أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 7















المزيد.....

الفصل الثالث : مَنأى 7


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3005 - 2010 / 5 / 15 - 22:37
المحور: الادب والفن
    





العنقاء ، كانت الآنَ تدوّمُ في فضاء الغرفة فوقنا ، صافقة ً أعلى رأس المملوك بخبط جناحيْها . إنها روحُ القتيل ، التي تحوّم أبداً ، حتى تحظى بدَم المُجْرم : ولكن ، أكانَ الصقليّ ، حقا ، هوَ مطلوبُ طائر الانتقام هذه ؟
" إنّ القاتلَ ـ أيّ قاتل ـ لهوَ ضحية قبل أيّ صفة أخرى . أجل ، يا سيّدي . إنه ضحيّة ، حيّة ، تسعى إلى جندلة من شاركوا في حبك ملهاة حياتها " ، قال لي المملوكُ بقوّة ، وربما بتحدّ أيضاً . كنا ما نفتأ في كوخ العشّاب ؛ في حجرته الوحيدة ، الحائلة الملامح ، وقد أنهَيْنا للتوّ تناول طعام الغداء . وكانَ الكوخُ ، أيضاً ، يَقبعُ متوحّداً في طرَف الحديقة . إنّ معلمي لم يظهر بعدُ في مكان عمله هذا . لا بدّ أنّ كبيرة سَهَتْ أمرَ الرجل ، بما جدّ بين يَديْها من مشاغل ، على أثر زيارة شيخ الشام . وكنتُ اللحظة ، مثلها سواءً بسواء ، في نائبة من الجَزَع ، مُبينة .
" ماذا لو أنّ هذا المملوك ، الطائش الصواب ، يُخفي طيّ ملابسه ، النسائية ، خنجرَ القاتل ؟ " ، تساءلتُ بسرّي في قلق . نعم . كانَ المُفترضُ فيّ ألا أكونُ على تلك الدرجة من الحذر ، طالما أنّ الصقليّ يَعرف أنّ الآخرينَ يعرفون بوجوده معي ؛ هنا ، في كوخ العشّاب . بَيْدَ أنني ، بدوري ، أعرفُ حقيقة أخرى ؛ وهيَ أنّ الحيوانَ ينقلبُ ، أحياناً ، من الألفة إلى التوحّش ، حينما يُحاصر في زاوية ضيّقة ، مُبتسَرَة .

" وماذا لو أنّ الضحية ، لسبب أو آخر ، لم تتمكنَ من خصومها ؟ "
توجّهتُ للمملوكَ بقولي ، مواظباً على تجنيب النفس من الانفعال . مُساءلتي هذه ، لم تكن تهدف لمحاولة التخفيف من غلواء الفتى ، بقدر ما كانت تواصلُ نيّة جسّ خبيئته . ولم يكن وَكدي ، على الأرجح ، ليخفى على فهمه . ها هي فرائصُ أوار الشرّ ، الخامدَة ، تتراقصُ ثانية في عينيه . ولكنه ، على أيّ حال ، كانَ قد كفّ عن التحديق مباشرة ً في عينيْ ، لما أجابني بخفة واستهتار : " إذاك ، تكونُ الضحية مُجْبَرَة على إسماع صوتها للآخرين ، بأيّ شكل وبأيّ ثمن "
" حتى لو أدى ذلكَ إلى إيقاع أناس ، أبرياء "
" عندما يَسقط البريءُ بيد القاتل ، يَعلمُ الآخرون أنّ ثمة مذنبين بينهم ؛ وأنّ هؤلاء همُ من كانوا جديرين بالجزاء "
" إنكَ فتى في مقتبل العمر ، ولامع الذكاء . فيُمكنكَ إذاً أن تواصلَ سَيْر حياتك ، الطبيعيّ ، وتركَ الأمر ليوم الحساب ، الأكبر " ، قلت له بشيء من الحدّة . وكنتُ عندئذ أخاطبه بغير مواربَة ؛ بعباراتي الأولى ، القاسيَة والمُتهمَة . فما كانَ من المملوكَ ، الماكر ، إلا إطلاق ضحكات عابثة ، لا مُبالية . وإذاً ، اعتقدتُ أنه كانَ يُحاولَ بذلك التخلصَ من الشرك ، المنصوب له . " ها أنتَ ذا ، يا آغا ، تؤوب لخصلة المظنة ، الآثمة ، المَلعونة من كتاب الله " ، قالها بهدوء ثمّ لزمَ الصمتَ ، فجأة . لأنه في تلك الهنيْهَة ، الداهيَة ، قطعَتْ خلوتنا بطرقات على باب الحجرة .

