|
الأولى والآخرة : صراط 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 3015 - 2010 / 5 / 26 - 15:39
المحور:
الادب والفن
" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " هكذا ردّدتُ بصوتٍ مَسموع ، بعدما تناهى لسمعي ثلاث نقراتٍ مُتتابعَة ، خفيفة المَحْمَل . قلتها ، رغمَ أنني على علم ، مُسبقٍ ، بأنه كانَ على المَملوك ، الروميّ ، أن يوقظني من سباتي . فلقد ذكرني ذلك ، وعلى حين غرّة ، بمنام الفاروق عمر ( ر ) ؛ برؤيته لديكٍ ، مغرور ، ينقره ثلاث مرات بمنقاره . فكانَ أن قتلَ الخليفة الراشديّ ، في اليوم التالي على الأثر ، بخنجر أبي لؤلؤة ، المَجوسيّ ؛ وبالعدد نفسه من الطعنات : الديكُ ، بلغة الرّمز ، العربية ، هوَ رجلٌ أعجميّ ، شرير . وعلى كلّ حال ، فلم يَحتج المملوك ، في وقوفه أمامي ، إلى أيّ نأمةٍ . ففي اللحظة نفسها ، إرتفعَ صوتُ المؤذن ، المَلحون العبارة ، يَدعو " المؤمنين " لصلاة الفجر . وتشديدي على تلك المفردة ، المُبوّبة الطرفين ، إنما لكون نداء مؤذن جامع المدرسة ، سيُلبّى من قبل جمهرة المؤمنات حَسْب ؛ من حافظات ومدرّسات ودارسات . إلا أننا ، معشر الذكور ، علينا أن نتوجّه للمكان المخصص لنا هنا ، في الدار . على ذلك ، قمتُ من فراشي لأرافق المملوك إلى المَصلى ، مُتيقناً بأنّ كبيرَ الأعيان ، قد سبقنا إلى حُرْمَة المكان . إلا أنّ الكبيرَ ، على دهشتي ، لم يَظهر حتى لما ختمنا السورة الأخيرة ، الكريمة ، من الصلاة . " أأنتَ مُتأكدