أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 7















المزيد.....

الفصل الثالث : مَنأى 7


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3005 - 2010 / 5 / 15 - 22:37
المحور: الادب والفن
    





العنقاء ، كانت الآنَ تدوّمُ في فضاء الغرفة فوقنا ، صافقة ً أعلى رأس المملوك بخبط جناحيْها . إنها روحُ القتيل ، التي تحوّم أبداً ، حتى تحظى بدَم المُجْرم : ولكن ، أكانَ الصقليّ ، حقا ، هوَ مطلوبُ طائر الانتقام هذه ؟
" إنّ القاتلَ ـ أيّ قاتل ـ لهوَ ضحية قبل أيّ صفة أخرى . أجل ، يا سيّدي . إنه ضحيّة ، حيّة ، تسعى إلى جندلة من شاركوا في حبك ملهاة حياتها " ، قال لي المملوكُ بقوّة ، وربما بتحدّ أيضاً . كنا ما نفتأ في كوخ العشّاب ؛ في حجرته الوحيدة ، الحائلة الملامح ، وقد أنهَيْنا للتوّ تناول طعام الغداء . وكانَ الكوخُ ، أيضاً ، يَقبعُ متوحّداً في طرَف الحديقة . إنّ معلمي لم يظهر بعدُ في مكان عمله هذا . لا بدّ أنّ كبيرة سَهَتْ أمرَ الرجل ، بما جدّ بين يَديْها من مشاغل ، على أثر زيارة شيخ الشام . وكنتُ اللحظة ، مثلها سواءً بسواء ، في نائبة من الجَزَع ، مُبينة .
" ماذا لو أنّ هذا المملوك ، الطائش الصواب ، يُخفي طيّ ملابسه ، النسائية ، خنجرَ القاتل ؟ " ، تساءلتُ بسرّي في قلق . نعم . كانَ المُفترضُ فيّ ألا أكونُ على تلك الدرجة من الحذر ، طالما أنّ الصقليّ يَعرف أنّ الآخرينَ يعرفون بوجوده معي ؛ هنا ، في كوخ العشّاب . بَيْدَ أنني ، بدوري ، أعرفُ حقيقة أخرى ؛ وهيَ أنّ الحيوانَ ينقلبُ ، أحياناً ، من الألفة إلى التوحّش ، حينما يُحاصر في زاوية ضيّقة ، مُبتسَرَة .

" وماذا لو أنّ الضحية ، لسبب أو آخر ، لم تتمكنَ من خصومها ؟ "
توجّهتُ للمملوكَ بقولي ، مواظباً على تجنيب النفس من الانفعال . مُساءلتي هذه ، لم تكن تهدف لمحاولة التخفيف من غلواء الفتى ، بقدر ما كانت تواصلُ نيّة جسّ خبيئته . ولم يكن وَكدي ، على الأرجح ، ليخفى على فهمه . ها هي فرائصُ أوار الشرّ ، الخامدَة ، تتراقصُ ثانية في عينيه . ولكنه ، على أيّ حال ، كانَ قد كفّ عن التحديق مباشرة ً في عينيْ ، لما أجابني بخفة واستهتار : " إذاك ، تكونُ الضحية مُجْبَرَة على إسماع صوتها للآخرين ، بأيّ شكل وبأيّ ثمن "
" حتى لو أدى ذلكَ إلى إيقاع أناس ، أبرياء "
" عندما يَسقط البريءُ بيد القاتل ، يَعلمُ الآخرون أنّ ثمة مذنبين بينهم ؛ وأنّ هؤلاء همُ من كانوا جديرين بالجزاء "
" إنكَ فتى في مقتبل العمر ، ولامع الذكاء . فيُمكنكَ إذاً أن تواصلَ سَيْر حياتك ، الطبيعيّ ، وتركَ الأمر ليوم الحساب ، الأكبر " ، قلت له بشيء من الحدّة . وكنتُ عندئذ أخاطبه بغير مواربَة ؛ بعباراتي الأولى ، القاسيَة والمُتهمَة . فما كانَ من المملوكَ ، الماكر ، إلا إطلاق ضحكات عابثة ، لا مُبالية . وإذاً ، اعتقدتُ أنه كانَ يُحاولَ بذلك التخلصَ من الشرك ، المنصوب له . " ها أنتَ ذا ، يا آغا ، تؤوب لخصلة المظنة ، الآثمة ، المَلعونة من كتاب الله " ، قالها بهدوء ثمّ لزمَ الصمتَ ، فجأة . لأنه في تلك الهنيْهَة ، الداهيَة ، قطعَتْ خلوتنا بطرقات على باب الحجرة .