" إنّ كبيرة الحافظات ، يا سيّدي ، طلبتْ مني أبلاغكم بضرورة التوجّه للدور الثاني "
قالَ لي المملوك الآخر ، القبرصيّ ، المُتسمّر أمام الباب . ثمّ ما عتمَ أن أردفَ موضحاً : " يبدو أنّ مشرفة الردهة تلك ، الثالثة ، تعاني من آلام في بدنها ، غير مُحتملة " . وفهمتُ مغزى تشديده ، اللافت ، على صفة المشرفة . فقد أضحَتْ شمس ـ وهذا اسمها كما علمتُ ـ من أعلام المدرسة ولا غرو ، بما كانَ من أمرها مع شيخ الشام . سألتُ الروميّ ، عما إذا كانَ يتوجّبُ عليّ الذهاب بمفردي ، أو مع مرافق ما . فأجابني وهوَ يُشير برأسه ناحيَة رفيقه : " بإمكان أحدنا ، لو شئتَ يا سيّدي ، الذهاب معكم إلى حجرة البنت "
" بنت ؟ " ، تساءلتُ بسرّي مندهشاً . ولكنني استدركتُ التفكيرَ ، بأنّ هذه المفردة لها معنى آخر ؛ العنوسة . من ناحيَة أخرى ، خمنتُ أنّ كبيرة ، ولا ريب ، أشكلَ عليها صفة العشّاب ؛ وأنها على ذلك كانت قد وجّهتْ المملوكَ إلى معلمي ، العجوز ، كونه المَعنيّ بالأمر .
" لن أضيّعَ هذه السانحة ، التي تتيحُ لفضولي معرفة خبايا ما يدور ثمة ؛ في جناح الدارسات " ، خاطبتُ دخيلتي بتصميم ـ وببهجة كذلك : كانت نرجس ، ليلة أمس ، قد أجازتْ لنفسها البوحَ ببعض معميّات ذلك المكان ، الغامض ؛ وخصوصاً ، ما يتعلق بالمرأة التي تشرفُ على مُقيميه ، الإناث .
وكيلا يعودُ الروميّ ، مبلغُ الأمرَ ، إلى سيّدته تلك ، رأيتُ أنه من الضروري أن يُرافقني هوَ إلى جناح الدارسات . أودَعْتُ المملوكَ الآخر ، الصقليّ ، لدَعة كسله ، ولتجديف عقله ، ثمّ توجّهتُ مع القبرصيّ نحوَ الفناء القصيّ ؛ أين رواق حجراتنا ، المُفضي دَرَجَهُ إلى الدور الفوقاني . عليّ كانَ ، أولاً ، أن أعاينَ المريضة ، ثمّ العودة ثانية ً إلى الكوخ ، لكي أحضر لها خلطة الصّفة ، المُناسبَة لحالتها . وقتُ القيلولة ، المَنذورُ للراحَة ، كانَ قد أنقضى بطبيعة الحال ، حينما دلفنا الفناءَ الضيّق ، المؤرّجَ بعَبَق القديم ، الرطيب ، المُثير لواعج النفس . غرفة المُشرفة ، كانت مركونة على طرف الدّرَج ، مُشكلة الركن الرابع للردهة . ما أن استأذنَ المملوك من صاحبَة الحجرة ، حتى وجدتني أقفُ في حضرَتها مَبْهوتاً ، وقد استولى عليّ الذهولُ .

