أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 8















المزيد.....

الفصل الثالث : مَنأى 8


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3007 - 2010 / 5 / 17 - 02:20
المحور: الادب والفن
    



" أدخلْ ثمة ، ياه ؛ أدفع عندكَ ولا تخشَ شيئاً "
هذه الجملة ، المُبلّغة ليلة أمس على لسان " شمس " ، في ذروة غلمتها ، لم تروّعني حَسْب ؛ بل وقدّر لها أن تكونَ النقطة الحاسمَة ، الخاتمَة جملة المُضاجعة ، البليغة . ثمة ، عند طرف المصطبَة ، عليّ كانَ أن أستردّ الوعيَ بما هوَ كائنٌ وموجود . إذاك ، اُيقظتُ تماماً من غفلة الوهم ذاك ؛ الهاتف في رَوْعي بأنها ياسمينتي ، المسكينة ، من تستلقي في فراشي عارية ومفتوحة الفخذيْن . إذ زحفتْ ابنة المجهول ، المُكتنفة بالعتمة ، نحوَ مكاني المَعلوم ، لتردّني للصواب بهمسها المَخنوق بالرغبة : " ماذا دهاكَ ، يا سيّدي ؟ " . فما أن وقعتْ المفردة ، الأخيرة ، على أمّ سَمَعي ، حتى تنفستُ بعمق وكما لو أنني أنجو للتوّ من غائلة الغرَق . " قم بنا إلى الفراش ، الدافىء ، كيلا نصاب بالبرد " ، قالتها المُشرفة ببساطة . في تلك اللحظة ، الفاصلة بين اليقين والظنّ ، كانت ما تفتأ تمرّغ وجهَها على ظاهر بدني . فيما أناملها ، القاسية نوعاً ، كانت تداعب ذكري ، الخامد الأوار ، لكي تبث فيه مُجدداً جذوة َ الشهوة .
" إنّ ما ينقص نساءَ دار الحديث ، هوَ الشيءُ ذاته ؛ الذي تملكه أنتَ ، يا آغا " ، هتفَ فيّ بنبوءته ذاكَ المَملوكُ المَلعونُ ، الماكر . نعم . كانَ عليّ ، أيضاً ، أن أستعيدَ جدّياً تلك الجملة ، المَنطوقة باستهتار وخفة ؛ أنا المَلخومُ هنا ، بين يديّ جنيّة المُتعة هذه ؛ التي أذهلتني بمعرفتها ، الكلّية ، لكلّ ما يُطيقه مجلّد الباه ، السرّي .
" أنتَ تعتقدُ ، إذاً ، أنني عذراء ؟ " ، خاطبتني الفتاة بصوت خافت واستطردتْ على الأثر " فاعلم أنني اُناكُ ـ كأيّ امرأة كاملة ، مذ عقد من الأعوام ؛ منذ أن كنتُ في الخامسة عشر من عمري " . فما كانَ مني ، إلا إجابة شمس بحركة كيْد وإنكار . عندئذ ، حرّرتُ جسدي من قبضتها ، وما عتمتُ أن نهضتُ نحوَ جهة الفراش . بدورها ، هُرعتْ بأثري إلى ناحية الخطيئة تلك ، وقد دخلَ في وهمها أنني أدعوها لإكمال جولة المُعاشرة والمؤانسة . فكم كانَ وجومُ المُشرفة كئيباً ، مُحبَطاً ، عندما رحتُ أكتسي بمنامتي . وهامستُ لها من ثمّ بنبرَة صارمة ، آمرَة : " أستري حالك ، يا سيّدتي " . لم تكن ياسمينة ، وإنما هيَ نرجسُ ، من وقفَ آنئذ حائلاً بيني وبين شمس. لم يكن ثمة رؤيا ، بعدُ .

