أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 6















المزيد.....

الفصل الثالث : مَنأى 6


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3004 - 2010 / 5 / 14 - 17:16
المحور: الادب والفن
    





" إنّ أبي سيبيتُ ليلته في مكان آخر ؛ في سوق ساروجة . إنه في ضيافة وجيه مصريّ "
إنها نرجس ، إذاً ، من كانت قد فجأتني ليلتئذ بمعرفتها لغز غياب الشاملي . لم يكن لديّ شكّ ، بطبيعة الحال ، بأنها كانت تقصُد القاروط ؛ فهوَ الوجيهُ المصريّ ، الوحيد ـ على حدّ علمي ـ الذي يقيم في هذا الحيّ ، الراقي . وكانَ والدها ، قبيل اختفائه ، قد طلبَ من كبيرة أن تنقل منامَة ابنته من الدور الأرضيّ إلى الدور الفوقانيّ . عند ذلك ، شاءتْ نرجس أن تشارك مشرفة الردهة ، الثالثة ، حجرتها الصغيرة ؛ بما أنهما أصبَحتا صديقتيْن . من هناك ، كانت البنتُ الحسناء ، الجَسورة ، قد تسللتْ إلى مكاني هنا ، بعيد منتصف الليل مباشرة ً. وها هوَ الفجرُ ، بدوره ، يتسللُ إلى حجرتي ، خلل الكوّة المُعتليَة جدارها القبليّ : إنه يعلنُ عن حضوره ، الحَييْ ، بعلامة متدلهة من زقزقة عصافير الحديقة ، القريبة ، كما وبمَشام الشمْشير ، العَبق ، المُسَوّرَة أغراسُهُ ، المُقبّبَة ، الحوضَ الضيّق ، الرابضَ حذاء باب الحجرة .

" لا بدّ أنهم ثمة ، في المَسجد ، لحَظوا تغيّبك عن صلاة الفجر "
قلتُ لنرجس ، المُتمدّدة قربي برخاء جَسَدها الجميل ، الرشيق ، المُكتنز حَسْب عند الردفيْن والنهديْن . إذاك كان رأسُها ، المُعشَّقُ بلهَب من عقيق الشَعر، متوسّداً على النمْرَقة جنباً لجنب مع رأسي المُتمَلمل ، المَلول . حينما أفصحتُ لها عن قلقي ، التفتتْ إليّ لتجيبني بنبرَة لا مُبالية : " أعتقدُ أنّ شمْس ، صديقتي ، قد تدبّرتْ الأمرَ "
" أهيَ تلك المُشرفة ، التي كانت سببَ المأزق ؟ " ، تساءلتُ باهتمام . فما كانَ من وجه نرجس ، الصَبوح ، إلا الإظلام بتجهّم ، مُبين ؛ وكأنما شبحٌ ما ، ملعون ، قد تجسّمَ لعينيْها . ثمّ ما لبثتْ أن أخذتْ نفساً مَديداً ، مُثابراً ، وقالت باحتقار : " يا لذاك العجوز ، القذر. إنه الشيطانُ بعينه "
" إنه شيخُ الشام ، بعد كلّ شيء "
" الشام ؟ لم يبقَ من هذه المدينة ، المَلعونة ، سوى اسمها حسب "
" لا تنسي أنها مدينة الله . إنّ كلمة الحَقّ ، ولا ريب ، سَتبثُّ أخيراً في مَنطق خلقه "
" هذا سيكونُ ، بعدما يفنى الخلقُ بالطاعون والجراد " ، قالتها بتأثر ومَوْجدة . أدركتُ أنّ الفتاة الفاتنة ، الحَصيفة ، كانت تعني الوهّابية والانكشارية . ولكن ، ما لم يكن بمُسْتوى إدراك كلينا ، أنّ هاتيْن الآفتيْن ، المَوْسومتيْن ، سيكونُ عليهما جرّ أذيال الهزيمة من هذا الحيّ ، على الأقل . نعم . يومان ، على الأثر ، وظهرَ الشاملي بيننا . ولكن ، أيّ ظهور مُباغت ، مُبهر ، كانَ عليه أن يجتليَ عندئذ .