هذه المُشرفة ، المَعلولة ، ضافرَ عُمْرَها ، الفتيّ ، جَمالٌ خلوقٌ ، خارقٌ ولا ريب . كانت راقدَة على سرير ضيّق ، وطيء ، وقد أحاطتها الجدرانُ وما علق عليها من عجائب : كانَ يتراءى للعين بَرْزخٌ من مُصوّرات مُلوّنة ، غريبة التكوينات ، مؤطرَة المَتن ضمن مُربّعات خشبيّة ؛ بعضها مُصَدّف والبعض الآخر مُفضض أو مُطعّم بالنحاس : " حوريّة ، في حلول جنة النعيم " ، لخصتُ انطباعي بجملة واحدة ، حَسْب . إلا أنّ ندّات الفتاة ، من حوريّات الآخرة ، لن يكنّ مَجبورات ، على أغلب تقدير ، على التحَجّب بملبَس الحشمَة ، الأسوَد . وعلى أيّ حال ، فشمس هذه ، كانت مَحط إعجابي ، الموصوف ، طالما أنها مَكشوفة الوجه ، على الأقل . لم تكن تكبرُ نرجس ، على الأرجح ، بأكثر من سنين خمس أو ست . وما أثارَ دهشتي ، للحقيقة ، أنّ المَريضة لم تباغتْ بمَقدَمي إليها بنفسي ؛ في حين أنّ تلك كانت مهمّة العشّاب العجوز ؛ المُعلم الحقيقيّ . لا بلّ إنها رفعتْ بصرها نحوي ، لكي تعبّر عن امتنانها وشكرها : " يُسعدني ، أيها السيّد المُبَجل ، أن تهْرَعَ دونما إبطاء لغوثي " . المفردة الأخيرة ، في جملة المرأة المَعلولة ، كانت ولا شكّ من واردات تأثرها بكلام المتصوّفة ؛ الذاخر بكلمات شبيهة . ولكنّ الغوث الأكبر ، مولانا ، كانَ حاضراً هنا ، في آخر المطاف ؛ كانَ يُرشد مُريدَه الحائر ، والأعزل من خاتم النجاة ، القدسيّ .
" بإذن الله، إنك ستبلين سريعاً ، يا سيدتي " ، خاطبتها باحترام ، مُشَجْعاً . ولما سألتها بعد ذلك عما تشكو منه ، إذا بها تجيبني بنبرَة غائبة ، غريبة ، فيما تمرّر يدها على بَدَنها من فوق اللحاف : " هنا ، تحتَ جلدي ، ثمة عقارب تقرصني بسمّها باستمرار " . فما كانَ مني ، إثرَ لحظة تردّد ، إلا الطلب من المريضة أن تكشفَ جسدَها . المملوك الروميّ ، المُتنكر بهيئة نساء الدار ، الشغالات ، كانَ اللحظة ـ مثلي سواءً بسواء ـ يشرأبّ ببصره ، مَبهوراً : إذاك ، كانَ بَطنُ المرأة الضامر ، الأكثر نصاعة من المَرْمر والفضة ، يَموجُ قدّام عيوننا بطيّاته الهيّنة ، البهيّة ؛ المُكتنزة المَوضعَ الجَليّ للسرّة ، كما والمُرتفعَ المَخفيّ للعانة .