" انهضْ على الفور ، يا سيّدي "
هتفَ المملوكُ ، الروميّ ، لأكثر من مرّة ، فيما كانَ يهزني بيده ، المُرتعشة . فتحتُ عينيّ ، أخيراً ، على منظر الفتى المُشوّش ، الغائم . إذاك ، أبصرتهُ شاحبَ الوجه ، ممتقعاً ، فيما أنامل كفه ، الأيمن ، ترتجفُ باستمرار وبشكل مثير للشفقة . فما عتمَ أن قالَ بخوف : " إنّ كبيرة تطلبكَ ، وفي الحال "
" آه ، إنّ أحدَهم ، ولا ريب ، قد ضبَط المُشرفة " ، فكرتُ بعظيم الجزَع . حينما كانت شمسُ قد غادرتْ غرفتي خفية ً، مُتسللة ًمنها ـ كما سبقَ وأتتْ إليها ، خيّلَ إليّ وقتئذ أنّ صرخة ، مكبوتة ، تناهتْ بأثر شبَحها . وإذاً كانَ عليّ أن أتوجّه إلى حجرة كبيرة الحافظات ، لكي أمثلَ في حضرتها ، مذنباً بأمر في غايَة الفحش ؛ معاشرة إحدى نساء دار الحديث ، اللاتي كنّ يتعهّدنَ تربية البنات ، الناشئات ، على أصول السنّة والكتاب .
" إنه العشّاب ذاك ، العجوز . لقد وجدوه ميّتاً ، في كوخه ؛ في هذا الصباح " ، قالَ لي المملوكُ ونحن في الطريق إلى حجرة أعمال كبيرة . ولا بدّ أنّ المُخبّر ، المَلولَ ، قد لحظ في هذه اللحظة ، مندهشاً ولا غرو ، تعبيرَ الارتياح على سحنتي . " رحمه الله . إنه طاعنٌ في السنّ ، على كلّ حال " ، ندّتْ عني مصحوبة بهزة أسف من رأسي العاري . ولكنني ، بعد برهة قصيرة ، لن أكونَ على هذا الشعور الرضيّ ، المُقتنع بحكمة الحياة ، الربّانية . فما أن أضحى وجهي ، الحالمُ ، بمقابل وجه كبيرة ، الجَهْم ، حتى أدركتُ أنّ مصيبة ما ، قد دهَمَتْ الدارَ . دَعَتني للجلوس على الديوان المرأة ُ البدينة ، المُحتجَبَة بخمارها الكامد ، الأسوَد ، ثمّ طفقتْ تتطلعُ في عينيّ باهتمام . من ناحيتي ، عليّ كانَ أن أهمُدَ بمكاني صامتاً ، مُتململاً . إذ تذكرتُ برودة كبيرة الحافظات هذه ، في الليلة الفائتة ؛ حينما بادرتها بالمساءلة عن الوضع المُريب ؛ الذي كانَ قد جدّ خارجَ مدرستها .

