أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : صراط 3















المزيد.....

الأولى والآخرة : صراط 3


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3017 - 2010 / 5 / 28 - 11:31
المحور: الادب والفن
    



" لقد ماتَ قوّاص آغا ، مَسموماً "
جذوة هذه الجملة ، التي نطقها الشاملي عند مُنبلج الصبح ، حقّ لها أن تحرقَ داخلي ببطءٍ ، مُمضّ ، طوالَ طريق رحلتنا من الشام إلى جبل لبنان . كنا الآن في عربة الدليغانس ، الفخمة ، التي من المُفترض أن تحملنا إلى تلك الإمارة ، من خلال طريق الربوة . هذه الأخيرة ، سبقَ أن اجتزناها في مُبتدأ رحلتنا ، لنعبرَ بذلك أوّل حاجز مراقبة من تلك الحواجز ، العديدة ، المَرصودة بعين الانكشارية ، اللعينة . إنّ كلاً من مظهرنا ، إضافة للأوراق التي يحملها السنيور ، أسهَمَ في خداع الجند وسهّلَ مرورنا خلل الحاجز . " ما دامَ أولئك الحمقى قد ذهلوا عن شخصياتنا ، الحقيقية ، فسيكون الأمرُ مماثلاً عند الآخرين من زملائهم " ، أكّدَ لي السنيور مارياني بثقة . وحينما أجيزُ لنفسي ، هنا ، نعتَ عبد اللطيف أفندي بنعته واسمه ، الأصلييْن ، الذيْن كانا يُعرَفُ بهما قبل أن يُشهرَ إسلامه ، فلكي أشيرُ لمنقلب حالنا ، نحنُ ركاب العربة : فبحسب خطة التضليل ، المَرسومة ، كانت شمس زوجة السنيور ، وأنا وصيفه ترافقني إمرأتي ( نرجس ) ، فيما تابعَيْنا ( المَملوكيْن ) على صفة الخدم ، المألوفة ، وكذلك الأمر بالنسبة للخادم الحبشيّ . على ذلك ، كانت حجرة العربة ، الفارهة ، منذورة بطبيعة الحال للسادَة ، بينما التوابع في خارجها ، يتابعونها وهُمُ فوق أعنة الخيل . وبالرغم من هواجسي ، كنتُ لا أحيدُ بصري عن الدرب ، مفتوناً بالمناظر الرائعة ، الخلابة ، التي تواهقُ ندّاتها الكائنة ثمة ؛ في الفردوس ، السماويّ .
" في القرن السابع عشر ، ساحَ في الشام أحدُ الرحالة الطليان . جاءها من بيروت عبرَ هذا الطريق نفسه ، التي تجتازها عربتنا . ولقد جزمَ الرجلُ ، في تذكرته التي قرأتها فيما مضى ، أنه لم يرَ أبداً ، في أيّ مدينة زارها من قبل ، ما يُماثل مدخل دمشق من جهة شتورة ؛ لناحية سحر الطبيعة المِراح ، الآسر " ، قالَ لي السنيور بنبرَة إحتفالية ، شديدة الاعتزاز ، وكأنما يتكلمُ عن موطنه ، الأصليّ . ولكنّ الشامَ الشريف ، إستدرَكتُ مُتفكراً ، ليسَتْ بلدَ قوم مُعيّن ؛ إنها مدينة الله وجنة الأولى والآخرة .