" ممَ تشكو تلك المرأة الجميلة ، يا سيّدي ؟ "
سألني الروميّ بلهجة خبث ، أكثر منها فضول . كنتُ وإياه في طريق الإياب ، تخترقُ خطواتنا الممرّ المُترَب ، الرئيس ، المؤدي لبيت العشّاب ، الصغير . لم أجب مساءلة المَملوك ، الخبيثة ، إلا بُعيْدَ وصولنا لمستقرّ الفيء ذاك ، الأثير لديّ : ثمة ، كانت شجرة تين وارفة ، مُسنّة ، تنشرُ فوْحَها المُميّز ، الحرّيف ، حتى أنف السماء . بقيتُ برهة أخرى ، مَلخوماً بالعَبق المُسْكر ، قبل أن ألتفتَ إلى مُرافقي لأقول له بلهجة فكهة : " لا علمَ لي بالغيْب ، يا آلة المُتعَة . ولكنني أعلمُ ، بالمقابل ، أنكَ سَتعينني لكي تستعيدَ المريضة عافيتها ؛ لتكونَ هيَ جديرة ٌ بجمالها ، المَمْدوح " . هزّ الخبيثُ رأسه بجَذل، ثمّ ما عَتمَ أن جَرى ورائي .
كانَ الكوخ خال ، ما يَفتأ . فلا مَراء ، فكرتُ بسرور ، بأنّ أمرَ العشّاب ، العجوز ، صارَ نسْياً مَنسيّا .
" علينا بدءً ، تحضير مواد طبخة الخليط " ، خاطبتُ المملوكَ المُتشاغل بتقليب عدّة العطارة . ثمّ أعقبتُ ذلكَ بدعوته للتوجّه إلى العجوز ، المُعلم ، المُتواجد في الحديقة : " عليكَ أن تسأله ، ما إذا كانَ من الممكن تدبيرُ قليل من حليب الناقة وبَوْلها "
" وبولها ، أيضاً ؟ " ، سألني الروميّ بعينيْن ، جاحظتيْن ، من أثر الدهشة . فتبسّمتُ ُلمَظهَرَ عَجَبه ، وأجبته من بعد : " إنّ بول الإبل ، كما حليبها ، فيه مواد مفيدة لعلاج أمراض الربو والسّكري والتهاب الكبد وقروح الجهاز الهاضم وفقر الدّم والسّل "
" عجباً . أتعاني مريضتكَ ، يا سيّدي ، من كلّ هذه الأمراض ؟ " ، عادَ المملوكُ يستفهم مني . فضحكتُ من سذاجة السؤال ، وقلتُ لصاحبه : " إنّ فتاتنا ، الجميلة ، والحمدُ لله ، لا تشكو من علة ما ، عضويّة . ولكنني ، إلى ذلك ، أشتبه بأنّ جهازها ، العصبيّ ، ليسَ على ما يرام تماماً "
" وهل فضلات الجمال تلك ، فيها شفاءٌ للأعصاب ؟ "
" لنأملنّ بذلك ، يا عزيزي . فصحّة المَخلوق ، كما تعلم ، هبَة من خالقه . وبهذه السانحة ، أتذكرُ حديثاً ، شريفاً ، يحضّ على العلاج بحليب وبول الناقة "
" إنه من الأهمية بمكان ، يا آغا ، أن يعلمَ المرءُ بحقيقة ؛ أنّ الرسول ، عليه السلام ، كانَ لدَيْه الوقتُ لمعالجة المؤمنين " ، قالها الروميّ بنبرَة رصينة . فلم أجبه سوى بحركة رأسي ، المُؤيّدة .

عند صلاة العشاء ، سجّلتُ حضوري في المَصلى . كانَ مُعلمي ، العشّابُ ، يُشاركني المكانَ كذلكَ. بُعَيْدَ انتهائنا من الفرْض ، تبادلتُ معه بضعَ عبارات . سألني حَسْب ، ما إذا ناولتُ " تلكَ المريضة " الصّفة المطلوبة ، المُركبَة أساساً من نعَم النوق . لا ، تذكرتُ . لم يكن هذا ، هوَ كلّ ما قاله لي العَجوزَ ، المَلولَ . فإنه التفتَ إليّ عندَ باب المَصلى ، فودّعني بدلاً من أن يتمنى لي ليلة سعيدة ـ كما يفترضه عُرْفُ المُجامَلة . قبل ذلك ، لحَظتُ أنه كان يَرْمقني بنظرة مُوارَبَة ، أعقبتها تنهّدة أكثر تجلّ . ليْسَ في تلك اللحظة ، وإنما فيما بعد ، عليّ كانَ أن أعيَ معنى كلمة الوداع ؛ التي ندّتْ ليلتئذ عن العجوز .
" آه ، يا نرجس . أيكونُ غيابك ليوم واحد عن عينيّ، ليجعلني أعمىً ؛ لمجرّد يوم واحد ؟ " ، ندَهْتُ خيالَ البنت بنفحات من زفير الشوق والتوق والإملاق . حينما نطقتُ اسمَها ، كدتُ أن أقولَ " نرجستي " . ولكنني لم أجدَ شجاعة في نفسي ، كي أضيف الياءَ إلى الفاعل . بالمقابل ، رأيتني أسلوَ أمرَ النوم ، مؤملاً قدوم من ستكون سلوانَ كرَبي . إذاك ، رحتُ أستعيد ما كانَ من وقائع اليوم ، المُنقضي . صدى هأهأة الصقليّ ، الهازئة ، كفيلة وحدَها ولا غرو بإقلاق رقادي : كانَ يتعمّدُ استفزازي ، ويتحدّاني أيضاً ، بإشاراته العبثية والجادّة في آن . كانت اشاراتٌ تمضي كلها بالاتهام في اتجاه شخص واحد ، أحَد ؛ شخصه هوَ . نعم . إنه ماكرٌ ، مثل أيّ خصي . إنه يُدرك بأنني لن أكتفي بما أملكه عنه ، من دلالات وعلامات ؛ بل أسعى إلى دليل الإدانة القاطع ، المُبْرَم ـ ككلمة الحقّ . وهوَ مُتيقنٌ ، فوق ذلك ، بأنني حتى لو ضبطته مُلبّساً بالجرم ؛ فإنني لن أسلمَ رأسه لسيف الجلاد . لا الآن ، في وضعنا المُستحيل ، ولا في الغدّ المُغيّب أيضاً . بهذه الحالة ، فإنه حينما هتفَ بتذلل وخنوع مُبرئاً نفسه من القتل ؛ فلم يفعلَ ذلك إلا بداعي إضرام نار الظنون في نفسي . ولكنه ، بأيّ حال ، تجاوز حدوده ونسيَ نفسه ، مراراً . فحتى موضوع المريضة ، الذي لا يخصّه بشيء ـ كما اعتقدتُ وقتئذ ـ جعله مثارَ تندّر: " إنّ نساءَ دار الحديث ، مثلهنّ في ذلك مثلنا نحنُ الخصيَة المماليك ، ينقصهنّ الشيء ذاته ؛ الذي تملكه أنتَ ، أيها الآغا " . ولكنّ جملة التفكه هذه ، لم تنتظرَ الغدّ ، لكي تتجسّد حقيقة ً.

