|
الفصل الثالث : مَنأى 4
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 3001 - 2010 / 5 / 11 - 00:26
المحور:
الادب والفن
مُنقلب حال هذا الصباح ، الربيعيّ ، من صحو إلى كدَر ، كانَ نذيراً ربما بجلل القادم من الساعات . عندئذ توارت كرة الشمس ، المُلتهبَة ، خلفَ خمار السّحاب ، القاتم ، الزاحف حثيثاً . كنتُ إذاً في كوخ معلمي ، العشّاب ، أرقبه عن كثب وهوَ يُقطر في الإنبيق خليط أحدى صفات عطارته ، الناجعة ، المنذورة لأهل دار الحديث . حينما أجدُ داع لتدخلي ، كنتُ أهرع لتقديم العون بكلمة عابرَة ، مُقتضبَة ، كيلا أقلل من خبرَة معلمي ودربَته . ولكنّ هذا العجوز ، من جهته ، كانَ يُعاملني بكثير من الاحترام ، بل والتبجيل أحياناً ، وكما لو أنني المعلمُ هنا . لا شكّ أنّ مُضيفتنا ، كبيرة الحافظات ، هيَ من سبقَ وأوصى الرجلَ ببذل ما بوسعه من لباقة في حضوري . لقد تأكد لي ذلك ، يقيناً ، فيما جدّ من أمر هذا اليوم ، الجَهم . " أحقاً ، كما يُقال ، أنّ سماحة شيخ الشام سيمرّ على المدرسة ، بنفسه ، في جولة تفتيشية ؟ " ، سألني العجوزُ باهتمام . كنتُ مستلق بدعَة فوق الدفة الخشبية ، العريضة ، التي تقمّصتْ صفة الديوان . فما لبثتُ أن رفعتُ رأسي عن النمرقة ، الخلقة ، مُتوجّهاً نحوَ المُعلم لأجيبه بنبرَة مُداورة ، غير مًكترثة : " لا علمَ لي بذلك " . ولكنّ الرجل ، إذ أنهى ما بيده ، كان على ما يبدو راغباً بالثرثرة . فعاد ليقلص خلجات وجهه ، المُشوّه بأخاديد الزمن ، قائلاً بحيرة : " مضى عليّ عقد من الزمن ، وأنا أعملُ هنا . إنها المرة الأولى ، كما أذكر جيداً ، التي يوافينا فيها بالزيارة ضيفٌ على هذا القدر من سموّ المركز " " فما هوَ داعي زيارته ، باعتقادك ؟ " " إنّ لهذا علاقة ، والله أعلم ، بما طرأ على الولاية من تغيّرات ، في الآونة الأخيرة " ، أجابني العجوز بشيء من الضيق . ثمّ ما عتمَ ، على الأثر ، أن أردفَ قائلاً : " يقولون ، أنه من بعد ، لن يكونَ بوسع نساء المسلمين أخذ قسط من العلم ؛ لا في الكتاتيب ولا في المدارس " . نعم . إنه يَعني دعوة أبن وهّاب ، التي تريدُ جماعته ، الشاميّة ، فرضها على الخلق بسيف الانكشاريين ، الجهلة . بَيْدَ أنني ، حرصاً وحذراً ، فضلتُ ألا أعلق أهمية على الحديث . تطاول الصمتُ لبرهة أخرى ، قبل أن يُعاود المعلمُ كلامه بصوت كالهمس : " منذ ستة قرون ، وهذه المدرسة تخرّج أفضلَ حافظات كتاب الله ، الكريم ؛ من مفسراته ومُجوّداته . ولم يَحصل انقطاعٌ في الدراسة عندنا ، إلا في زمن المغول والتتار ـ كما سبق لي وعلمتُ من كبيرة " . هذا الاسم ، الأخير ، هوَ مُختصرُ صفة " كبيرة الحافظات " ، وكانَ شائعاً آنئذ على لسان كلّ من المقيمين في دار الحديث . خارجاً ، كانَ هبوبُ الهواء يشتدّ ، وصارَ يتناهى من بعيد صدى الرعد . إلا أنّ أعصابي ، في هذه الفترة العصيبة ، المضطربة ، كانت من التوتر أن أجفلتُ مُروّعاً ، حينما دوى قصفٌ مُرعدٌ ، مُزمجرٌ ، فوق رؤوسنا .. لقد توهّمتُ أنها قنابرٌ ، غادرَة ، تتساقط على الدار . فما لبثت قطراتٌ من الغيث ، كبيرة ، أن راحَتْ تطرقُ سقف بيتنا الصغير وجدرانه ، الخشبية .