وها هيَ بلدة شتورة ، الجميلة ، تتجلى لنواظرنا ، أخيراً ، مع حلول العشيّة . فما أن وصلنا الخانَ ، المَطلوب ، حتى أسرعنا بالنزول لأخذ قسط من الراحة ، ضروريّ ، إثرَ ساعاتٍ طويلة ، شاقة ، من وعثاء السفر وما تخلله من قلق لمخاطره الداهمَة ، المُحتملة ؛ سواءً لجهة الجند أو قاطعي الطريق . وفي واقع الحال ، كانَ مُهذباً تصرّفُ الانكشاريين معنا ، عند حواجزهم ؛ بفضل ما نفِحَ لآمريهم من غروش السيّد ، الكريم ، علاوة على ما كنا نحمله من أوراق رسمية ، مُهيبة . ولأعترف بمدى غبطتي ، حينما كانَ أحدهم يُلوّحُ أوراقي بيده ليسألني ، مُشيراً إلى نرجس : " أهيَ أهلكَ ، تلك ؟ " . وكان كلّ من المرأتيْن ، المَزعومتيْن ، يَكتسي بملابس الإفرنج ، التي تكشف ليسَ الوجه وجانب من الشعر ، حَسْب ، بل وأيضاً بعض تفاصيل الجسد . بهذه الحالة ، كانَ عليّ أيضاً ، ولا غرو ، أن أحمد الله لأنّ " حَمْوي " ، الشاملي ، لم يكن معنا أثناء الرحلة ؛ حينما كانَ أيّ عنصر تافه ، رثّ المنظر ، بقادر أن يتفحّصَ نرجس ، الفاتنة ، بعينيْه النهمتيْن ، الذئبيّتيْن .
كانَ الخانُ ، الكبيرُ نوعاً ، رزيَّ المَظهر كئيبَهُ . إلا أنّ داخله ، وهذا هوَ المُهمّ لنا ، كانَ على جانب من النظافة والترتيب . ساقَ الحوذيّ جيادَهُ الأربعة ، الأصيلة ، إلى جهة الياخور ، المَقصيّة عن النزل ، حتى يُريحها ويعلفها . أما نحنُ الركاب ، فكانَ علينا ، بطبيعة الحال ، أن نتدبّرَ بأنفسنا أمورَ الراحة والطعام . وكانَ من المُقرر أن نبيتَ ليلتنا في شتورة ، ثمّ نواصل سفرنا عند بكرة اليوم التالي . وإذاً ، بما أننا الآنَ بحماية حاكم الجبل القويّ ، الأوحد ، فلا شأنَ لنا بعدُ بلوازم التمويه والتضليل ـ كما كانه حالنا في الخانات التي فتناها ، وقضينا فيها بعضَ الوقت بغيَة الراحة لنا ولخيولنا .
عندئذٍ ، حُجزتْ لإقامتنا هنا ، في هذا الخان ، ثلاثُ غرَفٍ ، صغيرة ؛ واحدة للسيّديْن ، والثانية للفتاتيْن ، والثالثة للخدَم . كانَ علينا كذلكَ ، أن ننامَ قريري الأعين ، دونما حاجةٍ لأيّ قلق أو هاجس ؛ بما أنّ بقيّة الطريق ، المُحتم أن نقطعه غداً حتى بيت الدين ، كانَ يَفيأ بظلال الأمان والدِعَة والرّخاء . نعم . لقد إستأصلَ الأميرُ بشير ، المَرهوب الاسم والمقام ، شأفة قطاع الطرق ، أبداً . حتى لقد بالغ بعضُ السيّاح الإفرنج بالقول ، أنه كانَ باستطاعة إمرأة غنية ، حسناء ، مُثقلة بمصاغها ، أن تسيرَ ليلاً في أيّ بقعة من جبل لبنان ودونما أيّ خشية من سالبٍ أو غاصب . من ناحية أخرى ، رأينا إختلافا ، بيّناً ، بينَ مَسلكيْ الانكشارية وعسكر الأمير على طرفيْ طريق الشام . فهؤلاء الأخيرين ، ولا شكّ ، كانوا بغاية الاحترام تجاه النساء والرجال على حدّ سواء ، فضلاً عن أنّ آمريهم لم يكونوا لينتظرونَ ، بتاتاً ، نفحَة من رشوة أو مُراضاة . وأيضاً ، فإنّ دروبَ وطرقات إمارة الجبل ، العتيدة ، التي اجتزناها حتى الآن ، كانت تشي بمقدار الإهتمام بمسألة الصيانة والاستصلاح والرقيّ .