" إنّ كبيرة الحافظات ، يا سيّدي ، طلبتْ مني أبلاغكم بضرورة التوجّه للدور الثاني "
قالَ لي المملوك الآخر ، القبرصيّ ، المُتسمّر أمام الباب . ثمّ ما عتمَ أن أردفَ موضحاً : " يبدو أنّ مشرفة الردهة تلك ، الثالثة ، تعاني من آلام في بدنها ، غير مُحتملة " . وفهمتُ مغزى تشديده ، اللافت ، على صفة المشرفة . فقد أضحَتْ شمس ـ وهذا اسمها كما علمتُ ـ من أعلام المدرسة ولا غرو ، بما كانَ من أمرها مع شيخ الشام . سألتُ الروميّ ، عما إذا كانَ يتوجّبُ عليّ الذهاب بمفردي ، أو مع مرافق ما . فأجابني وهوَ يُشير برأسه ناحيَة رفيقه : " بإمكان أحدنا ، لو شئتَ يا سيّدي ، الذهاب معكم إلى حجرة البنت "
" بنت ؟ " ، تساءلتُ بسرّي مندهشاً . ولكنني استدركتُ التفكيرَ ، بأنّ هذه المفردة لها معنى آخر ؛ العنوسة . من ناحيَة أخرى ، خمنتُ أنّ كبيرة ، ولا ريب ، أشكلَ عليها صفة العشّاب ؛ وأنها على ذلك كانت قد وجّهتْ المملوكَ إلى معلمي ، العجوز ، كونه المَعنيّ بالأمر .
" لن أضيّعَ هذه السانحة ، التي تتيحُ لفضولي معرفة خبايا ما يدور ثمة ؛ في جناح الدارسات " ، خاطبتُ دخيلتي بتصميم ـ وببهجة كذلك : كانت نرجس ، ليلة أمس ، قد أجازتْ لنفسها البوحَ ببعض معميّات ذلك المكان ، الغامض ؛ وخصوصاً ، ما يتعلق بالمرأة التي تشرفُ على مُقيميه ، الإناث .
وكيلا يعودُ الروميّ ، مبلغُ الأمرَ ، إلى سيّدته تلك ، رأيتُ أنه من الضروري أن يُرافقني هوَ إلى جناح الدارسات . أودَعْتُ المملوكَ الآخر ، الصقليّ ، لدَعة كسله ، ولتجديف عقله ، ثمّ توجّهتُ مع القبرصيّ نحوَ الفناء القصيّ ؛ أين رواق حجراتنا ، المُفضي دَرَجَهُ إلى الدور الفوقاني . عليّ كانَ ، أولاً ، أن أعاينَ المريضة ، ثمّ العودة ثانية ً إلى الكوخ ، لكي أحضر لها خلطة الصّفة ، المُناسبَة لحالتها . وقتُ القيلولة ، المَنذورُ للراحَة ، كانَ قد أنقضى بطبيعة الحال ، حينما دلفنا الفناءَ الضيّق ، المؤرّجَ بعَبَق القديم ، الرطيب ، المُثير لواعج النفس . غرفة المُشرفة ، كانت مركونة على طرف الدّرَج ، مُشكلة الركن الرابع للردهة . ما أن استأذنَ المملوك من صاحبَة الحجرة ، حتى وجدتني أقفُ في حضرَتها مَبْهوتاً ، وقد استولى عليّ الذهولُ .

