط كمؤيدين للمجلس ؛ بل وأيضاً كمُشاركين ، فعالين ، في عمله " . ضاعفَ كلامي ، كما حقّ لي أن أقدّر ، من مساحة الإنفراج والتساهل والإعتدال . ها هوَ سماحة الشيخ ، مُتبسّماً باقتضاب ، يُعاود الإمساك بأعنة الحديث ، فيقولُ مُشيراً باحتفاء لناحية القاروط : " وعلينا ألا ننسى ، أيضاً ، وجودَ سعادة أحمد بك ، بيننا . إنّ أصلَ سعادته من الشام ؛ من أرومة معروفة ، أصيلة . وإذاً ، فليكن أحمد بك بديلاً لي ، هنا ـ كأحد أعمدة المجلس . فأنتم أدرى ، يا أخوتي ، بما يُحتمه عليّ من موقف ، مُحايد ، هذا المنصبُ ، الجديدُ ؛ الذي شرفني به جلالة السلطان ، نصره الله " . وقلتُ في سرّي ، ساخراً : " هوَ ذا ، يا صاحبي ، أوّلُ الهاربين ؛ فلنرَ كيفَ سيتملّص سعادة البك ، المصريّ ، من المأزق " . ولكنّ هذا الأخير ، بصفة دهائه التي لا تقل تأصلاً ، شاءَ أن يُخيّبَ سوءَ مظنتي .

" عليّ أولاً ، ولا ريب ، أن أحمدَ الله على حظوة التشرّف بمجالسة وجهاء الشام "
قالَ القاروط شاملاً الحضورَ بنظرة وادعة ، مُحتفلة ، من حدقتيْ عينيْه ، النفاذتيْن . واستطردَ من ثمّ على الإيقاع عينه : " أظنّ أنّ المُتواجدين في هذا المكان ، المقدّس ـ وعلى رأسهم سماحة الشيخ وكبير المجلس ـ أعلمُ بوضعي ومسلكي . وإذاً ، فليسَ من شيمتي ، أبداً ، التخلف عن أداء الواجب ، إخلاصاً لمدينتي ومسقط رأسي ، إذا ما طلبَ مني ذلكَ كبارُ أعيانها " . وحُبيَ مجلسُ العمومية ، أيضاً ، بحفاوة مماثلة ، من شمو آغا وآغا أميني . فقد بادرَ كلّ مهما ، وعلى التوالي ، إلى التعبير عن إخلاصه للمجلس والرغبة بالانضواء تحت رايته . نعم . لقد أضحى للعمومية راية خاصّة ، بشكل هلال أخضر على خلفية بلون الدّم ، القاني . ومنذ الغدّ ، من المفترض أن يُرفع بيرقنا هذا على أعلى العمائر ، الرسمية ، في المناطق الخاضعة لسلطة المجلس : كانَ القاروط ، بالذات ، هوَ من اقترحَ علينا الفكرة . وقالَ في بيان جوازها ، أنّ ولايات أخرى ـ مثل مصر وجبل لبنان ـ تملك راياتها الخاصة ، المُنسجمة برموزها وألوانها مع راية الخلافة العلية ، الهمايونية .
" إنّ كلاً من تلك الولايتيْن ، المذكورتيْن ، لا يكادُ يَرتبط بالدولة سوى إسماً حَسْب " ، قالَ سماحة الشيخ مُلاحظاً . من جهتي ، رأيتُ أنّ الرجلَ متحفظ على فكرة الراية ، إلا أنه بدا أكثر حرصاً على صداقة من اقترحَ بدعتها . هذه الملاحظة ، العارضة ، التي أبداها الشيخ النقشبندي ، قدّر لها أن تكونَ مدعاة لفكرة أخرى ، أدهى وأخطر .
ما أن فرغنا من أسباب الجدَل ، حتى تناولَ الشاملي جرساً صغيراً ، كان إلى جانبه ، فهزّه عدة مرات طالباً إلى حضرته المملوكَ الروميّ ؛ الذي كانَ يُشرف على شؤون الأمسية . ثمّ توالى ، على الأثر ، حضورُ الخدم الآخرين ، المُحمّلين بالمزيد من أطباق الحلوى ولوازم القهوة . حالما انسحبَ القائمون على خدمتنا ، ظهرَ كبيرُ الأعيان ـ لنظري على الأقل ـ وكما لو أنّ أمراً ما ، جللاً ، يشغلُ داخله ويودّ أن يُفضي به للتوّ .