بَرحَ فيّ السّقم ، في مضاضة ساعات انتظار لا أملَ منها . وما يُنكي كذلك ، أنّ غلسَة الظلمَة كانت من السّواد ، أن ضافرَت ْ جوى انتظاري وخيبتي . كانت ليلة مضطربَة ، هيمَنَ على سدْرَتها ، العليا ، سًحُبُ أواخر الربيع ، المُثقلة بالغيث . لا قمر في السماء ؛ لا قمر في الأرض . ثمة خواء ، حَسْب . النعاسُ اللدودُ ، شاءَ أن يغشى عينيّ ، أخيراً . ساعات أخرى ، من إغفاءة بلا حلم ، قبلَ يقظتي على وقع طرقات القلب ، الخافق بقوّة . فتحتُ عينيّ بصعوبة ، وإذا بطرق على باب الحجرة يتناهي إليّ بإلحاح . أصختُ سمعي جيّداً ، ثمّ نهضتُ على الأثر لأرى جلية الأمر . عن سحنة المملوك القبرصيّ ، المُبهَمة القسمات ، فتحَ صفقُ الباب . كانَ ثمة إذاً ، وبيده مسرَجَة خافتة النور . ولكن ، ما تلك الجَلبَة ، المُبتعثة من أرجاء الدار ؟
" سيّدي ، يقولون أنّ هناكَ حركة عساكر ، مُريبة ، قربَ المدرسة " ، قالها بصوت لا يكاد يُسمع من شدّة الفرَق . عَدْوى القلق ، ما لبثَ أن انتقل إليّ . طلبتُ منه أن ينتظرني ، وعُدْتُ لكي أغيّر ملبسي . من بعد ، رأيتني قربَ كبيرة الحافظات ، المُحاطة بمساعداتها . كنّ واجمات ، يقفنَ عند مخرج الدار ، يتهامَسْنَ بلغط واضح العبارات . " ماذا يجري ثمة ، خارجاً ، يا سيّدتي ؟ " ، توجّهتُ لكبيرة بسؤالي . كانت المَسْرجاتُ هنا خامدَة النور ، حذراً وحيطة . إلا أنها ميّزت شخصي من صوتي . فأجابتني إذاك بلهجة باردة : " لا علمَ لي ، أيّها السيّد . يبدو أنّ الانكشارية تتحرّك ، حثيثاً ، باتجاه الصالحية " . تجاهلتُ برودة الجملة ، طالما أنّ معناها روّعني . يا ربّ السموات ، العلى . أيمكنُ أن تتخلى عن مدينتك ، الأثيرة ، بهذه السهولة واللامبالاة ؟