هذه المُشرفة ، المَعلولة ، ضافرَ عُمْرَها ، الفتيّ ، جَمالٌ خلوقٌ ، خارقٌ ولا ريب . كانت راقدَة على سرير ضيّق ، وطيء ، وقد أحاطتها الجدرانُ وما علق عليها من عجائب : كانَ يتراءى للعين بَرْزخٌ من مُصوّرات مُلوّنة ، غريبة التكوينات ، مؤطرَة المَتن ضمن مُربّعات خشبيّة ؛ بعضها مُصَدّف والبعض الآخر مُفضض أو مُطعّم بالنحاس : " حوريّة ، في حلول جنة النعيم " ، لخصتُ انطباعي بجملة واحدة ، حَسْب . إلا أنّ ندّات الفتاة ، من حوريّات الآخرة ، لن يكنّ مَجبورات ، على أغلب تقدير ، على التحَجّب بملبَس الحشمَة ، الأسوَد . وعلى أيّ حال ، فشمس هذه ، كانت مَحط إعجابي ، الموصوف ، طالما أنها مَكشوفة الوجه ، على الأقل . لم تكن تكبرُ نرجس ، على الأرجح ، بأكثر من سنين خمس أو ست . وما أثارَ دهشتي ، للحقيقة ، أنّ المَريضة لم تباغتْ بمَقدَمي إليها بنفسي ؛ في حين أنّ تلك كانت مهمّة العشّاب العجوز ؛ المُعلم الحقيقيّ . لا بلّ إنها رفعتْ بصرها نحوي ، لكي تعبّر عن امتنانها وشكرها : " يُسعدني ، أيها السيّد المُبَجل ، أن تهْرَعَ دونما إبطاء لغوثي " . المفردة الأخيرة ، في جملة المرأة المَعلولة ، كانت ولا شكّ من واردات تأثرها بكلام المتصوّفة ؛ الذاخر بكلمات شبيهة . ولكنّ الغوث الأكبر ، مولانا ، كانَ حاضراً هنا ، في آخر المطاف ؛ كانَ يُرشد مُريدَه الحائر ، والأعزل من خاتم النجاة ، القدسيّ .
" بإذن الله، إنك ستبلين سريعاً ، يا سيدتي " ، خاطبتها باحترام ، مُشَجْعاً . ولما سألتها بعد ذلك عما تشكو منه ، إذا بها تجيبني بنبرَة غائبة ، غريبة ، فيما تمرّر يدها على بَدَنها من فوق اللحاف : " هنا ، تحتَ جلدي ، ثمة عقارب تقرصني بسمّها باستمرار " . فما كانَ مني ، إثرَ لحظة تردّد ، إلا الطلب من المريضة أن تكشفَ جسدَها . المملوك الروميّ ، المُتنكر بهيئة نساء الدار ، الشغالات ، كانَ اللحظة ـ مثلي سواءً بسواء ـ يشرأبّ ببصره ، مَبهوراً : إذاك ، كانَ بَطنُ المرأة الضامر ، الأكثر نصاعة من المَرْمر والفضة ، يَموجُ قدّام عيوننا بطيّاته الهيّنة ، البهيّة ؛ المُكتنزة المَوضعَ الجَليّ للسرّة ، كما والمُرتفعَ المَخفيّ للعانة .

" ممَ تشكو تلك المرأة الجميلة ، يا سيّدي ؟ "
سألني الروميّ بلهجة خبث ، أكثر منها فضول . كنتُ وإياه في طريق الإياب ، تخترقُ خطواتنا الممرّ المُترَب ، الرئيس ، المؤدي لبيت العشّاب ، الصغير . لم أجب مساءلة المَملوك ، الخبيثة ، إلا بُعيْدَ وصولنا لمستقرّ الفيء ذاك ، الأثير لديّ : ثمة ، كانت شجرة تين وارفة ، مُسنّة ، تنشرُ فوْحَها المُميّز ، الحرّيف ، حتى أنف السماء . بقيتُ برهة أخرى ، مَلخوماً بالعَبق المُسْكر ، قبل أن ألتفتَ إلى مُرافقي لأقول له بلهجة فكهة : " لا علمَ لي بالغيْب ، يا آلة المُتعَة . ولكنني أعلمُ ، بالمقابل ، أنكَ سَتعينني لكي تستعيدَ المريضة عافيتها ؛ لتكونَ هيَ جديرة ٌ بجمالها ، المَمْدوح " . هزّ الخبيثُ رأسه بجَذل، ثمّ ما عَتمَ أن جَرى ورائي .
كانَ الكوخ خال ، ما يَفتأ . فلا مَراء ، فكرتُ بسرور ، بأنّ أمرَ العشّاب ، العجوز ، صارَ نسْياً مَنسيّا .
" علينا بدءً ، تحضير مواد طبخة الخليط " ، خاطبتُ المملوكَ المُتشاغل بتقليب عدّة العطارة . ثمّ أعقبتُ ذلكَ بدعوته للتوجّه إلى العجوز ، المُعلم ، المُتواجد في الحديقة : " عليكَ أن تسأله ، ما إذا كانَ من الممكن تدبيرُ قليل من حليب الناقة وبَوْلها "
" وبولها ، أيضاً ؟ " ، سألني الروميّ بعينيْن ، جاحظتيْن ، من أثر الدهشة . فتبسّمتُ ُلمَظهَرَ عَجَبه ، وأجبته من بعد : " إنّ بول الإبل ، كما حليبها ، فيه مواد مفيدة لعلاج أمراض الربو والسّكري والتهاب الكبد وقروح الجهاز الهاضم وفقر الدّم والسّل "
" عجباً . أتعاني مريضتكَ ، يا سيّدي ، من كلّ هذه الأمراض ؟ " ، عادَ المملوكُ يستفهم مني . فضحكتُ من سذاجة السؤال ، وقلتُ لصاحبه : " إنّ فتاتنا ، الجميلة ، والحمدُ لله ، لا تشكو من علة ما ، عضويّة . ولكنني ، إلى ذلك ، أشتبه بأنّ جهازها ، العصبيّ ، ليسَ على ما يرام تماماً "
" وهل فضلات الجمال تلك ، فيها شفاءٌ للأعصاب ؟ "
" لنأملنّ بذلك ، يا عزيزي . فصحّة المَخلوق ، كما تعلم ، هبَة من خالقه . وبهذه السانحة ، أتذكرُ حديثاً ، شريفاً ، يحضّ على العلاج بحليب وبول الناقة "
" إنه من الأهمية بمكان ، يا آغا ، أن يعلمَ المرءُ بحقيقة ؛ أنّ الرسول ، عليه السلام ، كانَ لدَيْه الوقتُ لمعالجة المؤمنين " ، قالها الروميّ بنبرَة رصينة . فلم أجبه سوى بحركة رأسي ، المُؤيّدة .