" ما ذكره سماحة الشيخ ، عن شبهة الاستقلال عن الدولة ، كانَ بمحله "
ابتدأ الشاملي الكلام ، وأضافَ من ثمّ بنبرة أخرى ، خافتة الجرْس " إنّ كلاً من مصر وجبل لبنان ، كما هوَ معلوم لنا ، يَحظى بوضع خاص ، متفاضل عن الولايات الأخرى . ربّ قائل ، أنّ تفسير الأمر يعود لنأي الولايتيْن عن مركز الخلافة ؛ الكائن في الآستانة ، العليّة . إنّ هذا ولا غرو ، قولٌ صائبٌ . إلا أنّ أمراً آخر ، على جانب كبير من الأهمية هوَ ، على بساطة رأيي ، مكمنُ تميّز إمارتيْ مصر وجبل لبنان ، وأيضاً سببُ ازدهارهما ورفعتهما : إنه تفرّد الحاكم ، هنا وهناك ، بشؤون ولايته . فلقد قضى عزيزُ مصر على المماليك وأبطلَ مركز قوتهم ، نهائياً . وهذا كانَ أيضاً حالُ الأمير بشير ؛ الذي تخلص من منافسيه ، أو جعلهم بلا حول ولا قوة " . سكتَ الزعيمُ ، وقد بدا أنه يأخذ أنفاساً جديدة ، استعداداً لإكمال فكرته . وما لبثَ أن أضافَ بالنبرة نفسها ، الأشبه بالهمس : " إنّ آغا باقوني ، الطاغية ، يريدُ تثبيتَ ذاته كحاكم على الولاية ، أوحَدٍ ، عن طريق الإتصال بممثلي الدول الأجنبية ، المعادية لجلالة السلطان المعظم . ولكي نقطع نحنُ طريقَ ذاك الدّعي ، علينا بدورنا أن نتعاونَ مع أصدقاء أقوياء ، مرهوبين الجانب ومخلصين للدولة في آن " .
صديقي العريان ، الذي كانَ مُسترخياً في استلقاءته بالقرب مني ، كانَ هوَ المُبادر للاستفهام من المُتحدّث ، عن ماهيّة أولئك الأصدقاء ، المَوْصوفين . فأجابه الشاملي بدون تردد : " إنني كنتُ أعنيهما ، هما ؛ الأمير بشير وعزيز مصر " . حينما لمُ يبدِ العريانُ امارة ً على نيّته في التعقيب ، فإنّ الشيخ النقشبندي راحَ يتنحنحُ بشكل ظاهر، ثمّ قالَ للزعيمَ بحذر : " إنّ البابَ العالي ، فيما مضى من أزمان ، لم يكن لينظر بتعاطف لأولئك الحكام ، المغامرين ؛ الذين يبدون تدخلاً في أحوال الشام الشريف ، ومهما كانت معقولة ً أسبابُهُم " . فما كانَ من الشاملي ، على دهشتي ، إلا القول بنبرَة متهكمة : " هذا حصلَ ، يا سماحة الشيخ ، عندما كانَ البابُ العالي باستطاعته التدخلَ ، بنفسه ، في أيّ مُشكل يجدّ على ولايتنا " . ما صرّحَ به الزعيمُ ، إنْ هوَ إلا حقيقة بسيطة ، يعرفها حتى عامّة الناس . ولكنه ، بالمقابل ، تصريحٌ لا يَجدرُ أن يُجاهَرُ به من كانَ بمقام مُعتبَر ، ويحملُ مسؤولية جسيمة ـ ككبير أعيان البلد . هذا الأخير ، كما سيظهر لي دوماً ، كانَ قد سبقَ له وفكرَ بالأمر بتروّ وصبر . إنّ قلبه ، في هذه الهنيهة ، كانَ يُواطىء لسانه .