غادرتْ نرجس غرفتي ، من غير إبطاء . إلا أنّ النعاسَ ، كانَ ما يفتأ عصياً على عينيْن ، ذاويتيْن ، أجفى النومُ أجفانهما. قبل ذلك ، حينما كانت البنتُ عندي ، داهمَني الدوارُ مرة وراء الأخرى . إنّ الريَبَ كانت تتناهبني من جديد ، بعدما جازَ لها أن تخمُدَ على أثر مفاجأة حضور ذلك الشيخ ، الشيطان . في مهبّ هذه الهواجس ، رأيتني أهملُ شأنَ صلاة الفجر ؛ التي فوّتُ ميقاتها ، على كلّ حال . إنه شبَحُ القاتل ، من شاءَ الآن أن يقلقَ رقادي .
فحينما هتفتُ بالشاملي ، في ظهيرة الانكشارية تلك ، الجهنمية ، أن ينقذ ياسمينة من براثن القاتل ؛ فإنني كنتُ أعني ولا غرو ، قوّاص آغا . غرْسُ هذه الشبهة ، كنتُ أنميه في ذهني يوماً أثر يوم . إلا أنني ضرَبتُ صفحاً عن ذلك أخيراً ، عندما أضحى مصيرُ آمر اليرلية بعلم الغيب ؛ مع ترجيح مقتله بيد منافسيه ، ثمة في بيت كبير الأعيان . لا أنكرُ أنّ عبارة حانقة ، أفلتتْ من لسان سرّي ، تؤكد عزمي على متابعة القاتل ، حتى لو كانَ قد أرفقَ سرّه معه إلى القبر . شبهة القتل ، المُلتصقة بجلد اليرلي باشي ، كانَ لها عندي أكثر من داع ؛ سواءً بسواء أكانَ ذلكَ مُبرَمَ يقين أو محضَ شكّ .