الآن ، في وهلة الصّمت ، تشاغلتُ بتأمّل ما يُحيطني من أشياء ومجرّدات . حجرة أعمال كبيرة ، الفارهة ، كانت شبيهة تقريباً بمثيلتها ؛ المقيمة في بيت كبير الأعيان . فكلّ من الجدران ، البليغة النقوش بالآيات الكريمة ، كانَ مقسوماً في تلبيسه إلى جزأيْن ؛ علوي وسفلي . الجزء الأول ، كانَ عبارة عن ملاط عاديّ ، سميك ، خال من الزخارف ويميل للون الأصفر . أمّا الجزء السفليّ ، فتأثلَ مداميك الحجارة الثلاثية ، الأفقية الشكل ، في تسلسلها من الأبلقيّ للبازلتيّ فالمزاويّ . وعدا عن النافذة الكبيرة ، المَفتوحة على مَشهد الدار ، الرّحب ، فثمّة قمَريّة في أعلى الجدار القبليّ ، تتيحُ للمزيد من النور أن يَغمُرَ الغرفة . خلل تلك النافذة ، كانَ بصري ينهلُ من مُعين صحن المدرسة ، المُرخم بالمرمر الرائع : من المادة الحجرية نفسها ، المُتفاوتة بين الأبيض والأسود ، كانت صنعة تلبيس البحرَة الكبيرة ، الدائرية الشكل . خلفها مباشرة ً، ثمة رواقٌ واسع للغاية ، مقنطرٌ على التوالي بقوس المدخل ، الهائل العلو ؛ ثمّ بالقوس المُتصدّر الجدار الداخليّ ، المُصمّت . كانَ ذلك المكان ، الشبيه بمحراب مُرقش بأنواع الزخرف ، مُضاءً نهاراً بنوافذ علويّة ، صغيرة ، مقوّسة بدورها. أما ليلاً ، فكانَ أمرُ الإنارة موكلاً بالمسرَجة ، العظيمة ، المُتدلية من سقف الرواق بسلسلة حديدية . ولكننا اللحظة ، كنا في صباح صاح ، ألق ، مزخرف بشمس نحاسيّة .
أما هنا ، داخل الحجرة ، فكان على خزائن الكتب والمجلدات ، المركونة في أمكنتها حذاء الجدران ، أن تشيرَ إلى الكمّ ، الجمّ ، لعلوم ومعارف سيّدة دار الحديث . كانَ بصري عندَ تلك الموجودات ، الحَسَنة المنظر ، حينما جُذبَ نحوَ منظر كبيرة ، الهائل ؛ والذي كانَ ، على أيّ حال ، يُفصح بدوره عن حسنها التليد ، الغابر . لقد أخذتْ المرأة عندئذ بالتنحنح بصوت مسموع ، لكي تبادر بخرق الصمت . وعليها كانَ ، أيضاً ، أن تأخذني على حين فجأة ، حينما قالت لي مُتسائلة : " أظنّ أنّ المملوكَ ذاك ، أعلمكَ بمصيبتنا ؟ " . ثمّ إذا بها تضيفُ بنبرة قاسيَة : " فماذا لديكَ من تفسير ، لهذا الحَدث الخطير ، الداهم ؟ " . استغربتُ من صوتها المُرتفع ، القويّ الوقع ، فما كانَ مني إلا إجابتها مُستفهماً : " ليرحَمَ الله المعلّم ، العشّاب . ولكنني ، يا سيّدتي ، لا أدري حقاً وَجْهَ الخطورة في موت الرجل ؟ " . أنتقلَ الاستغرابُ إلى مُحادثتي ، فقالت بلهجة أخرى ، تشفّ عن الأسف : " اعتقدتُ أنكَ ، يا آغا ، على بيّنة من الأمر . إنّ العجوزُ ، لعلمكَ ، ماتَ مقتولاً . أجل ، لقد عُثرَ عليه صباحاً وكان ثمة خنجرٌ ، مغروسٌ في صدره "
" خنجر ؟ " ، هتفتُ بذعر . تفاقمَ عَجَبُ المرأة ، المُجتلية ملامحي بعينيْها الكبيرتيْن ، الرّماديتيْن ، والمَحفوفتيْن بغضون شحميّة ، دَسمَة . حقّ عليها شعورُ الدّهشة ، ما دامتْ على جهل بداعي ما أفصحتُ عنه من ارتياع قولاً ومَظهراً : كانت صورة المذبوح الآخر ـ وصيف الشاملي ـ تتراءى اللحظة لعينيّ الذاهلتيْن ، الغائبتيْن .