" إنني على يقين ، بعدَ كلّ ما عاينته بنظري ، من أنّ المير بشير مثال الحاكم المسلم ، العادل "
قلتُ لعبد اللطيف أفندي ، حالما أضحيْنا لوحدنا في الحجرة . فعلقَ بنبرة مُتشككة : " ربما كانَ الأميرُ حاكماً عادلاً ، كما تؤكدُ أنتَ ؛ ولكنه ليسَ معنياً كثيراً بالصفة الأخرى ، الدينية " . ملاحظته هذه ، أدهشتني ولا ريب . بل وأعتبرتها ، إلى حدّ ما ، كنوع من التجديف : " ماذا يَقصد الرجلُ بكلامه ، عن لا دينية الحاكم ؟ " ، فكرتُ بقلق . وكأنما انتبه الأفندي لتغيّر ملامحي ، فعادَ يقول : " هنا ، في إمارةٍ سكانها من مختلف الأديان والمذاهب ، لا يجوزُ للحاكم ، الحصيف ، أن يظلعَ على قدم واحدة ، حسب "
" من كلامكَ ، يا سيّدي ، يفهم المرءُ ، خطلاً بكل تأكيد ، أنّ المير بشير يعتنقُ ديانات أتباعه ، جميعاً "
" تقريباً . بل لنقل ، أنه مُسلمٌ ومسيحيّ ، في آن معاً " ، نطقها الأفندي بكلّ بساطة ، إنما دون خبثٍ ، مُبيّت النيّة . ويبدو أن إتساعَ مساحة البياض في عينيّ ، قد جعلتْ مُحادثي يُدرك مدى إستغرابي من معلوماته . على ذلك ، إتخذ الرجلُ وضعيّة أخرى ، مُريحة ، في سريره الضيّق ، قبلَ أن يستأنفَ الحديث : " يُخبرنا التاريخُ ، القريب نوعاً ، أنّ أحدَ أسلاف الأمير بشير ، وكانَ يَحملُ الإسمَ نفسه ، قد بادرَ إلى تغيير دينه النصرانيّ ، إلى الإسلام ، ولمجرّد النكاية بالبطرك ؛ الذي عجزَ عن شفاء إبنه الوحيد ، ووارثه ، من مرض عضال " . فقلتُ للأفندي ، مُتسائلاً بحيرة : " وإذاً فأنتَ تبغي ، بالتنويه بتلك الحادثة ، تفسيرَ إرتداد الأمير الحالي ، بشير الثاني ؟ " . فأجابني مُحادثي بلهجة جديدة ، لا تقلّ غموضاً : " بشكل ما ، ولا ريب . إلا أنّ سلفَ الأمير ذاكَ ، وسميّه ، هوَ من كانَ قد إرتدّ ، أولاً ، عن الإسلام " . فما كانَ مني ، إلا أن هتفتُ على الفور ، مُصحّحاً : " ولكنكَ ، يا سيّدي ، قلتَ أنّ ذاكَ الأمير ، المَلول ، قد إنتقلَ من النصرانية إلى دين الإسلام وليسَ بالعكس ؟ "
" أنا قلتُ ، الإسلام ؟ ولكن ، إنّ مَذهبَ المُوحّدين ، الدروز ، على أيّ حال ، يمتّ للدين المُحمّدي بشكل ما ، قليلاً كانَ أو كثيراً " . تفاقمَ مَبلغُ دهشتي ، ولا غرو ، فتذرعتُ إذاك بالصمت . هنا ، سألني الأفندي عما إذا كنتُ مُتعباً ، وأرغب بالنوم . فهززتُ رأسي نفياً ، وقلتُ له باهتمام صادق : " بل أنا أمعنُ التفكيرَ ، حقا ، بمعميات عقيدة هؤلاء الحكام ، الشهابيين " . قسمات عبد اللطيف أفندي ، الوسيمة ، شعّتْ بابتسامة زهو ، قبل أن يُشرع مُجدداً بالحديث : " أصلُ الشهابيين ، لكي تتوضح لك جلية أمرهم ، يعودُ لأرومة المَعنيين ، الدروز ؛ الذين سبقوهم في حكم الجبل . أمّا هؤلاء الأخيرين ـ ومن حقكَ ، يا آغا ، أن تدهشَ أكثر ـ فإنهم بدورهم يَمتون لسلالة بني أيوب ؛ حُماة المذهب السني وقاهري الأفرنج " .