في أمسية الجدَل ، التي سبقتْ ليلة الأورطات ، أرادَ المُضيف أن يندَه على الخادم ، لكي يُخفف من وهج المسْرَجة ، المُعلقة فوق رؤوسنا ؛ بهدف اتقاء شرّ الهوام ، المزعج . وإذا بآغا أميني يهبّ عندئذ من مجلسه ، لكي يُعالج الموضوع بنفسه . للحظات ، كانت أبصارُ الآخرين ، جميعاً ، متعلقة بالرجل ؛ وهوَ مستو بقامته ، المَمشوقة ، ويده ممدودة نحوَ ذلك الغرَض : أليسَ من الوارد أنّ قوّاص آغا ، وقد انتهزَ الفرصة ، السانحة ، كانَ لحظتئذ يدسّ مَدقوقَ السمّ ، خفية ً، في فنجان منافسه ، اللدود ؟
كما أنّ موضوع خطبة ياسمينة ، كانَ بدوره قد دفعني للتوجّس بأمر آخر ، يخصّ مقتل الوصيف . وهوَ احتمال كون القوّاص ، من تواجدَ معَ خطيبته في حجرتها ، في ليلة الأورطات تلك ، وقبيل لقائي معها . فما دامت حجرة أبنة الشاملي تملك درجاً ، سرياً ، يُفضي للقبو ، فكان وارداً أن يكونَ الرجلُ قد استخدمَ المفتاح ( المسروق من الوصيف ) ، بهدف التسلل إلى البيت التحتاني ، بدون أن ينتبه أحدٌ له . فإذا كانَ الوصيفُ ـ المُشرع بمحاولة الفرار من الدار ـ قد فضحَ ، اتفاقاً ، وجودَ القوّاص ثمة ؛ فلا يُستبعَد إذاً أن يكونَ سقط صريعاً بخنجره . وربما هذا كانَ سبب إحجام ياسمينة ، المُثير للاستغراب ، عن استعمال الدرج المؤدي للقبو في لحظة الخطر تلك ، المُميتة : فهل كانت قد سمعَتْ صرخة الوصيف ، المُحتضر ؟
في هذه الحالة ، يكون القوّاص قد قتلَ آغا أميني عَمْداً ، بينما أنّ مقدوراً جعله يقتل الوصيف اتفاقا . إلا أنّ قبوله خطيباً من لدن ياسمينة ـ ومهما يكن معنى شروطها لإتمام عقد القران ـ لهوَ أمرٌ مُحيّر ويثير أيضاً تساؤلات جمّة . إنها فتاة عاقلة ولا ريب ؛ ذات شخصية قوية ، مستقلة. فضلاً عن حجاب قسَم أبيها ، المنذور لسعادتها الزوجية . فلمَ إداً ستضع حياتها ، بهذه السهولة ، بينَ يديْ آمر اليرلية ؛ وهوَ المعروفُ بصلفه وتعنته ، علاوة على كونه متعدد الأزواج والجواري ؟
أيمكن أن يكونَ دسّه السمّ لآمر القابيقول ، كانَ بطلب من خطيبته ؛ وأنّ ذلك هوَ الشرط الرابع ، السرّي ، لقبوله بعلاً ؟ ولكن ، لمَ تتورّط امرأة ، فتية ، مثل ياسمينة ، بموضوع شنيع يُنافي مَسلكها ورهافة مشاعرها ؟ أبسبب كناش البرزنجي ؛ الذي كانت قد قرأته ـ كما سلفَ وعلمنا ؟
كلّ ما أوردته ، آنفا ، إنما كانَ من افتراض مخيلتي . وفي نهاية المطاف ، إذا كانَ القوّاصُ جانياً ، فإنه في هذه اللحظة بين يدي ملائكته ؛ وربما يحاسبونه حساباً ، عسيراً . أما نحنُ ، البشر الفانين ؛ فلا يجوز لنا إلا طلب الرحمة للميّت.

