أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 4















المزيد.....

الفصل الثالث : مَنأى 4


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3001 - 2010 / 5 / 11 - 00:26
المحور: الادب والفن
    


مُنقلب حال هذا الصباح ، الربيعيّ ، من صحو إلى كدَر ، كانَ نذيراً ربما بجلل القادم من الساعات . عندئذ توارت كرة الشمس ، المُلتهبَة ، خلفَ خمار السّحاب ، القاتم ، الزاحف حثيثاً . كنتُ إذاً في كوخ معلمي ، العشّاب ، أرقبه عن كثب وهوَ يُقطر في الإنبيق خليط أحدى صفات عطارته ، الناجعة ، المنذورة لأهل دار الحديث . حينما أجدُ داع لتدخلي ، كنتُ أهرع لتقديم العون بكلمة عابرَة ، مُقتضبَة ، كيلا أقلل من خبرَة معلمي ودربَته . ولكنّ هذا العجوز ، من جهته ، كانَ يُعاملني بكثير من الاحترام ، بل والتبجيل أحياناً ، وكما لو أنني المعلمُ هنا . لا شكّ أنّ مُضيفتنا ، كبيرة الحافظات ، هيَ من سبقَ وأوصى الرجلَ ببذل ما بوسعه من لباقة في حضوري . لقد تأكد لي ذلك ، يقيناً ، فيما جدّ من أمر هذا اليوم ، الجَهم .
" أحقاً ، كما يُقال ، أنّ سماحة شيخ الشام سيمرّ على المدرسة ، بنفسه ، في جولة تفتيشية ؟ " ، سألني العجوزُ باهتمام . كنتُ مستلق بدعَة فوق الدفة الخشبية ، العريضة ، التي تقمّصتْ صفة الديوان . فما لبثتُ أن رفعتُ رأسي عن النمرقة ، الخلقة ، مُتوجّهاً نحوَ المُعلم لأجيبه بنبرَة مُداورة ، غير مًكترثة : " لا علمَ لي بذلك " . ولكنّ الرجل ، إذ أنهى ما بيده ، كان على ما يبدو راغباً بالثرثرة . فعاد ليقلص خلجات وجهه ، المُشوّه بأخاديد الزمن ، قائلاً بحيرة : " مضى عليّ عقد من الزمن ، وأنا أعملُ هنا . إنها المرة الأولى ، كما أذكر جيداً ، التي يوافينا فيها بالزيارة ضيفٌ على هذا القدر من سموّ المركز "
" فما هوَ داعي زيارته ، باعتقادك ؟ "
" إنّ لهذا علاقة ، والله أعلم ، بما طرأ على الولاية من تغيّرات ، في الآونة الأخيرة " ، أجابني العجوز بشيء من الضيق . ثمّ ما عتمَ ، على الأثر ، أن أردفَ قائلاً : " يقولون ، أنه من بعد ، لن يكونَ بوسع نساء المسلمين أخذ قسط من العلم ؛ لا في الكتاتيب ولا في المدارس " . نعم . إنه يَعني دعوة أبن وهّاب ، التي تريدُ جماعته ، الشاميّة ، فرضها على الخلق بسيف الانكشاريين ، الجهلة . بَيْدَ أنني ، حرصاً وحذراً ، فضلتُ ألا أعلق أهمية على الحديث . تطاول الصمتُ لبرهة أخرى ، قبل أن يُعاود المعلمُ كلامه بصوت كالهمس : " منذ ستة قرون ، وهذه المدرسة تخرّج أفضلَ حافظات كتاب الله ، الكريم ؛ من مفسراته ومُجوّداته . ولم يَحصل انقطاعٌ في الدراسة عندنا ، إلا في زمن المغول والتتار ـ كما سبق لي وعلمتُ من كبيرة " . هذا الاسم ، الأخير ، هوَ مُختصرُ صفة " كبيرة الحافظات " ، وكانَ شائعاً آنئذ على لسان كلّ من المقيمين في دار الحديث . خارجاً ، كانَ هبوبُ الهواء يشتدّ ، وصارَ يتناهى من بعيد صدى الرعد . إلا أنّ أعصابي ، في هذه الفترة العصيبة ، المضطربة ، كانت من التوتر أن أجفلتُ مُروّعاً ، حينما دوى قصفٌ مُرعدٌ ، مُزمجرٌ ، فوق رؤوسنا .. لقد توهّمتُ أنها قنابرٌ ، غادرَة ، تتساقط على الدار . فما لبثت قطراتٌ من الغيث ، كبيرة ، أن راحَتْ تطرقُ سقف بيتنا الصغير وجدرانه ، الخشبية .