عند صلاة العشاء ، سجّلتُ حضوري في المَصلى . كانَ مُعلمي ، العشّابُ ، يُشاركني المكانَ كذلكَ. بُعَيْدَ انتهائنا من الفرْض ، تبادلتُ معه بضعَ عبارات . سألني حَسْب ، ما إذا ناولتُ " تلكَ المريضة " الصّفة المطلوبة ، المُركبَة أساساً من نعَم النوق . لا ، تذكرتُ . لم يكن هذا ، هوَ كلّ ما قاله لي العَجوزَ ، المَلولَ . فإنه التفتَ إليّ عندَ باب المَصلى ، فودّعني بدلاً من أن يتمنى لي ليلة سعيدة ـ كما يفترضه عُرْفُ المُجامَلة . قبل ذلك ، لحَظتُ أنه كان يَرْمقني بنظرة مُوارَبَة ، أعقبتها تنهّدة أكثر تجلّ . ليْسَ في تلك اللحظة ، وإنما فيما بعد ، عليّ كانَ أن أعيَ معنى كلمة الوداع ؛ التي ندّتْ ليلتئذ عن العجوز .
" آه ، يا نرجس . أيكونُ غيابك ليوم واحد عن عينيّ، ليجعلني أعمىً ؛ لمجرّد يوم واحد ؟ " ، ندَهْتُ خيالَ البنت بنفحات من زفير الشوق والتوق والإملاق . حينما نطقتُ اسمَها ، كدتُ أن أقولَ " نرجستي " . ولكنني لم أجدَ شجاعة في نفسي ، كي أضيف الياءَ إلى الفاعل . بالمقابل ، رأيتني أسلوَ أمرَ النوم ، مؤملاً قدوم من ستكون سلوانَ كرَبي . إذاك ، رحتُ أستعيد ما كانَ من وقائع اليوم ، المُنقضي . صدى هأهأة الصقليّ ، الهازئة ، كفيلة وحدَها ولا غرو بإقلاق رقادي : كانَ يتعمّدُ استفزازي ، ويتحدّاني أيضاً ، بإشاراته العبثية والجادّة في آن . كانت اشاراتٌ تمضي كلها بالاتهام في اتجاه شخص واحد ، أحَد ؛ شخصه هوَ . نعم . إنه ماكرٌ ، مثل أيّ خصي . إنه يُدرك بأنني لن أكتفي بما أملكه عنه ، من دلالات وعلامات ؛ بل أسعى إلى دليل الإدانة القاطع ، المُبْرَم ـ ككلمة الحقّ . وهوَ مُتيقنٌ ، فوق ذلك ، بأنني حتى لو ضبطته مُلبّساً بالجرم ؛ فإنني لن أسلمَ رأسه لسيف الجلاد . لا الآن ، في وضعنا المُستحيل ، ولا في الغدّ المُغيّب أيضاً . بهذه الحالة ، فإنه حينما هتفَ بتذلل وخنوع مُبرئاً نفسه من القتل ؛ فلم يفعلَ ذلك إلا بداعي إضرام نار الظنون في نفسي . ولكنه ، بأيّ حال ، تجاوز حدوده ونسيَ نفسه ، مراراً . فحتى موضوع المريضة ، الذي لا يخصّه بشيء ـ كما اعتقدتُ وقتئذ ـ جعله مثارَ تندّر: " إنّ نساءَ دار الحديث ، مثلهنّ في ذلك مثلنا نحنُ الخصيَة المماليك ، ينقصهنّ الشيء ذاته ؛ الذي تملكه أنتَ ، أيها الآغا " . ولكنّ جملة التفكه هذه ، لم تنتظرَ الغدّ ، لكي تتجسّد حقيقة ً.