بالمقابل ، فأكثر من إشارة ، كانت الآن تتجه نحوَ نرجس ، مُحيلة ً إياها إلى صفة الجاني ، أو بالقليل ، أداته . أورادُ الشبهة ، داوَمتُ على ورْدها من قراءتي لدلائل ، عديدة ، في سطور كتابَ الحكاية، التي سبقَ أن روتها إبنة الشاملي هذه ، البكر ، والأشبه بأسطورة .
أوّل دليل : أنّ الانكشاريّ الذي اختطفَ ماريا ، أمّ نرجس ، لم يكن سوى آغا أميني ؛ وهوَ من عَمَدَ إلى وَهْبها للشاملي كهديّة . ولا ننسى ، أنّ كناش البرزنجي ، كانَ أيضاً عربونَ صداقة الرَجليْن .
الدليلُ الثاني : يُداور في فلك حقيقة ، معروفة ؛ في كون الوصيف ذاك ، قريب القادين ، من دأبَ على تنفيذ أوامرها الوخيمة ، الأكثر مدعاة للتكتم والصمت ـ كدَسّ السمّ لهذه أو تلك من غريماتها وأبنائهن .
الدليلُ الثالث : هوَ إجابة نرجس المُرتبكة ، المُتلعثمة ، على سؤالي لها ، عن كيفية قضائها الساعات الرهيبة لليلة الأورطات ، المَهولة. فبحَسَب ما أفادتني به ، أنها كانت " تتسلى " في المطبخ صُحبَة خدم الدار ، حينما دوهموا بنذير الهجوم ؛ فما كانَ منها إلا أن رافقت الخدم خلال فرارهم ، والتجائهم من ثمّ للمسجد الصغير ، المجاور . دلالة المَطبخ ( السّم ) ؛ أليستْ كافية ، وحدها ، لكي يرتابَ المَرءُ بمسلك الفتاة ، في تلك الليلة ؟
الدليلُ الرابع : ما يَربط نرجس من علاقة مع الصقليّ ؛ علاقة ، تبدو عاديّة مَظهراً ، إلا أنها تتبَطنُ غموضاً ، أيضاً . إنهما أصلاً من بلدَيْن ، مُختلفيْن . ولكنّ البنادقة والصقالبة ، كما هوَ معلوم ، يوحّدُ بينهما اللغة الطليانية . فمنذ عودة نرجس لبيت أبيها ، قبل حوالي نصف السنة ، طلبَ منها المملوكُ ، برجاء وإلحاح ، أن تساعده لكي يستعيد بدوره لسانه الأم . دلالة العلاقة ( الانتقام ) ؛ ألا تحيلنا كذلك إلى حقيقة أخرى ، لا تقلّ سطوعاً ؛ وهيَ أنّ كلاهما كانَ يترصّدُ نفسَ العدوّ ـ وصيف الشاملي ـ الذي ألحقَ بهما آذىً لا يمكنُ علاجه ؟
الدليل الخامس : أنّ الصقليّ ، لم يُنكر تغييره ملابسي ، عندما غشيَني بحرانُ الحمّى . ولكنه أنكرَ قطعاً أن يكون قد عثرَ على حزمة الأوراق تلك ، التي كانت طيّ الملابس . كذلكَ كانَ المملوكُ ، قبلاً ، قد ادعى بأنه لم يقرأ الكناش ، حينما عثرَ عليه رفيقه ، القبرصيّ ؛ وأنه لم يفعل ذلك أيضاً ، لما أعادته له ياسمينة بعدَ فراغها من الاطلاع عليه .
الدليل السادس : أنّ كلّ تلك الأمور ، الخطيرة ، حصلتْ بعد عودة نرجس إلى بيت أبيها ـ كوصيفة مزعومة لأبنته . والسؤال هنا ، لمَ لمْ يَنبُس الصقليّ بكلمة واحدة عن هذه المُقيمة ، الجديدة ، وما إذا كان لها علمٌ بموضوع الكناش ؟
الدليل السابع والأخير : أنّ نرجس ، التي سلمتْ لي حزمة الأوراق بحسَب طلب أختها ، قالت لي بلهجة صادقة ، لا يُمكن الرَيب فيها ، أنها لم تقرأ متنها . وخلالَ رواية البنت لحكاية اختطاف أمّها ، فإنها أفادتني بأنها استفادتْ من يوميات شخصية خلفتها ورائها هذه ، المرحومة ، مكتوبة بلغتها الطليانية . يمكنُ لهذه المعلومة ، غير المَكتومة ، أن تكون قد تناهتْ للصقليّ ؛ فتوهّمَ بأنّ ياسمينة ، بدورها ، كان قد سبقَ لها وكتبتْ يومياتها في تلك الأوراق ، المُسلمة إليّ عن طريق نرجس . بهذه الحالة ، أليسَ من المعقول أنّ المملوكَ عمَدَ إذاك إلى سرقة " كناش ياسمينة " ، خوفاً من أن يصلَ ليد أبيها ، المُخيف ، فتفتضحُ سيَرُ العشق ، السرّية ، المُدوّنة على سُرر وأرائك وبُسُط الحَرَمْلك والخدَمْلك ؟