بُعَيْدَ صلاة الظهر، وفيما أنا أغادرُ المَصلى ، إذا بضجة تتأتى من جهة بوابة المدرسة ، الرئيسة . هنيهة على الأثر ، والهَرَجُ يَسودُ الدار الكبيرة ، المُعينة الهدوء والوداعة . إذاك حثثتُ خطوي في عجلة نحوَ جهة الحديقة ؛ أين يقومُ كوخ العشّاب ، مُعلمي . إلا أنه بحَسَب خطة " كبيرة " ، سأكونُ أنا من يستقبل شيخ الشام ، حينما يظهرُ في طرفنا . أما العجوز ، فإنه سيكونُ معلماً ، مؤقتاً ، على جماعة النمل ، التي تسعى بين مساكب الورود والأزاهير : كان من المُفترض أن يُمثل دورَ البستاني ؛ طالما أنّ الشاملي اختفى في مكان ما من الدار ، ولحين مغادرة ضيفها ، الثقيل .
هنا ، في الكوخ الصغير ، رحتُ ألقي نظري على موجودات العشّاب ، والتي كانت من الندرَة ، حقا ، أنّ مسألة فقدانها لم يكن ليضرّ كثيراً بالدار وأهلها . " أين هذا المكان المُبتسر ، الكئيب ، من دكان العطارة ، الفاره ، الذي ملكته يوماً ؟ " ، قلتُ مُتحسّراً بصوت مَسموع . عليّ كان ، من ثمّ ، أن أطلق تنهدة بأثر أختها ، مستعيداً في ذهني صوَرَ تجارتي الأولى ، المُزدهرة . آنذاك ، كانَ المَشهدُ الخارجيّ لمحلي من عظم التأثير على النفس ، حجماً وبضاعة ، أنه كثيراً ما شبّه من لدن المُشترين بقيساريّة محدودة المساحَة : بساحته المربّعة الشكل ، المُقنطرة جوانبها الأربع بالأقواس الحجرية ، والمُحتضنة مدخل العمارة ، المَملوكية الطراز ؛ وبحركة زبائنه الكثيفة ، الرائحة والغادية ـ كانَ المحلُ مثل خلية نحل ، نشطة ، في ربيع خالد . ولكن ، كلّ ذلك أندثرَ في ربيع العامّية ، الأسوَد .
" يا عبد الله أفندي " ، كانَ هذا نداءُ أحدهم باسمي الآنيّ ؛ الاسم ، المُستعار من قاموس الضعة البشرية . قطعَ إذاً سبيلُ أفكاري ، لما دُعيت إلى حجرة كبيرة الحافظات . أصلحتُ من شأن مظهري ، البرانيّ ، ثمّ مَضيتُ إلى لقاء الضيف ، مُرجّحاً أنه أعفى نفسه ، المُرفهة ، من عناء البلل والوَحل . ثمة ، أمامَ باب الحجرة ، ميّزتُ هيئة رَبيب الدّجل وصَنيع القوّة . كانَ شيخ الشام قد شرَعَ عندئذ بالخروج من الحجرة ، يرافقه بعض أعوانه ، علاوة على " كبيرة " ومساعدة لها . ما أن تأملته بلمحة من عينيّ ، سريعة ، حتى تذكرتُ مَشهداً مؤلماً ، محفوراً أبداً طيّ صفحات ذاكرتي .
" أرجموا الزانية " ، هكذا كانَ يصرخُ المَسعورُ يومئذ ، مُحرضاً الجمهور الأعمى ، الممسوس . وكيف يمكن لي أن أسلوَ منظر قذف الحجارة باتجاه تلك البنت التعسَة ، التي فضلت الموتَ غرقاً بقبضة عزرائيل ، الرحيمة ، على عملية التعذيب الممضة ، المميتة ، بيد الجلاد القرمزيّ ، المارد . إلا أنّ الغوغاء وشيخهم ، لم يشفَ غليلهم آنذاك سوى بمرأى جثة الضحية الممزقة الأشلاء ، والمَحمولة على لجّة تيار النهر . نعم . كلّ بنت ، أكانت على دين الإسلام أم على دين غيره ، تمّ تعذيبها وإغراقها في نهر بردى ، ظلماً وجهلاً ، ستكون في قادم الأيام بمثابة لعنة على المدينة ونهرها ، سواءً بسواء .