شخصٌ آخر ، من الحاضرين ، كانَ آنئذ يُراقب الكبيرَ بدون مواربَة ؛ باهتمام شديد ، وبعينيْن براقتيْن : إنه القاروط . إنه لمن النادر ، حقا ، أن تفصحَ ملامحُ هذا الرجل ، الداهية ، عن مُراده. إلا أنني كنتُ أقرأ ، الآنَ ، في تلك الملامح ، مفرداتِ السرور والغبطة . لقد كانَ حرياً بي ، إذاك ، أن أتذكرَ مزاعم البك المصريّ ، الداهيَة ؛ بأنه تركَ القاهرة مُغتاظاً من تدابير حاكمها ، الموجّهة تارة ً ضد العامّة وتارة ً أخرى ضدّ الأعيان . على أنّ ذلك ، على كلّ حال ، فكرتُ فيه لاحقا ؛ في زمن تال . لأنه في تلك اللحظة ، كانَ القاروط قد بادرَ إلى تأييد الزعيم بحركة اطناب من رأسه ، وما عتمَ أن قالَ بحيوية : " وما كانَ لهما ، بشير أو العزيز ، أن يكونا بهذه القوة والمنعة ، لولا أن عمدا إلى محالفة جيران مخلصين ، أشداء " . وكادَ نصابُ التأييد أن يكتملَ ، لو أنّ العريانَ بقيَ مُتذرعاً بالصمت .
" إنه لتأويلٌ مرجوحٌ ، ما تفضلتم به من رأي ؛ بخصوص سبب قوّة هذه الولاية أو تلك الإمارة " ، استهلّ كبيرُ العمارة قوله ، ثمّ أردَفَ " إلا أنّ لكلّ بلد ظرفه الخاص . وعندي أنّ ذرّة من القوّة ، الذاتية ، لهيَ خيرٌ من قنطار من القوّة الخارجية . إننا نريدُ جيشاً موحّداً ، يضمّ في صفوفه جميع القوى المعادية للقابيقول . كذلك ، فنحن بأمسّ الحاجة للمال ، لكي نستطيع إدارة شؤون الولاية وتحسين معيشة الخلق . وحتى الإدارة ، فعلينا تحديثها وتجديدها "
" إنّ الولاية الشامية ، ومنذ نشأة السلطنة ، إعتادتْ على هذا التظيم ، العسكريّ . فلن يقبل أحدٌ من الأورطات ، أو حتى غيرهم ، أن يحلّ قوته ويذوب في جيش واحد " ، قالَ القوّاص بحزم . لقد إنتبه الجميعُ ، ولا شك ، إلى تشديده على مفردة " غيرهم " في جملته . ولكنّ ذلكَ ، للحقيقة ، ما كانَ إلا ليبعث شعور الشفقة والرثاء تجاه آمر اليرلية ؛ هوَ الذي يعلمُ ، وقبل الجميع ، أنّ وجاقه قد انتهى فعلياً ولن تعود له قائمة ، أبداً . على ذلك ، تفهمتُ ما كانَ من ابتسامة العريان ، التي رشقَ بها الآخر ، قبلَ أن يُبادر سؤاله للإجابة : " نعم ، لقد اعتادت ولايتنا على هذا التظيم . فماذا كانت النتيجة ؟ ". وفعلت الإبتسامة ، المتهكمة ، فعلها في القوّاص . لقد اصفرّ وجهه بشدّة ، حتى لكأنما دهمَه عارضٌ ما ، من مرض . من جهتي ، فقد تفكرتُ ، أولاً ، بأنّ الرجلَ ثبّط في عزمه . بيْدَ أنني ، وعلى حين فجأة ، تذكرتُ تالياً هاجسي ذاك ، المُريع ؛ عن عارض السمّ .

" إنّ حديثكَ ، يا آغا ، عن التحديث والتجديد ، ليذكر المرء بحجج الوزير "
قال آمرُ اليرلية لمُجادله ولم يكن قد فقد رباطة نفسه ، بعدُ . ثمّ أضافَ بإعياء وتأثر : " إنّ المارقَ سعى للقضاء على الانكشارية ، وبنفس التبرير ؛ الذي تسوقه جنابكَ . أجل ، لقد أرادَ أن يقضي على من كانوا، طوال قرون من الزمن ،عمادَ السلطنة وعزَّ الاسلام ". هنا ، أصبحَتْ بسمة العريان في منقلب آخر ، أكثر أذىً . وما عتمَ أن أجابَ : " إنّ الفوضى زائد الأساليب القديمة ، هما سبب هزيمة الانكشارية أمام قوات الوزير ، هناك في الآستانة . أما عندنا ، في الشام ؛ فأنتَ آدرى ، يا آغا ، بحقيقة الوضع "
" إنني أسمحْ لنفسي بتنبيهكَ ، أيها المحترم ، إلى أنكَ تطلقُ جزافَ القول " ، ندّتْ الجملة عن القوّاص وكما لو أنها زفيرُ الاحتضار . عندئذ ، التفتَ إليه بقية الحضور . وإذاً ، فلستُ وحدي من لحظ مدى التغيّر ، الذي رُزءَتْ به قسماتُ صاحبنا ؛ الآمر السابق . نعم . ففي وقتٍ كانَ فيه الزعيمُ يحاولُ تهدئة الرجل ، كنتُ أنا أحث نفسي للنهوض نحوه ؛ لكي أسعفه بترياق مناسب . ولكنني لم أحرك ساكناً ، قط . لقد خشيتُ أن أضحي مثارَ سخرية الحضور ، إذا ما تبيّن لاحقا أنّ ما هجستُ به كانَ مجرّد وسواس ، لا أساسَ له . ويتعيّن عليّ الاشارة ، أيضاً ؛ إلا أنني تفكرتُ كذلك بمن قاموا بخدمتنا ، أثناء تقديم القهوة والحلوى : كانَ المملوكُ الروميّ ، وليسَ رفيقه المَنحوس ، الصقليّ ، من أشرفَ على الخدم . وقد طمأنني ذلك ، نوعاً .