بُعَيْدَ صلاة الظهر، وفيما أنا أغادرُ المَصلى ، إذا بضجة تتأتى من جهة بوابة المدرسة ، الرئيسة . هنيهة على الأثر ، والهَرَجُ يَسودُ الدار الكبيرة ، المُعينة الهدوء والوداعة . إذاك حثثتُ خطوي في عجلة نحوَ جهة الحديقة ؛ أين يقومُ كوخ العشّاب ، مُعلمي . إلا أنه بحَسَب خطة " كبيرة " ، سأكونُ أنا من يستقبل شيخ الشام ، حينما يظهرُ في طرفنا . أما العجوز ، فإنه سيكونُ معلماً ، مؤقتاً ، على جماعة النمل ، التي تسعى بين مساكب الورود والأزاهير : كان من المُفترض أن يُمثل دورَ البستاني ؛ طالما أنّ الشاملي اختفى في مكان ما من الدار ، ولحين مغادرة ضيفها ، الثقيل . هنا ، في الكوخ الصغير ، رحتُ ألقي نظري على موجودات العشّاب ، والتي كانت من الندرَة ، حقا ، أنّ مسألة فقدانها لم يكن ليضرّ كثيراً بالدار وأهلها . " أين هذا المكان المُبتسر ، الكئيب ، من دكان العطارة ، الفاره ، الذي ملكته يوماً ؟ " ، قلتُ مُتحسّراً بصوت مَسموع . عليّ كان ، من ثمّ ، أن أطلق تنهدة بأثر أختها ، مستعيداً في ذهني صوَرَ تجارتي الأولى ، المُزدهرة . آنذاك ، كانَ المَشهدُ الخارجيّ لمحلي من عظم التأثير على النفس ، حجماً وبضاعة ، أنه كثيراً ما شبّه من لدن المُشترين بقيساريّة محدودة المساحَة : بساحته المربّعة الشكل ، المُقنطرة جوانبها الأربع بالأقواس الحجرية ، والمُحتضنة مدخل العمارة ، المَملوكية الطراز ؛ وبحركة زبائنه الكثيفة ، الرائحة والغادية ـ كانَ المحلُ مثل خلية نحل ، نشطة ، في ربيع خالد . ولكن ، كلّ ذلك أندثرَ في ربيع العامّية ، الأسوَد . " يا عبد الله أفندي " ، كانَ هذا نداءُ أحدهم باسمي الآنيّ ؛ الاسم ، المُستعار من قاموس الضعة البشرية . قطعَ إذاً سبيلُ أفكاري ، لما دُعيت إلى حجرة كبيرة الحافظات . أصلحتُ من شأن مظهري ، البرانيّ ، ثمّ مَضيتُ إلى لقاء الضيف ، مُرجّحاً أنه أعفى نفسه ، المُرفهة ، من عناء البلل والوَحل . ثمة ، أمامَ باب الحجرة ، ميّزتُ هيئة رَبيب الدّجل وصَنيع القوّة . كانَ شيخ الشام قد شرَعَ عندئذ بالخروج من الحجرة ، يرافقه بعض أعوانه ، علاوة على " كبيرة " ومساعدة لها . ما أن تأملته بلمحة من عينيّ ، سريعة ، حتى تذكرتُ مَشهداً مؤلماً ، محفوراً أبداً طيّ صفحات ذاكرتي . " أرجموا الزانية " ، هكذا كانَ يصرخُ المَسعورُ يومئذ ، مُحرضاً الجمهور الأعمى ، الممسوس . وكيف يمكن لي أن أسلوَ منظر قذف الحجارة باتجاه تلك البنت التعسَة ، التي فضلت الموتَ غرقاً بقبضة عزرائيل ، الرحيمة ، على عملية التعذيب الممضة ، المميتة ، بيد الجلاد القرمزيّ ، المارد . إلا أنّ الغوغاء وشيخهم ، لم يشفَ غليلهم آنذاك سوى بمرأى جثة الضحية الممزقة الأشلاء ، والمَحمولة على لجّة تيار النهر . نعم . كلّ بنت ، أكانت على دين الإسلام أم على دين غيره ، تمّ تعذيبها وإغراقها في نهر بردى ، ظلماً وجهلاً ، ستكون في قادم الأيام بمثابة لعنة على المدينة ونهرها ، سواءً بسواء .