" أمض أمامنا دليلاً ، يا عبد الله أفندي . فإنكَ على معرفة ولا غرو بالدور العلويّ "
خاطبني الشيخ باحتفاء مُتظاهر ، مُبطناً نيّته السيئة ، النكراء . كانَ يتمنى ، على أرجح تقدير ، لو يخلع عنه جبّة المَشيخة ليكتسي بدلاً عنها ملبَسَ العطارة . وعلى كلّ حال ، كانت هذه هيَ المرة الثانية ، التي أجدني فيها هنا ؛ في الدور المُحتبي حجرات دارسات الحديث والفقه والتفسير . ففي صباح هذا اليوم ، كانت " كبيرة " قد طلبت من مُساعدة لها ، طاعنة في السنّ ، أن تصعدَ معي إلى فوق ، لكي أعتاد المكان . ثمة ، لحظتُ أنّ كلّ ردهة كانت تضمّ خمس حجرات ؛ أربع منها كبيرة الحجم ، مخصصة للدارسات ، وواحدة صغيرة نوعاً ، لإيواء المشرفة عليهنّ .
وها أنا ذا ، أصبحُ بنفسي مُرافقاً . فما أن ارتقيتُ ، معيّة الوفد ، الدرجَ المُعتم قليلاً ، المؤدي للردهة الوسطى ، حتى أخذتُ أتساءلُ بسرّي عن الكيفية التي سأميّز فيها نرجس عن بقية البنات : كنّ وقتئذ في حشمة الملبس القاتم ، المسدول من الرأس حتى القدَميْن . أما البرقع ، المُحْتجب خلفه تفصيل الوجه ، فكان من السماكة أنّ صاحبته ستنكرُ ذاتها ، ما لو تطلعتْ في مرآة .
" ولكن ، ما حاجة هذا الوهّابي ، الفاسق ، بتفقد منامة للنساء ؟ " ، خاطبني داخلي بمساءلة حانقة . وإذ أشدّدُ ، في كلّ مرة ، على صفة شيخ الشام ، فلأنه جديرٌ بها ولا غرو : إنّ هذا العجوز ، المُترامية سنه على عتبَة الآخرة ، يبدو كشخص دهريّ يعيشُ لحياته الدنيا ، حسب . والأقلّ سوءاً ، أنّ ثرثرته لم ترفق مرة قط بذكر آية كريمة أو حديث شريف . يقيناً ، إنّ الله سيَغفر لي شهادتي هذه . بل وأجرؤ على الظنّ أيضاً ، بأنه جلّ وعلا سيجعلني في يوم القيامة شاهداً على مصير ذلك الفاسق : عندما يكون هوَ بقبضة جلاد جهنم ، فيغرقه في النهر بعد عذاب مرير ، فيحييه من جديد ثمّ يغرقه ؛ كرّة وراء الأخرى وإلى أبد الآبدين .
ولكننا الآنَ ، ما نفتأ بعدُ في الحياة الأولى . لقد مضتْ سويعة على جولتنا ، في الدور العلوي ؛ على فتح أبواب وإغلاق لها . حتى وصلنا إلى الردهة الثالثة ، القصيّة ، والتي تقعُ مباشرة ً فوق حجرات الدور الأرضي ، المَبذولة لإقامتنا . هنا ، تحقق هدفُ جولة الضيف ، التفتيشية . إذ وقعَ ، على حين فجأة ، ما لم يكن بالحسبان . صَدَرٌ ضحكٌ ، أو ما يُشبه ذلك ، من وراء أحد الأبواب ، الموصدة . وكان ذلك ، باب حجرة المرأة التي تشرف على شؤون الردهة . من جهتي ، كنتُ أعرفُ أنّ هذه المرأة ، بمعنىً ما ، هيَ صديقة نرجس .