عندَ الظهر ، وقبل موعد الغداء ، المَعلوم ، صُلّيَ على جثمان العشّاب ، العجوز . أدينا الفرضَ ثمة ، في مسجد دار الحديث ، الكبير . وحينما جَمَعتُ مُبتدأ الجملة ، الفائتة ، فلكي أشير إلى حقيقة ، أنّ كبيرة تساهلتْ في أمر حضوري الصلاة على روح المعلّم . على ذلك ، كنتُ الرجل الحاضر ، الوحيد ، في هذا الحَرَم ، المَنذور آنئذ لحظوة الحَريم . استقامت كبيرة الحافظات بالمقدّمة ـ كونها من تأمّ الحاضرين ؛ وخلفها في الصفّ الثاني مساعداتها ؛ وخلفهنّ صفّ المُشرفات والمدرّسات ، الواقفات جنباً لجنب مع طالباتهنّ . وبالرغم من مكاني النائي ، المُنعزل في زاوية متطرّفة من قاعة المَصلى ، إلا أنني كنتُ أشعرُ ـ استغفرُ الله ـ بسهام نظرات النسوة ، الفضوليات ، وهيَ تنفذ في جَنبي . " إنّ نرجس ، وصديقتها شمس ، هناك ؛ بين تلك اللمّة ، المُحتجَبَة ببراقعها السود " ، قلتُ بسرّي مهموماً . غضضتُ نظري ، أجل . ولكنني تجاهلتُ قدسيّة المكان ، فيما كنتُ أتفكّر بما يمكن أن تكونه ردّة فعل ابنة الشاملي ، المُتحفظة والأنوف ، فيما لو أخبرتها صاحبتها ، الخرقاء ، بتفاصيل المغامرة الليلية ، الغرامية . وبصرف البَصَر عن موقفي آنذاك ، الشريف ولا شكّ ، إلا أنّ عقيدتنا تبيحُ للشيطان ، دوماً ، أن يكونَ ثالث المُجتمعين بينَ امرأة ورجل . بله ما احتفيَ به مَجمعنا ، أنا والمشرفة ، من رَشف وهَصْر ورَهْز . ليعينني الله ، إذاً .
" سيّدي ، إنّ كبيرة تدعوكَ للإسراع في التوجّه لمخرج الدار . ثمة رجل ، مرسل من طرف الشاملي ، يَطلبُ رؤيتكَ بإلحاح " ، هَمَسَ المَملوكُ الروميّ كلمته ، دفعة واحدة ، في سَمعي . كان قد سبقَ لعينيّ ملاحظة أمر غريب ، مُريب ؛ عندما اقتربتْ من كبيرة إحدى خادمات الدار ، فانحنتْ عليها بحركة من يودّ الإفضاءَ بسرّ ما ، مَكتوم . " هلمّ بنا ، أيها الفتى " ، قلتُ للمملوك ودونما حاجة للتردّد أو التفكير . فما أن وصلتُ ، لاهثاً مَلهوفاً ، إلى مدخل مدرسة الحديث ، المُهيب العمارة ، حتى سمّرني هناك موقفٌ مُحيّر . نعم . كانَ مَحظوراً عليّ ، حتى تلك الساعة ، مجرّد التفكير في موقف كهذا : عربة الكرّوسَة ، المتوقفة ثمة بانتظاري ، على قارعة الطريق .

أمّا ما سأقصّه فيما يلي ، فقد سبقَ للشام كلّها ، أنْ لهَجَتْ فيه ، مُطوّلاً .
طوال الدرب ، المُتفاوت الأرضيّة بين الحجارة والحصى والتراب ، كنتُ جالساً في الكروسة وكأنني في معراج حلم مديد ، لا يكاد يبلغ النهاية : لم يكن ثمة انكشاريّ واحد ، ولا أيّ دخيل آخر ، في كلّ المنطقة الشاسعة ، الواقعة بين المدرسة الركنية والمدرسة البرّانية .
" أنظر يا سيّدي ، إلى ذلك المَشهد ، العجيب " ، قال لي القبرصيّ وهوَ يشير بيده إلى الناحيَة التي تدنو عربتنا منها . الساحَة الرَحْبة ، المُحتفية بمنزل شمّو آغا ، والتي ستعرف باسمه ، في زمن تال ؛ هذه الساحة ، بَدَتْ كأنها ميدان حرب ، حافل بمقاتليه . هنا ، تكرْدَسَتْ قوى الأهالي ، الشوام ، فضلاً عن فرق الأورطات ، الأغراب . فلأول مرة في تاريخ الولاية ربما ، يتآلفُ خصومُ الأمس ؛ من فرسان ومشائي وحَرَس العموميّة واليرلية والدالاتية واللاوند والمواصلة والبغادة والمغاربة . أبعدَ قليلاً ، على جانب الطريق ، كانت عربات الخيل ، ، تجنزر بسلاسلها ، الثقيلة ، قطعَ المدفعية وحاويات ذخيرتها . فيما السَدَنة ، كانوا على انهماكهم في التشحيم والتنظيف والتركيب . ليسَ في اللحظة المُبهرَة هذه ، بل فيما بعد ، أدركتُ مغزى التنظيم الصارم ، المُعَدّ بعناية ، للتظاهرة العسكرية ، المُترائية للعين : شمّو آغا ، زعيم الصالحية ، الممتطي فرسه الأصهَب ، كانَ في مقدمة الموكب . ثمّ يليه آغا يقيني ، على فرس أدهم . وخلفه كانَ فارسٌ من آمري الحَرَس ، يتبخترُ فوق حصان مُطهّم . ولكن ، إنّ ذاكَ الفارس ، الصلف ، بدا أليفاً لعينيّ .
" يا ربّ الخلق والفناء . أهوَ قوّاص آغا ، من يبدو جلياً لعياني ؟ " ، تفكرتُ مَبهوتاً بصوت مَسموع . فما كانَ من ابن الزعيم الصالحاني ، البكر ، الذي كان يرافقنا في الكروسة ، إلا المُبادرة لإجابتي : " أجل ، يا آغا . إنه آمرُ اليرلية " .