" ألهذا السبب ، إختارني المجلسُ لمقابلة الأمير بشير ، سعياً لمدّ جسر الصداقة معه ؟ "
فكرتُ مُلهَماً بما سلفَ من قول الأفندي . بيْدَ أني سُرعانَ ما استدركتُ ، في ذهني : " من يهتمّ بأصل وفصل هذا أو ذاكَ ، من الأعيان أو الرعايا ؛ فكلنا عثمانيون ، ومسلمون قبل أيّ إعتبار آخر " . ومع ذلك ، شئتُ أن أبددَ مظنتي ، فقلتُ لمُحادثي ، الواسع المعرفة ولا ريب : " كنتُ أعتقد أنّ الجنبلاطيين حسب ، مِن أعيان الجبل ، مَن ينتسبون ، أصلاً ، لآل أيوب ، ثمّ تحوّلوا إلى مذهبَ الدروز . إذ سبقَ لوالدي ، رحمه الله ، أن أخبرني بحكاية إسلامهم . وأثناءَ وجوده هنا في زيارة ، قبل أعوام عديدة ، كانَ أبي قد طلبَ مرّة ً معونة الشيخ بشير جنبلاط ؛ فما امتنعَ هذا عن مساعدته " . تبسّمَ الأفندي ، في بدء انصاته لكلمتي ، ثمّ ما عتمَ أن هزّ رأسه ، أسفاً : " ها أنتَ قلتها بنفسك ، يا عزيزي : فوالدك المرحوم ، وهوَ شيخ طريقة صوفية ، يستنجدُ بشيخ من الدروز ـ بل وزعيمهم ـ فلا يَضنّ عليه بالمُساعدة : هكذا يُفكر ويَعمل أعيانُ جبل لبنان ، عموماً " ، ثمّ أضافَ وقد أخذ يَشرُد ببصره بعيداً " أجل ، كانَ الرجلُ جواداً كريماً وشهماً ، كما شهدَ القناصل الإفرنج ، وبالرغم من أنه لم يكن حليفا لدولهم . إلا أنّ موضوع إختلاف الشيخ بشير مع صديقه الحميم ، الأمير بشير ، والذي أدى لاحقا لقطع رأسه ، ظلماً وجهلاً ، ما فتأ غامضاً بعدُ "
" إنّ هذا ، لعمري ، يذكر المرء بمغامض جرائم القتل ؛ التي أرتكِبَتْ ثمة ، في الشام " ، ندّتْ عني عفواً . بَصَرُ الأفندي ، المُستفهم أو المُتأمل ، توقلَ رويداً نحوَ قسمات سحنتي ، ليتفحّصها بصبر . في الهنيهة التالية ، وحينما انتبهتُ إلى ما فهتُ به من كلام ، كانَ الوقتُ متأخراً ولا غرو . تشديدي على الوقت ، لكوني صرتُ ملماً بطبع عبد اللطيف أفندي . فهوَ لن يألو جهداً ـ كأيّ رجل حكيم وعارف ، حتى يُحاط فضوله بشوارد المسألة ، المعنيّة ، ودونما إعتبار منه لساعة النوم ، الحثيثة ؛ المُهمّة بالنسبة لمسافر قضى نهاره كلّه بين الوهاد والوديان ، نهبة ً للهواجس والهموم .