" ما هذه الأصوات ، الغريبة ؟ ليفتحَ أحدكم ذلكَ الباب ، فوراً "
هتفَ سماحتهُ بلهجة فضول أكثر منها استنكار . كلّ ردهة هنا ، في الدور الفوقاني ، ينفتحُ سقفها المُلبّس بالخشب ، المُزخرف ، على منور واسع له شكل أهرام زجاجيّ . فكانَ الضوءُ وقتئذ كافياً ، ولا ريب ، لحظوة العين بمرأى ما يُحيطها من كائنات ومجرّدات .
" ليرفعَ كلّ منكنّ برقعه ، حالاً " ، صاحَ الشيخ بالمُذنبتيْن ، اللتيْن وقفتا قدّامه ، خافضتيْ الجناح . فما أن نطق كلمته الرجلُ ، الأخرقُ ، حتى التفتَ نحوه كلّ الحاضرين بنظرات مُتسائلة ، دهشة . وتلعثمَ ضيفنا ، حينما استطردَ وكأنما يُخاطبُ من حوله ، وليسَ هاتيْن المرأتيْن حسب : " إنّ من تطلق ، بمجون واستهتار ، مثل تلك الهأهأة ، المُنكرَة ، لا يُمكن أن تكون جديرة ببرقع الفضيلة وحجاب الحشمة " . نعم . بل عليها أن تتعرى أيضاً أمامَ عينيكَ ، الذئبيتيْن ، لكي تتملى أنتَ حُسْنَ البدن وقسمات الوجه ـ كما يَجدرُ بمشتر في سوق الجواري .
" يا بنتيْ أخي ، ليقبّلَ كلّ منكنّ يدَ سماحة شيخ الشام وليطلبَ أمامه المغفرة والتوبة " ، توجّهتْ كبيرة الحافظات بطلبها إلى المرأتيْن ، المَوْصومَتيْن بمنكر الضحك . فما كانَ من الرجل ، وقد باغتته صفة القرابة التي باحتْ بها مضيفته ، إلا أن تحرّكَ من مكانه بسرعة ـ كما لو أنه يفرّ بجلده ، الذئبيّ . وبدورنا ، نحن حاشية السماحة ، علينا كانَ أن نتأثرَ الخطى العجولة ، المُنحدرة عبرَ الدرج الحجريّ ، الضيق والمُعتم .
ثمة ، عندَ مخرج الدار ، توقفَ الشيخُ فالتفتَ نحوَ كبيرة الحافظات ، لينظرَ إليها شزراً . " إنّ الافتخارَ بالعلم ، هوَ أصلُ الزندقة " ، قال بنبرَة مُنذرة ، مَسمومة . وأضافَ مُخاطباً إياها : " إنّ ما لحظته بنفسي في مدرستكم ، لا يُرام مداوَمَته . بلى ، إنه شطط وشطحٌ وتجديف " . كانت الكبيرة في حالة لا تحمَد . ولكنها حاولتْ ، مع ذلكَ ، أن تخفف من غلواء ضيفها . فقالتُ له بلهجة مُتودّدة ، مُستعطفة : ستشرّفنا ، يا سماحة الشيخ ، على مائدة الغداء . وهناك ، سنتكلم معكم في كلّ هذا "
" من المُحال ، أيتها المرأة ، أن أضعَ في فمي طعامَ غير المسلمين " ، أجابها وهوَ يَتفجُ بفصيح عبارته . ثمّ غادرَ الدار ، على الأثر . أجل ، يا عبدَ أبن وهّاب ويا نزيلَ السّعير . كنتَ لتضع في فمكَ لحمَ الخنزير ـ استغفرُ الله ـ لو كانَ لتلك المائدة حظوة التمتع بجوار ، مَحظيات ، يترفل كلّ منهنّ بعريها ، الأسنى ، المتماهي برهافة الحرير والدّمقس .