عرَبَة الكروسة ، الفخمة ، الخاصّة بالقاروط ؛ هيَ من توّلتْ حملَ وجوه الموكب ؛ من غير المقاتلين . علاوة على البك المصريّ وكاتب كلمات هذا الكناش ، كانَ يجلسُ معنا كلّ من الشاملي والعريان . أجل ، إنّ زعيم العمارة ، أيضاً ، قد عُثرَ على أثره ، في نهاية الأمر . فكم أسعدَني لقاء هذا الصديق الوفي ، الحكيم . عندئذ ، تحرّكت عربتنا ، مُتيحة ً لبقيّة الموكب أن تتبعها بتأنّ ورويّة . كان السائس ، المتجاوز الحلقة الخامسة من عمره ، متأنقا بلباس مميّز . مملوكنا ، الروميّ ، جلس بجانب السائس ، وما لبث أن دخل معه بحديث طويل ، حميم ، عما كان يطرأ على أحوال العربة وفرَسَيْها خلال الطريق . من جهتي ، زهدتُ بالكلام ، بما كان من هواجسي بخصوص مقتل العشّاب ، التعس . فمن سيقترف هذا العمل الطائش ، الخسيس ، بحق رجل عجوز لا يملك شيئاً من حطام الدنيا ؟ على أنني ، بالمقابل ، كنتُ مطمئناً لحقيقة ؛ أنّ مقتل معلمي ، لا علاقة له من قريب أو بعيد بمغامض الكناش وضحيتيْه ، المُفترضتيْن . آه ، ولكنني أدركتُ ، على حين بغتة ، داعي حدّة كبيرة الحافظات ، حينما واجهتني في الصباح : إنني " الذكر " الوحيد في المدرسة ؛ طالما أنّ المملوكيْن ، السعيديْن ، كانا ملفقيْن بصفة الإناث .
بالرغم من كثرة الخلق ، المتجمهرين على جانبَيْ الدّرب ، إلا أنّ حماسهم كانَ عادياً . أفصحتُ عن ملاحظتي تلك ، على سَمع الآخرين . فقال لي كبيرُ الأعيان ، بعيدَ مهلة تفكير : " إنّ الصوالحة ، لم يُعانوا من وطأة حكم الانكشارية ، الساحق ـ كما عاناه الشوام عموماً ؛ وعلى ذلك ، فلم يَعنهم كثيراً هذه التظاهرة ، إلا كمناسبَة سعيدة ، نادرة ". كلمات الكبير ، كانت مَشحونة بحزن عميق ، لم يخفَ عليّ . نعم . لا غرو أنه أفصحَ عن حاله ، قبل أيّ كان ؛ حينما أجابَ سؤالي . فهوَ ما يفتأ طريد الديار ، ينتابه دأبُ الحنين لحارته وناسها ونهرها وبيوتها وقناطرها ومحلاتها وأرباضها وأسواقها . أمّا بيته ، الحبيب ، فإنه أضحى خراباً ، بسبب الحريق .