" لعلكَ تعني ، الجرائم تلك ؛ المُستهلّة بموت آغا أميني ، مَسموماً ؟ "
قالَ لي الأفندي ، مُتسائلاً . وكنتُ قبلاً على يقين ، بأنّ صهره الشاملي لا بدّ وأخبَرَه بما كانَ قدّ جدّ من تلك الأمور ، طالما أنّ علاقتهما بهذه المتانة والثقة . كما أنّ الجريمة الأخيرة ، المودية بحياة التعس ، قوّاص آغا ، سبقَ أن ناقشناها ، في هذا الصباح ، بحضور عبد اللطيف أفندي . حينئذٍ ، كانَ كبيرُ المجلس على إصراره ، بأنّ موتَ صاحبنا لا علاقة له بما سلفَ من جريمَتيْ داره ؛ هناك في القنوات : " إنّ المرحومَ القوّاص ، سامحَه الله وغفرَ له ، كانَ قد جعلَ منزلَ منافسه الانكشاري ، المرحوم آغا القابيقول ، في مَرمى إنتقامه . فهوَ لم يكتفِ بالإستحواذ على الدار ، دونما وجه حق ، بل واحتفظ ببعض الجواري لنفسه . أجل ، كانَ بودّه الثأر من القابيقول ، الذين أحرقوا منزله في سيدي عامود وأسروا نساءه وسرائره ، حينما سيطروا على المدينة قبل حوالي عشرين يوماً . فماذا كانت نتيجة ثأره ، الموصوف ؟ إنّ إحدى جواري آغا أميني ، على أرجح إحتمال ، هيَ من دسّ السمّ للقوّاص ؛ خلاصاً لنفسها أو إخلاصاً لسيّدها ، الأول " ، قالَ لي الشاملي ، في حينه ، بنبرَةٍ جازمَة .
وإذاً ، رأيتُ أنه من الأصوبَ أن أكونَ صريحاً ، تماماً ، مع حمو كبير الأعيان هذا . " إنه كبيرُ العقل ، واسعُ الاطلاع وكثيرُ التجربة ، فلمَ لا أفيدُ منه في محاولة حلّ معميّات الجرائم تلك ؟ " ، أسررتُ لتفسي راضياً . ولم يُخيّبَ الأفندي ، على أيّ حال ، أملي فيه . فإنه طلبَ مني أن أعيدَ على مسمعه ، بما أمكن من الإيجاز ، حكاية سلسلة القتل ؛ والتي لا يظهر أنها سَتختتمُ بموت القوّاص . وقد فعلتُ ما طلبه مني ، بصدق وصراحة تامّين . فلم أخفِ عن الرجل ، المُتفتح الحواس ، حتى موضوع كناش البرزنجي ، المَسروق من بيت الشاملي . إلا ناحيَة واحدة فقط ؛ إعتبرتها من المُحرّمات ولن يُضيرَ كثيراً ، كما قدّرتُ ، أن أتجاهلَ ذكرها : موضوع العلاقات الجسديّة ، المُتشابكة التفاصيل ، والتي كانَ مكانها ثمة ؛ في القنوات وسوق ساروجة . لقد استخرتُ ضميري في ذلك ، كما وقلبي سواءً بسواء .
" حَسْبنا الليلة ، ما قصصته أنتَ من أمور تلك الجرائم . وغداً نناقشها ، إن شاء الله " ، قالَ لي عبد اللطيف أفندي وهوَ يندسّ بين ملاءات سريره . ثمّ أعقبَ ، مُتمنياً لي صباحاً من الخير . وبادلته بدوري نفس الأمنية ، وتوجّهتُ إلى سريري لأنام .
ولكن ، أينَ الخير ؟ بل ، أين الطمأنينة والهدوء ؟