ساعات ، ساعات من الكوابيس المُخلبَسَة . حتى أفقتُ ، ثانية ً، على حركة ما ، عند باب الحجرة . بَيْدَ أنني ، على أيّ حال ، ما كنتُ متحمّساً للقيام وتحرّي الوضع . " ليجتاح الانكشاريون البريّة أيضاً ، بل والبلاد كلها . وليطيحوا بعرش عدوّهم ، الأكبر ؛ الباب العالي " ، هكذا هتفَ داخلي عندما لاحَ لناظري المتعب ، الكليل ، الشبَحُ الحَبيب . أجل ، كانت نرجس هناك . ولم تدعَ لي سانحة النهوض بجذعي . فارتمتْ في أحضاني ، على دهشتي ، وبدون أيّ نأمة . يا إلهي ، الرحيم . في ليلة أمس ، كانت الفتاة من التحفظ، الحييْ ، أنها قابلتْ بنظرة مزورّة ، مثلجة ، شروعي بمداعبة خصلات شعرها ، العطرَة . والآن ، في غمرة الغلسَة ، الكثيفة ، المَعدومة الظلال ، تبادرني هذه الفاتنة بأفانينَ من مداعبات متنوّعة ، عديدة الأغراض ، لا تكاد تخطرُ لمدوّني كتب الباه والمؤانسة . بدوري ، كنتُ أصهرُ أجزاء البدن ، اللدن ، بحرارة أنفاسي وفمي وشفتيّ ولساني وذقني وأنفي ويديّ وأناملي ورجليّ وقدميّ وركبتيّ وصدري وبطني وعانتي وذكري وبيضتيّ . وفي أذنها ، الخالية من الحلق ، المُجَوْهَر ، كنتُ أهمسُ أكثر كلمات العشق رقة ومَوْجدَة وعذوبة ؛ وفي آن ، أشدّها شطحاً وشططاً وفحشاً . زهرُ فمها ، الكرزيّ ، ذوى رشفاً ؛ نورُ نحرها ، الساغب ، أمّحى لثماً ؛ تكويرتا رمانتيْها ، الصُلبَتيْن ، تداعيا لمْساً ؛ عكنات بطنها ، الليّنة ، ذابَت مَسّاً ؛ قبّة عانتها ، العظمى ، تقوّضتْ هَصْراً ؛ غارُ هنها ، الأجلّ ، تهافتَ رَهْزاً . كانت تحثني عندئذ بدأب وإصرار وغلمَة ، على أخذ عذريتها . إلا أنني ، يقظاً ، كنتُ على يقين بأنني لن أفعل ذلك . لا ، ليسَ من حقي ، بأيّ وجه ، سَلبَها وردة شرفها ، المُنصاحة للتوّ . إنها ابنة أبيها ، قبل أيّ اعتبار آخر ؛ إنها ابنة الشاملي ، الكبير .
" أدخل ثمة ، ياه ؛ أدفغ عندكَ ولا تخشَ شيئاً " ، هتفتْ أخيراً بصوت واضح ، فاضح . كلماتها هذه ، المدلوقة في أذني حرفاً حرفاً ، كانت من قوّة الوقع ، الصاعق ، أنها قذفتْ بي بعيداً . نعم . كانَ الربّ ثمة ، في سدْرَته ، العليا ، شاهداً وحيداً وللمرة الثانية : كانَ جلّ وعلا شاهدَ ما تيقنتُ ، آنئذ ، أنها الرؤيا . لم يكن هذا صوتُ نرجس ، أبداً . وكنتُ أكثر جبناً ، لأعترفَ ، لكي أتيقنَ بوسائل أخرى ، من حواسي ؛ بأنها ياسمينة ، المسكينة ، من تستلقي اللحظة هناك ، في فراشي ، عارية البدن ومفتوحة الفخذيْن .



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الثالث : مَنأى 6
- الفصل الثالث : مَنأى 5
- الفصل الثالث : مَنأى 4
- الفصل الثالث : مَنأى 3
- الفصل الثالث : مَنأى 2
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7
- الرواية : مَهوى 6
- الرواية : مَهوى 5
- الرواية : مَهوى 4
- الرواية : مَهوى 3
- الرواية 2
- الرواية : مَهوى
- الأولى والآخرة : مَرقى 13
- الأولى والآخرة : مَرقى 12
- الأولى والآخرة : مَرقى 11


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 7