" أمض أمامنا دليلاً ، يا عبد الله أفندي . فإنكَ على معرفة ولا غرو بالدور العلويّ " خاطبني الشيخ باحتفاء مُتظاهر ، مُبطناً نيّته السيئة ، النكراء . كانَ يتمنى ، على أرجح تقدير ، لو يخلع عنه جبّة المَشيخة ليكتسي بدلاً عنها ملبَسَ العطارة . وعلى كلّ حال ، كانت هذه هيَ المرة الثانية ، التي أجدني فيها هنا ؛ في الدور المُحتبي حجرات دارسات الحديث والفقه والتفسير . ففي صباح هذا اليوم ، كانت " كبيرة " قد طلبت من مُساعدة لها ، طاعنة في السنّ ، أن تصعدَ معي إلى فوق ، لكي أعتاد المكان . ثمة ، لحظتُ أنّ كلّ ردهة كانت تضمّ خمس حجرات ؛ أربع منها كبيرة الحجم ، مخصصة للدارسات ، وواحدة صغيرة نوعاً ، لإيواء المشرفة عليهنّ . وها أنا ذا ، أصبحُ بنفسي مُرافقاً . فما أن ارتقيتُ ، معيّة الوفد ، الدرجَ المُعتم قليلاً ، المؤدي للردهة الوسطى ، حتى أخذتُ أتساءلُ بسرّي عن الكيفية التي سأميّز فيها نرجس عن بقية البنات : كنّ وقتئذ في حشمة الملبس القاتم ، المسدول من الرأس حتى القدَميْن . أما البرقع ، المُحْتجب خلفه تفصيل الوجه ، فكان من السماكة أنّ صاحبته ستنكرُ ذاتها ، ما لو تطلعتْ في مرآة . " ولكن ، ما حاجة هذا الوهّابي ، الفاسق ، بتفقد منامة للنساء ؟ " ، خاطبني داخلي بمساءلة حانقة . وإذ أشدّدُ ، في كلّ مرة ، على صفة شيخ الشام ، فلأنه جديرٌ بها ولا غرو : إنّ هذا العجوز ، المُترامية سنه على عتبَة الآخرة ، يبدو كشخص دهريّ يعيشُ لحياته الدنيا ، حسب . والأقلّ سوءاً ، أنّ ثرثرته لم ترفق مرة قط بذكر آية كريمة أو حديث شريف . يقيناً ، إنّ الله سيَغفر لي شهادتي هذه . بل وأجرؤ على الظنّ أيضاً ، بأنه جلّ وعلا سيجعلني في يوم القيامة شاهداً على مصير ذلك الفاسق : عندما يكون هوَ بقبضة جلاد جهنم ، فيغرقه في النهر بعد عذاب مرير ، فيحييه من جديد ثمّ يغرقه ؛ كرّة وراء الأخرى وإلى أبد الآبدين . ولكننا الآنَ ، ما نفتأ بعدُ في الحياة الأولى . لقد مضتْ سويعة على جولتنا ، في الدور العلوي ؛ على فتح أبواب وإغلاق لها . حتى وصلنا إلى الردهة الثالثة ، القصيّة ، والتي تقعُ مباشرة ً فوق حجرات الدور الأرضي ، المَبذولة لإقامتنا . هنا ، تحقق هدفُ جولة الضيف ، التفتيشية . إذ وقعَ ، على حين فجأة ، ما لم يكن بالحسبان . صَدَرٌ ضحكٌ ، أو ما يُشبه ذلك ، من وراء أحد الأبواب ، الموصدة . وكان ذلك ، باب حجرة المرأة التي تشرف على شؤون الردهة . من جهتي ، كنتُ أعرفُ أنّ هذه المرأة ، بمعنىً ما ، هيَ صديقة نرجس .