" عليكم أن تعذروني ، أيها السادة الأفاضل ، فأنا مُجهدٌ من مشاق السفر . فعليّ أن أفارقَ ، مُرغماً ، أنسَ صحبتكم " ، توجّه إلينا الشيخ النقشبندي بقوله . وما أن تناهضَ الشيخ من مكانه ، حتى بوغتنا بالقوّاص ؛ وهوَ يُبدي أيضاً رغبته بمفارقتنا . هذا الأخير ، كانَ يبدو الآنَ أحسَن حالاً . وتمنيتُ في تلك اللحظة، مُخلصاً ، ألا أكون قد خدَعتُ نفسي .

قبيلَ مغادرة كلّ من النقشبندي واليرلي باشي ، طلبَ منهما الشاملي أن يمكثا برهة قصيرة ، حَسْب . كتاب الله ، الكريم ، كانَ وقتذاك معلقاً مع حافظته ، القماشية ، على جدار الرواق الداخليّ ، القبليّ . فأنزله الزعيمُ ، فقبّله بخشوع ، ثمّ وضعه في مركز الطاولة العريضة ، الواطئة ، المُنبسطة أمامنا . " ليقسمَ أركانُ المجلس ، واحداً بأثر الآخر ، على العمل بإخلاص لرفع شأن الشام الشريف وتمكين عموميتها من النصر والتوفيق . وليكن شاهِدَنا سماحة ُ شيخ الشام ، أطالَ الله في عمره وأعانه في وظيفته ، الجديدة " ، توجّه الشاملي للحضور بخطابه البليغ . وعندما أنوّه بالبلاغة ، فلأنّ كلمة كبير المجلس ، إضافة لجلال الموقف ، أثرتْ فينا بقوّة ؛ حدّ أنّ عبرة رقيقة ، ترقرقتْ من عين قوّاص آغا . كنتُ أكثر الجميع فرحة ً، من غير شكّ ، لفرح اليرلي باشي : " إنّ صحته على ما يُرام ، إذاً ؛ وهذا هوَ المهمّ " ، قلتُ في سرّي .
" علينا أن نقرّرَ ، ومن غير إبطاء ، مسألة ً في غاية الأهمّية " ، قالَ الزعيمُ وأضافَ بنبرةٍ أقلّ علواً " لن يُضيرَ غيابُ اليرلي باشي ، كما أعتقدُ ، في تقرير مجلسنا لمهمّة الاتصال بجيران الولاية ؛ سواءً من خصوم الطاغية أو المارق " . إذاك ، رأيتُ أنّ أكثرَ من حاضر هنا ، كانَ يتواطأ على نظرة واحدة ، مُسدّة نحوي . ولكنها نظرة تعاطف ومودّة ، ما رمقتني به أعين أولئك الحاضرين . عليّ كانَ ، ولا غرو ، أن أدركَ مَبعث الأمر ؛ كانَ عليّ ، والحالة هذه ، أن أتهيأ لسفارة أخرى . فلنرَ إذاً ، ما لو كانَ حَدَسي بمحلّه .