من شدّة التعب ، علاوة على إرهاق الفكر بنوائب الأيام المُنقضيَة ، رأيتني أغفو من فوري. وحينما أفقتُ ثانية ً، بُعيدَ سويعة أو نحوها ، كنتُ في الحجرة وحيداً ، وكانَ بابُها مفتوحاً على رؤىً غريبة ، راحَتْ تتجسّم لناظري آنياً ، رهيبة ً ومُريعة وشنيعة . أجل ، عليّ كانَ أن أنهض على الفور ، هاتفاً بذعر أنّ الصحبَة فارقتني وإتجهتْ نحوَ هدفها ، المطلوب ، دونما حاجة لمعونتي . فما أن أطللتُ خلل صفق باب الحجرة ، حتى صَدَمَني ، أولاً ، مرأى مَطية مُشوّهة ( أهيَ فرَس عربتنا ، ربما ؟ ) ، مَبتورة أطرافها الأربعة ، وجَدعاتها العفنة ، المُتقيّحة ، يُعشش فيها الذباب . وكانَ قدّام الدابّة وعاءٌ فيه أوساخ الدار ، وكانت تأكل منه بقناعة ورضى . أما دروبَ البلدة ، فكانت تعجّ كذلك بأناس ذوي أشكال ، عجيبة ، ولا يكادُ يخلو أحدهم من عاهة ما ، في جسَده .
ولكن ،على حين فجأة ، انبعثَ صراخٌ وعويلٌ من خلفي تماماً . وعندما التفتّ ورائي ، لكي أرى جليّة الأمر ، إذا بحجرتي نفسها وقد ذخرَتْ بنسوة متنقبات بملاءات سود ، ينحنين فوق لفة صغيرة الحجم ، كأنما هيَ جثمان طفل ما ؛ رضيع ولا ريب . استحييتُ من موقفي ثمة ، وكنتُ في سبيلي للمغادرة ، عندما اقتحَمَتْ المكانَ إمرأة ٌ مُهتاجة . وهذه بدورها ، كانت مُجللة بالسواد ، ولو أنّ نقابها كانَ شفافاً نوعاً .
" سامحني ، يا ولدي " ، قالت المرأة للرضيع المتوفي وهيَ تنشج بصوت مَسموع . فقلتُ في نفسي ، أنّ هذه الثكلى لا بدّ أن تكونَ القادين ، الكبيرة . فحينما التفتت نحوي ، قبل أن تهمّ بالتحرك للخروج ، فتأملتها ملياً ، إذا بالدوار يَكاد يُطيح بي أرضاً : لقد كنتُ اللحظة ، ويا للهَول ، وجه لوجه أمامَ الجنيّة تلك ؛ التابعة .