" ما هذه الأصوات ، الغريبة ؟ ليفتحَ أحدكم ذلكَ الباب ، فوراً " هتفَ سماحتهُ بلهجة فضول أكثر منها استنكار . كلّ ردهة هنا ، في الدور الفوقاني ، ينفتحُ سقفها المُلبّس بالخشب ، المُزخرف ، على منور واسع له شكل أهرام زجاجيّ . فكانَ الضوءُ وقتئذ كافياً ، ولا ريب ، لحظوة العين بمرأى ما يُحيطها من كائنات ومجرّدات . " ليرفعَ كلّ منكنّ برقعه ، حالاً " ، صاحَ الشيخ بالمُذنبتيْن ، اللتيْن وقفتا قدّامه ، خافضتيْ الجناح . فما أن نطق كلمته الرجلُ ، الأخرقُ ، حتى التفتَ نحوه كلّ الحاضرين بنظرات مُتسائلة ، دهشة . وتلعثمَ ضيفنا ، حينما استطردَ وكأنما يُخاطبُ من حوله ، وليسَ هاتيْن المرأتيْن حسب : " إنّ من تطلق ، بمجون واستهتار ، مثل تلك الهأهأة ، المُنكرَة ، لا يُمكن أن تكون جديرة ببرقع الفضيلة وحجاب الحشمة " . نعم . بل عليها أن تتعرى أيضاً أمامَ عينيكَ ، الذئبيتيْن ، لكي تتملى أنتَ حُسْنَ البدن وقسمات الوجه ـ كما يَجدرُ بمشتر في سوق الجواري . " يا بنتيْ أخي ، ليقبّلَ كلّ منكنّ يدَ سماحة شيخ الشام وليطلبَ أمامه المغفرة والتوبة " ، توجّهتْ كبيرة الحافظات بطلبها إلى المرأتيْن ، المَوْصومَتيْن بمنكر الضحك . فما كانَ من الرجل ، وقد باغتته صفة القرابة التي باحتْ بها مضيفته ، إلا أن تحرّكَ من مكانه بسرعة ـ كما لو أنه يفرّ بجلده ، الذئبيّ . وبدورنا ، نحن حاشية السماحة ، علينا كانَ أن نتأثرَ الخطى العجولة ، المُنحدرة عبرَ الدرج الحجريّ ، الضيق والمُعتم . ثمة ، عندَ مخرج الدار ، توقفَ الشيخُ فالتفتَ نحوَ كبيرة الحافظات ، لينظرَ إليها شزراً . " إنّ الافتخارَ بالعلم ، هوَ أصلُ الزندقة " ، قال بنبرَة مُنذرة ، مَسمومة . وأضافَ مُخاطباً إياها : " إنّ ما لحظته بنفسي في مدرستكم ، لا يُرام مداوَمَته . بلى ، إنه شطط وشطحٌ وتجديف " . كانت الكبيرة في حالة لا تحمَد . ولكنها حاولتْ ، مع ذلكَ ، أن تخفف من غلواء ضيفها . فقالتُ له بلهجة مُتودّدة ، مُستعطفة : ستشرّفنا ، يا سماحة الشيخ ، على مائدة الغداء . وهناك ، سنتكلم معكم في كلّ هذا " " من المُحال ، أيتها المرأة ، أن أضعَ في فمي طعامَ غير المسلمين " ، أجابها وهوَ يَتفجُ بفصيح عبارته . ثمّ غادرَ الدار ، على الأثر . أجل ، يا عبدَ أبن وهّاب ويا نزيلَ السّعير . كنتَ لتضع في فمكَ لحمَ الخنزير ـ استغفرُ الله ـ لو كانَ لتلك المائدة حظوة التمتع بجوار ، مَحظيات ، يترفل كلّ منهنّ بعريها ، الأسنى ، المتماهي برهافة الحرير والدّمقس .