" عليّ أن أعمُدَ إلى إجبار الصقليّ على الكلام ، حتى لو اضطررتُ لتهديده "
فكرتُ في سرّي ، وأنا أتمثلُ سحنة المملوك ، المَرسومة بريشة المكر . قبل أن أستسلم لسلطة النوم ، الغاشمة والساغبة في آن ، تمنيتُ من الله مُخلصاً أن يحفظ الشاملي وأهله ، أجمعين . وحينما أفقتُ ، مرّة واحدة حسب ، أدركتُ أنّ غفوتي ، المطوّلة ، كانت بلا أحلام أو كوابيس . نعم . كان ذلك من شدّة التعب والإرهاق والقلق .
نهضتُ من فراشي ، على أيّ حال ، مُتيقناً أنها ساعة الظهيرة ، أو أزيَد من ذلك بقليل . ثمة ، في الردهة الظليلة ، الرطيبة ، المفتوحة على مناظر الحديقة والمَعْشبَة ، كدتُ أن اصطدمَ بإحدى نساء الدار . ولكن ، يا للموقف الفكه . إنه القبرصيّ ، من كانَ يقفُ أمامي بهيئته المُضحكة ؛ بملبَس نساء المدرسة المُحتشم ، الأسوَد . رأيته متغيّر اللون ، لاهثَ الأنفاس . وكانَ التوجّسُ باد في عينيه الكبيرتيْن ، الجميلتيْن . عندئذ قال لي ، بأنّ المملوكَ الآخر ، رفيقه ، مفقودُ الأثر منذ الفجر ." كيفَ ذلك ؟ ألا تنام معه في نفس الغرفة ؟ " ، سألته باهتمام . أجابني بلهجة مُداورة ، لم تخفَ عليّ : " أجل ، ولكنه أفاقَ مُبكراً ربما " . دبّ فيّ القلق ، ولا غرو . استعدتُّ بلمحة واحدة ، ما كانَ من تصاريف أمور الصقليّ ، الغريبة ، في هذه المدرسة : لا أعني حسب ، موضوع " كناش ياسمينة " ؛ وإنما أيضاً ، مسلك المملوك هنا ، المُتسم بالكسل واللامبالاة . بطبيعة الحال ، لم تكُ هذه هيَ المرة الأولى ، التي يختفي فيها عن الأنظار مهملاً ما يتوجّبُ عليه من عمل .
" هل عادَ سيّدكَ ، أحيراً ؟ " ، سألتُ القبرصيّ ، فهزّ رأسه نفياً . فما كانَ مني إلا أن تركته مع هواجسه ، ثمّ مَضيتُ نحوَ عملي ؛ مضيتُ ، بدوري، مع هواجس معدتي ، الفارغة . هناك ، في كوخ معلمي ، العشّاب ، كانت مفاجأة أخرى تكمنُ لي . كانَ صاحبنا ، المملوك المفقود ، المُتنكر أيضاً بهيئة الخادمات ، متمدداً بطوله فوق الديوان الخشبيّ الرث ، المُتهالك ، وقد علا غطيط غفوته .