بَرحَ فيّ السّقم ، في مضاضة ساعات انتظار لا أملَ منها . وما يُنكي كذلك ، أنّ غلسَة الظلمَة كانت من السّواد ، أن ضافرَت ْ جوى انتظاري وخيبتي . كانت ليلة مضطربَة ، هيمَنَ على سدْرَتها ، العليا ، سًحُبُ أواخر الربيع ، المُثقلة بالغيث . لا قمر في السماء ؛ لا قمر في الأرض . ثمة خواء ، حَسْب . النعاسُ اللدودُ ، شاءَ أن يغشى عينيّ ، أخيراً . ساعات أخرى ، من إغفاءة بلا حلم ، قبلَ يقظتي على وقع طرقات القلب ، الخافق بقوّة . فتحتُ عينيّ بصعوبة ، وإذا بطرق على باب الحجرة يتناهي إليّ بإلحاح . أصختُ سمعي جيّداً ، ثمّ نهضتُ على الأثر لأرى جلية الأمر . عن سحنة المملوك القبرصيّ ، المُبهَمة القسمات ، فتحَ صفقُ الباب . كانَ ثمة إذاً ، وبيده مسرَجَة خافتة النور . ولكن ، ما تلك الجَلبَة ، المُبتعثة من أرجاء الدار ؟
" سيّدي ، يقولون أنّ هناكَ حركة عساكر ، مُريبة ، قربَ المدرسة " ، قالها بصوت لا يكاد يُسمع من شدّة الفرَق . عَدْوى القلق ، ما لبثَ أن انتقل إليّ . طلبتُ منه أن ينتظرني ، وعُدْتُ لكي أغيّر ملبسي . من بعد ، رأيتني قربَ كبيرة الحافظات ، المُحاطة بمساعداتها . كنّ واجمات ، يقفنَ عند مخرج الدار ، يتهامَسْنَ بلغط واضح العبارات . " ماذا يجري ثمة ، خارجاً ، يا سيّدتي ؟ " ، توجّهتُ لكبيرة بسؤالي . كانت المَسْرجاتُ هنا خامدَة النور ، حذراً وحيطة . إلا أنها ميّزت شخصي من صوتي . فأجابتني إذاك بلهجة باردة : " لا علمَ لي ، أيّها السيّد . يبدو أنّ الانكشارية تتحرّك ، حثيثاً ، باتجاه الصالحية " . تجاهلتُ برودة الجملة ، طالما أنّ معناها روّعني . يا ربّ السموات ، العلى . أيمكنُ أن تتخلى عن مدينتك ، الأثيرة ، بهذه السهولة واللامبالاة ؟