مضى هدءٌ من الليل ، مُتطاول ، قبل أن يتسنى لأجفاني نعمة النعاس . وكنتُ قد آويتُ لفراشي ، مُبكراً نوعاً ؛ طالما أنّ إشغال الفكر هوَ وسيلة التسلية ، الوحيدة ، في هذه الدار ، الكئيبة . لم يكن الشاملي قد ظهرَ بعدُ ، في جوارنا . لا يمكن أن يكونَ مُتوار ، في مكان ما من المدرسة ، بعد كلّ تلك المدّة التي انقضتْ على مغادرة العجوز الدجال . هذا الأخير ، كانَ اللحظة مَحَط تأملي وباعث شجني . فحينما أمَرَ نرجسَ ورفيقتها أن ترميا برقعيْهما ، شعرتُ بالقلب الواجف ، المُروّع ، وكأنما يفرّ من صدري . رَجَحتُ أن تكونَ المُشرفة تلك ، في سنّ متأخرة . فكان مَطلبُ الضيف ، الفاسق ، عندَ المرأة الأخرى : إنها نرجس إذاً ، من حازتْ آنئذ على فرَقي وجَزعي . فقد خشيتُ أن يكشف حجابُها ، المَسدولُ ، سحْرَ وجهها وأسْرَ عينيها . ولكنّ كبيرة الحافظات ، ليحفظها الربُّ ، كانت حصيفة وسريعة البداهة، عندما اختلقتْ صفة القرابة سعياً منها لإنقاذ البنت ، الحسناء ، من مخالب ذلك الذئب ، الشائخ .

" أضحك المرأة ، عورة ؟ "
" أجل ، وهذه هيَ الفتوى الأكثر جدّة من فتاواي ، المتواترة "
" ما بَدَرَ منكَ هنا ، في المدرسة ، إنّ هوَ إلا شطط وشطح وتجديف " ، خاطبتُ الذئبَ الوهّابي . كانَ إذاك مُقيّداً بالحديد ، ومُحاطاً بعدد كبير من الجلادين ، المموّهين الهيئة بملاءات وبراقع ، سود . طامنَ رأسَه نحوي ، وقال لي مُتسائلاً بقحّة : " وماذا عنك ، أيها العشّاب ؟ أليستْ مَسْكبَة الأجساد هذه ، المونقة ، مُباحة لذكركَ مَعْكاً وهَصْراً ورَهْزاً ؟ "
" إنّ حكمتي ، يا جاهل ، هيَ من تشفي أجساد تلك النسوة ، الصالحات "
" نسوة صالحات ؟ بل قل إنهن فاسقات ، وجديرات بسوق الإماء "
" فأتتَ تبغي ، أيها المُعَرّص ، بيعَ نساء المسلمين لصاحبك الانكشاري ؛ ذي الدّبر النتن ؟ " ، قلتُ له بغضب . وإذا به يُطلقُ هأهأة ً صاخبة ، مُعربدة . ثمّ ما لبث أن أجابني بنبرَة مُقيتة ، مُبيّتة : " إنّ ميلَ آمر القابيقول كانَ لواحدة منهنّ ، حسب . وقد حصلَ على مراده ، عنوة عنك ؛ حصل على فتاتك ، لأنّ أباها كانَ بحاجة لسلطة الوجاق ، الأقوى " .