جلبَ الصقليّ الغداءَ من مطبخ المدرسة ، ثمّ ما عتمَ أن شاركني فيه . لم يكن ما نأكله هوَ الطعام المُقتصََد ، الاعتباطيّ ، للدارسات والمشرفات والعمال والخدم . كانَ أمامنا ، إذاً ، أصنافٌ مُستساغة ، مُتنوّعة ، من وجبَة غداء كبيرة ومساعداتها ؛ أصناف ، مُطنبَة بالسلطات والمُشهيات واللحوم والخضار . إذاك ، كنتُ ألتهمُ الطعامَ بلذة الجائع النهم ، حينما وجدتها مناسبة ، سانحة ، لإستنفاض خبيئة المملوك . فسألته بنبرة ، مَرحَة : " علمتُ أنكَ تلميذاً ، مُثابراً ، لدى الوصيفة ؟ " ،. وإذا باللقمة ، المُعتركة مع أسنان الصقليّ ، الناصعة المصقولة ، تكاد تخرج وضحكته المُستهترة : " إنكَ تعني ، يا سيّدي ، وصيفة ياسمينة تلك ، المزعومة " ، قالها وقد كفّ عن الضحك . لم تأخذني إجابته ، الصريحة ، على حين غرة . لقد تمنيتُ حينئذ أن يستمرّ المملوكُ ، الماكرُ ، على صدقه معي . على ذلك ، توجّهتُ إليه بمساءلة أخرى : " وهل خبر نرجس ، الخفيّ ، كانَ مكشوفاً لكم من زمان ؟ " . لقد تعمّدتُ أن استخدمَ صيغة الجمع ، لكي يعرف هوَ بأنني أعني أهل بيت الشاملي ، أيضاً . فأجابني من فوره ، دونما حاجة لوهلة تفكير : " لم أعرف أنها ابنة الشاملي ، البكر ، إلا بعدَ أجل قصير من وفاة القادين لكبيرة "
" وماذا عن ياسمينة وصديقك ، الروميّ ؟ "
" والروميّ ، أيضاً . أما أختها ، فإنها كانت ، بالطبع ، على علم بالأمر منذ اليوم الأول "
" أنتَ تقولُ ، بالطبع ؟ "
" أجل ، فماذا تعتقدُ أنتَ ، يا سيّدي ؟ " ، سألني الماكرُ بدوره . هنا ، سكتُّ برهة مُتذرعاً بالتأمل . إنّ خطتي ، كما أرى ، تسيرُ سيرها الحَسَن ، المَطلوب . وقلتُ أخيراً للمملوك : " لا رأي لي ، في الحقيقة . فلم يعلمني أحدكم ، قبلاً ، بأمر الوصيفة تلك ، المزعومة " . ثمّ أعقبتُ مُتسائلاً بنبرَة مُبيّتة ، مَقصودة : " ماذا كانَ برأيكَ وَجْهُ السرّ ، في أمر نرجس ؟ لم أرادَ أبوها التكتمَ على كونها ابنته ، حتى بعدما ماتت القادين ؟ " . وعلى غير مألوف عبيد الدار ـ غفرانك أيها الربّ ، المَعبودُ ـ حدّقَ المملوكُ في عينيّ مباشرة ً. ثمّ أجابني أثرَ مهلة من الصمت : " ماتت القادين ، أجل . إنما قريبها ذاك ، الوصيف ، كان حياً ما يفتأ " . نعم . لقد تيقنتُ الآنَ من حقيقة ، أنّ كلاً من المملوكيْن ، علاوة على نرجس ، كانَ على هيئة من الملمَح ، واحدة ، حينما يَنطقُ كلمة " الوصيف " .