ساعات ، ساعات من الكوابيس المُخلبَسَة . حتى أفقتُ ، ثانية ً، على حركة ما ، عند باب الحجرة . بَيْدَ أنني ، على أيّ حال ، ما كنتُ متحمّساً للقيام وتحرّي الوضع . " ليجتاح الانكشاريون البريّة أيضاً ، بل والبلاد كلها . وليطيحوا بعرش عدوّهم ، الأكبر ؛ الباب العالي " ، هكذا هتفَ داخلي عندما لاحَ لناظري المتعب ، الكليل ، الشبَحُ الحَبيب . أجل ، كانت نرجس هناك . ولم تدعَ لي سانحة النهوض بجذعي . فارتمتْ في أحضاني ، على دهشتي ، وبدون أيّ نأمة . يا إلهي ، الرحيم . في ليلة أمس ، كانت الفتاة من التحفظ، الحييْ ، أنها قابلتْ بنظرة مزورّة ، مثلجة ، شروعي بمداعبة خصلات شعرها ، العطرَة . والآن ، في غمرة الغلسَة ، الكثيفة ، المَعدومة الظلال ، تبادرني هذه الفاتنة بأفانينَ من مداعبات متنوّعة ، عديدة الأغراض ، لا تكاد تخطرُ لمدوّني كتب الباه والمؤانسة . بدوري ، كنتُ أصهرُ أجزاء البدن ، اللدن ، بحرارة أنفاسي وفمي وشفتيّ ولساني وذقني وأنفي ويديّ وأناملي ورجليّ وقدميّ وركبتيّ وصدري وبطني وعانتي وذكري وبيضتيّ . وفي أذنها ، الخالية من الحلق ، المُجَوْهَر ، كنتُ أهمسُ أكثر كلمات العشق رقة ومَوْجدَة وعذوبة ؛ وفي آن ، أشدّها شطحاً وشططاً وفحشاً . زهرُ فمها ، الكرزيّ ، ذوى رشفاً ؛ نورُ نحرها ، الساغب ، أمّحى لثماً ؛ تكويرتا رمانتيْها ، الصُلبَتيْن ، تداعيا لمْساً ؛ عكنات بطنها ، الليّنة ، ذابَت مَسّاً ؛ قبّة عانتها ، العظمى ، تقوّضتْ هَصْراً ؛ غارُ هنها ، الأجلّ ، تهافتَ رَهْزاً . كانت تحثني عندئذ بدأب وإصرار وغلمَة ، على أخذ عذريتها . إلا أنني ، يقظاً ، كنتُ على يقين بأنني لن أفعل ذلك . لا ، ليسَ من حقي ، بأيّ وجه ، سَلبَها وردة شرفها ، المُنصاحة للتوّ . إنها ابنة أبيها ، قبل أيّ اعتبار آخر ؛ إنها ابنة الشاملي ، الكبير .
" أدخل ثمة ، ياه ؛ أدفغ عندكَ ولا تخشَ شيئاً " ، هتفتْ أخيراً بصوت واضح ، فاضح . كلماتها هذه ، المدلوقة في أذني حرفاً حرفاً ، كانت من قوّة الوقع ، الصاعق ، أنها قذفتْ بي بعيداً . نعم . كانَ الربّ ثمة ، في سدْرَته ، العليا ، شاهداً وحيداً وللمرة الثانية : كانَ جلّ وعلا شاهدَ ما تيقنتُ ، آنئذ ، أنها الرؤيا . لم يكن هذا صوتُ نرجس ، أبداً . وكنتُ أكثر جبناً ، لأعترفَ ، لكي أتيقنَ بوسائل أخرى ، من حواسي ؛ بأنها ياسمينة ، المسكينة ، من تستلقي اللحظة هناك ، في فراشي ، عارية البدن ومفتوحة الفخذيْن .



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الثالث : مَنأى 6
- الفصل الثالث : مَنأى 5
- الفصل الثالث : مَنأى 4
- الفصل الثالث : مَنأى 3
- الفصل الثالث : مَنأى 2
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7
- الرواية : مَهوى 6
- الرواية : مَهوى 5
- الرواية : مَهوى 4
- الرواية : مَهوى 3
- الرواية 2
- الرواية : مَهوى
- الأولى والآخرة : مَرقى 13
- الأولى والآخرة : مَرقى 12
- الأولى والآخرة : مَرقى 11


المزيد.....




- بعد زيارة ويتكوف.. هل تدير واشنطن أزمة الجوع أم الرواية في غ ...
- صدور العدد (26) من مجلة شرمولا الأدبية
- الفيلم السعودي -الزرفة-.. الكوميديا التي غادرت جوهرها
- لحظة الانفجار ومقتل شخص خلال حفل محمد رمضان والفنان المصري ي ...
- بعد اتهامات نائب برلماني للفنان التونسي بالتطبيع.. فتحي بن ع ...
- صحف عالمية: إنزال المساعدات جوا مسرحية هزلية وماذا تبقّى من ...
- محللون إسرائيليون: فشلنا بمعركة الرواية وتسونامي قد يجرفنا
- فيديو يوثق اعتداء على فنان سوري.. قصوا شعره وكتبوا على وجهه ...
- فيديو.. تفاصيل -انفجار- حفلة الفنان محمد رمضان
- جواسيس ولغة.. كيف تعيد إسرائيل بناء -الثقافة المخابراتية-؟


المزيد.....

- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 7