سلكنا دربَ عين كرش ، فمررنا ببساتين أرزة ومَقرى وبيت أبيات والميطور والباعونية والديوانية . إلى أن وصلنا إلى الحدّ العمرانيّ ، المُرفه ، لحيّ سوق ساروجة . هنا ، رأيتُ أنه كان من النافل ما أبديته من خشية ؛ لضربة غدر أو خيانة : إنّ الدروب الضيقة ، كما مداخل الأزقة ، كانت مزروعة بأنفار الأورطات ؛ الذين سبقَ أن تسلموا أمنَ الحيّ من الانكشارية . وإذاً ، فإنّ الزعيمَ لم يكن يُضيّع وقته ؛ حينما كانَ مشغولاً في الأيام المُنقضية مع زهوره ووروده في حديقة المدرسة . ولكنّ الفضل في طرد القابيقول ، للحقيقة ، يعود لشجاعة وحكمة شمّو آغا ؛ وللبك المصري ، بدرجة أقل . ولكنّ هذا ، حديث آخر .
لم ينبني أحدٌ بوجهة سيْرنا ، إلا أنني خمنتُ بأننا في الطريق ربما إلى مدرسة الحديث . ولكن ، حينما تسامقتْ مئذنة جامع الورد أمام أبصارنا ، أدركتُ أننا نمضي نحوَ مكان آخر . " إنّ الموكبَ ، يا آغا ، يقصدُ قصرَ القاروط " ، قالَ لي العريان بنبرة يشوبها التهكم . بيدَ أنّ الهرَج ما أسرَعَ أن نثرَ كلماته تلك . فما أن دخلنا خلل درب السويقة ، العريض نوعاً ، حتى اندفع الخلق بأصوات مُبتهجة ومُحتفلة ، مُصمّة ، مُتماهية مع زغاريد النسوة من خلف أبواب الدور أو من على أسطحها . عند الساحة ، المحدودة المساحة ، المركون قصر البك المصريّ على ناصيتها اليسرى ، التقى موكبنا مع موكب آخر ، أقل منه شأناً . قبل ذلك ، تناهى وقعُ الطبول والمزاهر لسمعي . إذاك ، علمتُ أنّ دراويش الصوفيّة ، على اختلاف فرقهم ، يَحفونَ بشيخ الشام ، الجديد ؛ الذي عيّنه جلالة السلطان بدلاً عن ذاكَ الدجّال ، الوهّابي : إنه الشيخ سراج العابدين ، صهر مولانا النقشبندي وخليفته على سجادة الطريقة ؛ وكانَ قد عادَ يوم أمس من الاستانة ، يحمل ببيلوردي تعيينه ، السامي . كنتُ على معرفة بهذا الرجل ، الداهيَة . وكنتُ أعرفُ أنه كانَ عدواً ، لدوداً ، للمرحوم الشيخ القبّان ؛ وقبل ذلك ، كانَ أيضاً خصمَ والدي ، رحمه الله .



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الثالث : مَنأى 7
- الفصل الثالث : مَنأى 6
- الفصل الثالث : مَنأى 5
- الفصل الثالث : مَنأى 4
- الفصل الثالث : مَنأى 3
- الفصل الثالث : مَنأى 2
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7
- الرواية : مَهوى 6
- الرواية : مَهوى 5
- الرواية : مَهوى 4
- الرواية : مَهوى 3
- الرواية 2
- الرواية : مَهوى
- الأولى والآخرة : مَرقى 13
- الأولى والآخرة : مَرقى 12


المزيد.....




- “برقم الجلوس والاسم فقط” Link الاستعلام عن نتيجة الدبلومات ا ...
- العراق يواجه خطر اندثار 500 لهجة محلية تعكس تنوعه الثقافي ال ...
- رحيل الفلسطيني محمد لافي.. غياب شاعر الرفض واكتمال -نقوش الو ...
- موعد نزال توبوريا ضد أوليفيرا في فنون القتال المختلطة -يو إف ...
- الليلة..الأدميرال شمخاني يكشف رواية جديدة عن ليلة العدوان ال ...
- أعظم فنان نفايات في العالم أعطى للقمامة قيمتها وحوّلها إلى م ...
- “أحداث مشوقة في انتظارك” موعد عرض المؤسس عثمان الحلقة 195 ال ...
- نتيجة الدبلومات الفنية 2025 برقم الجلوس فور ظهورها عبر nateg ...
- صدر حديثا : محطات ديوان شعر للشاعر موسى حلف
- قرنان من نهب الآثار التونسية على يد دبلوماسيين برتبة لصوص


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 8