" وإذاً ، فإنّ ذبحَ الرجل ، كانَ ولا ريب ، أفضل طريقة للخلاص من المأزق "
قلتُ للصقليّ وأنا أتمعّنُ ، ملياً ، بسَواد عينيْه ، الألق . ولكن ، على غير توقع ، رَسَمَ هذا على شفتيْه بَسْمَة تشفّ ، قبلَ أن يُجيبَ بحبور : " ليسَ ذبح الوصيف ، حسب . إنّ اللعنة ، الإلهيّة أو الشيطانيّة ، حلّتْ ذلكَ المُشكل ؛ حينما أحترقَ منزلُ الشاملي ، أيضاً " .
لعنة ؟ يا إلهي ، الرحيم . كأنني أمامَ جلاد الجحيم ذاك ؛ الذي سبقَ لي ، يومَ أمس ، أن تمنيتُ انتهاء شيخ الشام إلى يَديْه العادلتيْن ، المُريعتيْن . الآنَ أدركتُ ، جلياً ، لمَ فارقَ الصقليّ حذرَهُ وذعرَه ، عندما أخذ يُفصح بغير مُواربَة عن أحاسيس باطنه ، الحقيقة : لم يَعُد ثمة خشيَة من تعرّضه للمساءلة ، أو المُحاسبَة ، بعدما أضحى أولو الأمر ، بأنفسهم ، مُطارَدين ، مَطلوبينَ من لدن القوّة الغاشمة ؛ التي سيطرَتْ على زمام الشام .
" أنتَ على حقّ ربما ، أيها المملوك . ولكن ، كيفَ سيكونُ أمركَ ، إذاك ؛ عندما تتغيّر صفة الوَضع ، مُجدداً ، فيعود إلى مألوف حاله ؟ " ، سألته هذه المرة بأوضح العبارات وأقساها . أخلدَ الصقليّ عندئذ لصمت مَديد ، مُريب ، وقد راحَ يمدّ بصرَه خللَ النافذة نحوَ مَشهد الحديقة ، الداني . من ناحيتي ، قمتُ إلى الجرّة الكبيرة نوعاً ، الموضوعة قربَ الباب والمُستعملة أحياناً ـ كمَيضأة . نهلتُ من مائها بضع جرعات ، ثمّ غسلتُ به يديّ . وإذا بالمملوك يلتفتُ إليّ بنظرة مؤسيَة ، فيبتر سكوته بالقول : " أدركُ ولا ريب ما تعنيه ، يا سيّدي . إنكَ تظنّ بأنني ذاكَ القاتل ، المجهول ؛ الذي تبحث أنتَ عن أثره " ، قالها وأضافَ متسائلاً " وعلى فرض أنني من ذبحَ الوصيف ، فما هيَ مصلحتي بدَسّ السمّ لآغا القابيقول ؟ " . تطلعتُ إليه ، وسكتّ . جاء حظي لأستسلم أيضاً للصمت . كنتُ اللحظة أشفقُ عليه ، من صميم قلبي . بل وكنتُ على استعداد لمسامحته ، والتستر عليه ، لو كانَ " هوَ " القاتل ، حقا. وتشديدي على الضمير المنفصل ، إنما لكوني آنذاك ما أفتأ خائفاً من أمر جلل ، مُستطير : أن يكونَ شخصٌ آخر ، غير الصقليّ ، هوَ من تخلص من كلاً الرجليْن وعلى خلفيّة مُرتبطة بلغز الكناش ؛ وبالتالي ، أن تستمرّ سلسلة القتل على انفراطها حلقة وراء حلقة .



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الثالث : مَنأى 5
- الفصل الثالث : مَنأى 4
- الفصل الثالث : مَنأى 3
- الفصل الثالث : مَنأى 2
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7
- الرواية : مَهوى 6
- الرواية : مَهوى 5
- الرواية : مَهوى 4
- الرواية : مَهوى 3
- الرواية 2
- الرواية : مَهوى
- الأولى والآخرة : مَرقى 13
- الأولى والآخرة : مَرقى 12
- الأولى والآخرة : مَرقى 11
- الأولى والآخرة : مَرقى 10


المزيد.....




- افتتاح الدورة الثانية لمسابقة -رخمانينوف- الموسيقية الدولية ...
- هكذا -سرقت- الحرب طبل الغناء الجماعي في السودان
- -هاو تو تراين يور دراغون- يحقق انطلاقة نارية ويتفوق على فيلم ...
- -بعض الناس أغنياء جدا-: هل حان وقت وضع سقف للثروة؟
- إبراهيم نصرالله ضمن القائمة القصيرة لجائزة -نوبل الأميركية- ...
- على طريقة رونالدو.. احتفال كوميدي في ملعب -أولد ترافورد- يثي ...
- الفكرة أم الموضوع.. أيهما يشكل جوهر النص المسرحي؟
- تحية لروح الكاتب فؤاد حميرة.. إضاءات عبثية على مفردات الحياة ...
- الكاتب المسرحي الإسرائيلي يهوشع سوبول: التعصب ورم خبيث يهدد ...
- من قال إن الفكر لا يقتل؟ قصة عبد الرحمن الكواكبي صاحب -طبائع ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 6