أشعة الشمس ، المُزخرفة نافذة الحجرة بوَشيها المُتقن ، الذهبيّ ، كانت هيَ من أيقظني صباحاً ، وليسَ تلك الجنيّة ، الشريرة ؛ التي شاءَ حضورُها ، ليلاً ، أن يُبلبلَ حلمي . عندئذٍ ، تذكرتُ ليسَ الكابوس حسب ، بل وحقيقة أني لم أقض صلاة الفجر . وكنتُ مُتيقناً ،أيضاً ، من أنّ الأفندي قد أهملَ الفرض مثلي ؛ بدليل أنه لم يوقظني في ميقاته ، المَعلوم . وإذاً ، كانَ عليّ الآنَ أن أدَعَهُ يتمتع بقسط من النوم ، أطول ، فيما أغادرُ سريري نحوَ المطاهر ، الكائنة في الفناء . فما أن عدتُ من تلك الناحية ، بعدما تطهّرتُ واغتسلت ، حتى وَجَدتني فجأة ً ، وجهاً لوجه ، بمقابل نرجس . ولكن ، كيفَ يمكنني أن أصِفَ مَظهرَ الفتاة ، المُتبدّي لي وقتئذٍ في ألق الصبح . وكلمة واحدة حسب ؛ كلمة " مُعجز " ، تكفي لمُجمَل الوَصف . إلا أنني ، كما في المرات السابقة ، أرغبُ في الإطناب بسِحْر الخالق ؛ الذي كثيراً ـ أو بالأصح ، نادراً ما يتشخصُ في ملامح مخلوقاته . وما أضفى الإبهارَ على مَظهر حفيدة الشاملي ، كوني أراها أمامي بلا أيّ ستر يَحجُب جَمالها ، الربانيّ : كانَ شعرُها ، العقيقُ ، يتوهّجُ مثلَ خزانة النار ، فيما بدنها ، المَبذولُ لناظري بفضل قميص نومها الرقيق ، الحريريّ ، كانَ بلون الخمرة ، الشمول .
" أنتظر عندكَ ، يا سيّدي . لديّ أمانة لكَ ، سأجلبها من وقتي " ، فجأتني نرجس بالقول ، المُتكلّف . ثمّ ما لبثتْ أن استدارتْ على عقبيْها وعادتْ تدخل غرفتها تلك ، المُقابلة لغرفتنا . مفردة " أمانة " ، التي نطقتها البنت ، لم أتوقف عندها إلا فيما بعد . بيْدَ أنّ نرجس ، لم تتركني مع فكري أكثر من هنيهة ، قصيرة . فقد فتحَ بابُ حجرتها ثانية ، وأطلتْ هيَ منه وبيدها لفة ما ، صغيرة الحجم ، ناولتني إياها بلا أيّ نأمَة . فما أن استلمتُ هذا الغرض ، حتى كانت الفتاة تختفي، من جديد ،عن أنظاري. إذاك ، مَضيتُ بدوري إلى حجرتي ، وأنا أخطو على وقع ضربات طبل قلبي ، المتواترة . فقد حَدَستُ فوراً ، ماهيّة هذه " الأمانة " . ودونما حاجة مني لفتح اللفة ، أدركتُ آنئذٍ أنها تضمّ " كناش ياسمينة " ؛ الذي سبقَ وسرقه أحدهم مني ، أثناء ما دوهمتُ ببحران الحمّى ، في ظهيرة الانكشارية تلك ، الرهيبة .



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأولى والآخرة : صراط 2
- الأولى والآخرة : صراط
- الفصل الثالث : مَنأى 9
- الفصل الثالث : مَنأى 8
- الفصل الثالث : مَنأى 7
- الفصل الثالث : مَنأى 6
- الفصل الثالث : مَنأى 5
- الفصل الثالث : مَنأى 4
- الفصل الثالث : مَنأى 3
- الفصل الثالث : مَنأى 2
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7
- الرواية : مَهوى 6
- الرواية : مَهوى 5
- الرواية : مَهوى 4
- الرواية : مَهوى 3


المزيد.....




- برقم الجلوس.. نتيجة الدبلومات الفنية 2025 لجميع التخصصات عبر ...
- دورة استثنائية لمشروع سينما الشارع لأطفال غزة
- تصاعد الإسلاموفوبيا في أوروبا: معركة ضد مشروع استعماري متجدد ...
- انطلاق أولى جلسات صالون الجامعة العربية الثقافي حول دور السي ...
- محمد حليقاوي: الاستشراق الغربي والصهيوني اندمجا لإلغاء الهوي ...
- بعد 35 عاما من أول ترشّح.. توم كروز يُمنح جائزة الأوسكار أخي ...
- موقع إيطالي: هذه المؤسسة الفكرية الأميركية تضغط على إدارة تر ...
- وفاة الفنانة الروسية ناتاليا تينياكوفا نجمة فيلم -الحب والحم ...
- من بينهم توم كروز.. الأكاديمية تكرم 4 فنانين -أسطوريين- بجوا ...
- بعد تعرضها للهجوم .. نجوم الفن المصري يدعمون هند صبري بأزمة ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : صراط 3