مضى هدءٌ من الليل ، مُتطاول ، قبل أن يتسنى لأجفاني نعمة النعاس . وكنتُ قد آويتُ لفراشي ، مُبكراً نوعاً ؛ طالما أنّ إشغال الفكر هوَ وسيلة التسلية ، الوحيدة ، في هذه الدار ، الكئيبة . لم يكن الشاملي قد ظهرَ بعدُ ، في جوارنا . لا يمكن أن يكونَ مُتوار ، في مكان ما من المدرسة ، بعد كلّ تلك المدّة التي انقضتْ على مغادرة العجوز الدجال . هذا الأخير ، كانَ اللحظة مَحَط تأملي وباعث شجني . فحينما أمَرَ نرجسَ ورفيقتها أن ترميا برقعيْهما ، شعرتُ بالقلب الواجف ، المُروّع ، وكأنما يفرّ من صدري . رَجَحتُ أن تكونَ المُشرفة تلك ، في سنّ متأخرة . فكان مَطلبُ الضيف ، الفاسق ، عندَ المرأة الأخرى : إنها نرجس إذاً ، من حازتْ آنئذ على فرَقي وجَزعي . فقد خشيتُ أن يكشف حجابُها ، المَسدولُ ، سحْرَ وجهها وأسْرَ عينيها . ولكنّ كبيرة الحافظات ، ليحفظها الربُّ ، كانت حصيفة وسريعة البداهة، عندما اختلقتْ صفة القرابة سعياً منها لإنقاذ البنت ، الحسناء ، من مخالب ذلك الذئب ، الشائخ .
" أضحك المرأة ، عورة ؟ " " أجل ، وهذه هيَ الفتوى الأكثر جدّة من فتاواي ، المتواترة " " ما بَدَرَ منكَ هنا ، في المدرسة ، إنّ هوَ إلا شطط وشطح وتجديف " ، خاطبتُ الذئبَ الوهّابي . كانَ إذاك مُقيّداً بالحديد ، ومُحاطاً بعدد كبير من الجلادين ، المموّهين الهيئة بملاءات وبراقع ، سود . طامنَ رأسَه نحوي ، وقال لي مُتسائلاً بقحّة : " وماذا عنك ، أيها العشّاب ؟ أليستْ مَسْكبَة الأجساد هذه ، المونقة ، مُباحة لذكركَ مَعْكاً وهَصْراً ورَهْزاً ؟ " " إنّ حكمتي ، يا جاهل ، هيَ من تشفي أجساد تلك النسوة ، الصالحات " " نسوة صالحات ؟ بل قل إنهن فاسقات ، وجديرات بسوق الإماء " " فأتتَ تبغي ، أيها المُعَرّص ، بيعَ نساء المسلمين لصاحبك الانكشاري ؛ ذي الدّبر النتن ؟ " ، قلتُ له بغضب . وإذا به يُطلقُ هأهأة ً صاخبة ، مُعربدة . ثمّ ما لبث أن أجابني بنبرَة مُقيتة ، مُبيّتة : " إنّ ميلَ آمر القابيقول كانَ لواحدة منهنّ ، حسب . وقد حصلَ على مراده ، عنوة عنك ؛ حصل على فتاتك ، لأنّ أباها كانَ بحاجة لسلطة الوجاق ، الأقوى " .