" أيها الآغا العطار ، لقد كنتَ دوماً جديراً بثقة أخوانكَ في المجلس . ولقد سبقَ أن أنقذنا تدبيركَ ، الصائب ، في أكثر من مرّة " ، خاطبني الزعيمُ بلسانه المُفوّه ثمّ استطردَ " وإننا نعتمدُ عليكَ ، بعد الله تعالى ، في أمر هذه المهمّة الجديدة ". فأجبتُ مُخاطبي باحناءة من رأسي ، شاكرة ، مُنتظراً فراغه من الكلام . ولكنّ القاروط ، ويا للعجب ، هوَ من أخذ زمام القول : " وأسمحُ لنفسي ، من بعد أذنكم ، بهذه الملاحظة . وهيَ أنّ جنابَ العطار ، للحقّ ، من كانَ له فضل التوفيق بين مجلس العمومية ووجهاء الصالحية ؛ وعلى رأسهم ، الزعيم شمّو آغا . فأرجو له التوفيق الآنَ ، سعياً لانقاذ الولاية من مأزقها الخطر ، الوخيم العواقب ".

" إنّ المجلسَ يرغبُ بمدّ يد الصداقة والتعاون للأمير بشير ؛ حاكم جبل لبنان ، القويّ "
قالَ كبيرُ الأعيان مُعقباً على كلمة البك ، المصريّ ، المُحتفية بجنابنا ـ استغفرُ الله . نعم . كنتُ على أهبةٍ ، كما سلفَ التنويه ، لاقتراح الشاملي هذا . إلا أنني حافظتُ على صمتي ، ولم أشأ الإجابة قبل إكتمال صورة الموقف . عندئذ طفقتْ ذاكرتي على اختلاس لمحاتٍ ، خاطفة ، من مناظر تلك البلاد الرائعة ؛ التي تسحرُ لبّ المرء بجبالها وبحرها وغاباتها وعيونها . إذ سبقَ أن حظيتُ ، مرّتيْن ، بمرأى جبل لبنان : الأولى ، مع والدي رحمه الله ؛ وكنتُ بعدُ لم أبلغ سنّ الرشاد ، وكانَ هوَ في زيارة لأحد أصدقائه ، من المريدين ، المقيم في بلدة عند حدّ الجبل . والثانية ، قبل اليوم بنحو خمس سنوات ، وزرتُ خلالها بيروت ؛ حيث التقيتُ ، اتفاقا ، مع زمرّدتي ، المسكينة ، في محل للأقمشة النسائية ، كانت تديره مع والدتها . آنذاك ، كانت هذه فتاة يافعة ، تعيشُ مُتوحّدة مع أمّها ، بعدما تركهما الأبّ ليسافر في عمرة للأرض الطاهرة ؛ فلم يَعُد أحدٌ يعرف بعدها عن مصيره شيئاً .
" فنحنُ نريدُ سماعَ جوابكَ ، أيها الآغا " ، أيقظتني كلمة الشاملي هذه ، من غفلة الذكرى . إذاك ، أجبته على الفور مع بسمة رضا : " إنني كما عهدتني ، أيها الكبيرُ ، بأمرة المجلس في كلّ ما يُطلب مني " . وبادلني الزعيمُ الإبتسامة ، ثمّ راحَ يثني مُجدداً على خلقي وهمّتي وإخلاصي . وهكذا فعل بقية الحضور ، وإن كانَ صديقي المُشاكس ، العريان ، أقلهم حماساً . كنتُ على علم ، قبلاً ، بريبة صديقي في مسلك القاروط . فجاءتْ هذه المهمّة ـ التي نسقها هذا الأخير مع كبير المجلس ـ لتضافرَ من حجم الريبة . نعم . لقد خطط كلّ منهما للأمر ، وربما في الفترة نفسها ، التي سبقتْ مغادرة الانكشارية لسوق ساروجة . فلكي يكون الشكُ يقيناً ، بادرتُ الكبير بمساءلتي : " المعذرة ، يا سيّدي . إنّ تقريرنا لهذه السفارة ، السرّية ، من غير علم قوّاص آغا ، ربما يكونُ غداً مبعث استيائه ؟ "
" ليطمئنّ خاطرُكَ ، يا عزيزي ؛ إنّ الآغا على علم بالأمر ، مُسبق " ، أجابني الزعيم بنبرة يَشوبها شيءٌ من الحَرَج أو الاعتذار . ثمّ استدركَ القول : " أجل ، لقد فكرتُ بهذه المهمّة ، جيداً ، أثناء غيابي عن الدار ؛ وكنتُ آنئذ في ضيافة سعادة البك . وقد فاتحته بالأمر ، ثمّ أطلعنا عليه ، تالياً ، بقية الأخوة من الحاضرين الآن هنا ، علاوة على قوّاص آغا " . وشئتُ التثنية بسؤال آخر ، عما إذا كانَ للنقشبنديّ علمٌ بالموضوع ؛ فإذا بالشاملي يستطردُ وكأنه قرأ فكرتي : " وأيضاً سماحة شيخ الشام ، لديه خبرٌ من قبل بنيتنا الاتصال بالأمير . ولقد تشككَ في نتيجة الاتصال ـ كما شهدتَ أنتَ بنفسك ، قبل قليل " .