كانَ وَقعُ الضحكة المُستهترة ، الماجنة ، ما يفتأ يَصْدَى في سمعي ، حينما أفقتُ من غفوة المَنام ، المَنحوس . في اللحظة التالية ، وخلل صفق باب الحجرة ، مَرَقَ أمامَ عينيّ ، المذهولتيْن ، شبحُ شخص ما. نهضتُ على الفور بجذعي ، لكي ألقى من رجّحتُ أنه الشاملي . وإذا بابنته ، من كانَ على نظري أن يُميّز وجودها ثمة . نعم . على الرغم من الظلمة ، البهيمة ، عرفتُ أنها نرجس ، من تقف هناك على طرف المَصطبة ؛ عرفتها ، ولا غرو ، من طيب عرفها ورهافة حضورها .
" كنتُ أرجو ، حقا ، ألا يكونَ النومُ قد غلبكَ " ، خاطبني صوتها الخافت ، الأليف ، المنبعث من تلك الجهة ، القريبة . عندئذ ، بدأت ملامحها تبين رويداً ، بفعل نور السماء ، الهيّن . كانت ليلة صحو إذاً ، إثرَ نهار ممطر وعاصف . وداعبتُ نرجس بصوت خفيض : " بل إنّ سلطاناً آخر ، أكثرَ سَطوة ، هوَ من غلبني " . فما كانَ منها ، على دهشتي ، إلا أن زحفتْ بهمّة نحو البقعة الضيقة ، التي أفترشها منامة ً. وكانَ على دورق أنفاسها ، المترع بالمدام الممسك ، المعطر ، أن يُسكرَني بدنوّه . بَيْدَ أنّ فكرة طارئة ، جازَ لها أن تنتشلني من نشوة الثمل .
" إنّ أباك غائباً ، ما زالَ . وربما يظهرُ بين لحظة وأخرى " ، قلتُ لابنة الشاملي بلهجة حذرة . ولكنّ نرجس ، في هذه اللحظة الدانية ، على الأقل ، كانت من رخاء البال و دعَته ، أن زهدَتْ بالإجابة . صمتٌ مَيسورٌ ومُلفق في آن ، شافهَ رقادَ هذيْن الكائنيْن ، المُتواشجَيْ المصير بحبكة مَسَلة المقدور . وإذ شعَرَتْ الفتاة بحركة تململي وقلقي ، القريبة من قلبها ، فإنها شاءت أن تطمئنني أخيراً : " إنّ أبي ، كما سبقَ وأعلمني بنفسه ، سيبيتُ هذه الليلة في مكان آخر " قالتها بهمس وأضافت " إنه هنا ، في سوق ساروجة ، على أيّ حال ؛ في ضيافة وجيه مصريّ " .



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الثالث : مَنأى 3
- الفصل الثالث : مَنأى 2
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7
- الرواية : مَهوى 6
- الرواية : مَهوى 5
- الرواية : مَهوى 4
- الرواية : مَهوى 3
- الرواية 2
- الرواية : مَهوى
- الأولى والآخرة : مَرقى 13
- الأولى والآخرة : مَرقى 12
- الأولى والآخرة : مَرقى 11
- الأولى والآخرة : مَرقى 10
- الأولى والآخرة : مَرقى 9
- الأولى والآخرة : مَرقى 8


المزيد.....




- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 4