كانَ وَقعُ الضحكة المُستهترة ، الماجنة ، ما يفتأ يَصْدَى في سمعي ، حينما أفقتُ من غفوة المَنام ، المَنحوس . في اللحظة التالية ، وخلل صفق باب الحجرة ، مَرَقَ أمامَ عينيّ ، المذهولتيْن ، شبحُ شخص ما. نهضتُ على الفور بجذعي ، لكي ألقى من رجّحتُ أنه الشاملي . وإذا بابنته ، من كانَ على نظري أن يُميّز وجودها ثمة . نعم . على الرغم من الظلمة ، البهيمة ، عرفتُ أنها نرجس ، من تقف هناك على طرف المَصطبة ؛ عرفتها ، ولا غرو ، من طيب عرفها ورهافة حضورها . " كنتُ أرجو ، حقا ، ألا يكونَ النومُ قد غلبكَ " ، خاطبني صوتها الخافت ، الأليف ، المنبعث من تلك الجهة ، القريبة . عندئذ ، بدأت ملامحها تبين رويداً ، بفعل نور السماء ، الهيّن . كانت ليلة صحو إذاً ، إثرَ نهار ممطر وعاصف . وداعبتُ نرجس بصوت خفيض : " بل إنّ سلطاناً آخر ، أكثرَ سَطوة ، هوَ من غلبني " . فما كانَ منها ، على دهشتي ، إلا أن زحفتْ بهمّة نحو البقعة الضيقة ، التي أفترشها منامة ً. وكانَ على دورق أنفاسها ، المترع بالمدام الممسك ، المعطر ، أن يُسكرَني بدنوّه . بَيْدَ أنّ فكرة طارئة ، جازَ لها أن تنتشلني من نشوة الثمل . " إنّ أباك غائباً ، ما زالَ . وربما يظهرُ بين لحظة وأخرى " ، قلتُ لابنة الشاملي بلهجة حذرة . ولكنّ نرجس ، في هذه اللحظة الدانية ، على الأقل ، كانت من رخاء البال و دعَته ، أن زهدَتْ بالإجابة . صمتٌ مَيسورٌ ومُلفق في آن ، شافهَ رقادَ هذيْن الكائنيْن ، المُتواشجَيْ المصير بحبكة مَسَلة المقدور . وإذ شعَرَتْ الفتاة بحركة تململي وقلقي ، القريبة من قلبها ، فإنها شاءت أن تطمئنني أخيراً : " إنّ أبي ، كما سبقَ وأعلمني بنفسه ، سيبيتُ هذه الليلة في مكان آخر " قالتها بهمس وأضافت " إنه هنا ، في سوق ساروجة ، على أيّ حال ؛ في ضيافة وجيه مصريّ " .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفصل الثالث : مَنأى 3
-
الفصل الثالث : مَنأى 2
-
الفصل الثالث : مَنأى
-
الرواية : مَهوى 11
-
الرواية : مَهوى 10
-
الرواية : مَهوى 9
-
الرواية : مَهوى 8
-
الرواية : مَهوى 7
-
الرواية : مَهوى 6
-
الرواية : مَهوى 5
-
الرواية : مَهوى 4
-
الرواية : مَهوى 3
-
الرواية 2
-
الرواية : مَهوى
-
الأولى والآخرة : مَرقى 13
-
الأولى والآخرة : مَرقى 12
-
الأولى والآخرة : مَرقى 11
-
الأولى والآخرة : مَرقى 10
-
الأولى والآخرة : مَرقى 9
-
الأولى والآخرة : مَرقى 8
المزيد.....
-
“صناعي – تجاري – زراعي – فندقي” رابط نتيجة الدبلومات الفنية
...
-
إبراهيم البيومي غانم: تجديد الفكر لتشريح أزمة التبعية الثقاف
...
-
بوابة التعليم الفني.. موعد إعلان نتيجة الدبلومات الفنية 2025
...
-
البندقية وزفاف الملياردير: جيف بيزوس يتزوج لورين سانشيز في ح
...
-
شاهد.. الفنانون الإيرانيون يعزفزن سمفونية النصر في ساحة الحر
...
-
طلبة التوجيهي يؤدون امتحان -اللغة الإنجليزية-.. مروحة واسعة
...
-
“برقم الجلوس والاسم فقط” Link الاستعلام عن نتيجة الدبلومات ا
...
-
العراق يواجه خطر اندثار 500 لهجة محلية تعكس تنوعه الثقافي ال
...
-
رحيل الفلسطيني محمد لافي.. غياب شاعر الرفض واكتمال -نقوش الو
...
-
موعد نزال توبوريا ضد أوليفيرا في فنون القتال المختلطة -يو إف
...
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|