شمّو آغا ، كانَ ما يفتأ مُتذرعاً بالصّمت ، مذ بدء السهرة . فقدّرتُ أنّ سكوته ، وإن كانَ يُحيل لطبعه الحذر والماكر ؛ إلا أنّ سببه الآنَ ، على الأرجح ، ما كانَ من تعوّده على خصلة الحياد ؛ خلال المخاصمة ، المُطوّلة قليلاً ، بين أعيان الشام ووزيرها . أقولُ هذا ، لأنّ الرجلَ أخذ بالتململ في جلسته وكأنما يودّ المشاركة بابداء الرأي . " كانَ من المُفترض ، كما أذكر ، أن نختار رجل آخر ، على دراية بأحوال تلك البلاد وطبع أميرها ، لكي يرافق الآغا العطار ويكونُ عوناً له في أيّ ملمّةٍ ، مُحتمَلة " ، قالَ الزعيمُ الكرديّ وهوَ ينقل بصره بين الزعيم وبيني . هنا أيضاً ، أجازَ القاروط لنفسه أن يكونَ صاحبَ الجواب : " هذا الأمرُ ، يا آغا ، حُبيَ بعنايتنا . إنّ حَمْوَ جناب الزعيم ، الأفندي عبد اللطيف ، سيكونُ الشخص المُناسب ، المَطلوب " . فما أن نطقَ البك ، المصريّ ، باسم ذاك الرجل ، حتى رأيتني على دهشةٍ ، بيّنة : فعلى حدّ علمي ، أنّ والدَ المرحومة القادين ، كما وسائر أهلها ، كانوا يقيمون في الأناضول ؟
ها هوَ الزعيمُ ، كما من قبل ، يستقرأ فكرتي فيبادر من ثمّ لإجلاء الأمر اللغز : " إنّ عبد اللطيف أفندي ، لعلمكم أيها الأخوة ، هوَ جدّ ابنتي ، البكر . لقد سبقَ له أن اعتنقَ ديننا ، القويم ، حتى قبلَ أن تولدَ أهلي بعدة أعوام . وبإذن الله ، سوفَ يكونُ الرجلُ عوناً لنا " .

> مستهلّ الفصل الرابع ، من رواية " الأولى والآخرة " ..



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الثالث : مَنأى 9
- الفصل الثالث : مَنأى 8
- الفصل الثالث : مَنأى 7
- الفصل الثالث : مَنأى 6
- الفصل الثالث : مَنأى 5
- الفصل الثالث : مَنأى 4
- الفصل الثالث : مَنأى 3
- الفصل الثالث : مَنأى 2
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7
- الرواية : مَهوى 6
- الرواية : مَهوى 5
- الرواية : مَهوى 4
- الرواية : مَهوى 3
- الرواية 2
- الرواية : مَهوى


المزيد.....




- -نبض الريشة-.. -رواق عالية للفنون- بسلطنة عمان يستضيف معرضا ...
- فيديو.. الممثل ستيفن سيغال في استقبال ضيوف حفل تنصيب بوتين
- من هي ستورمي دانيلز ممثلة الأفلام الإباحية التي ستدلي بشهادت ...
- تابِع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة على قناة الف ...
- قيامة عثمان 159 .. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 159 مترجمة تابع ...
- -روائع الموسيقى الروسية-.. حفل موسيقي روسي في مالي
- تكريم مكتب قناة RT العربية في الجزائر
- الحضارة المفقودة.. هل حقا بنيت الأهرامات والمعابد القديمة بت ...
- مصر.. القبض على مغني المهرجانات -مجدي شطة- وبحوزته مخدرات
- أجمل مغامرات القط والفار.. نزل تردد توم وجيري الجديد TOM and ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : صراط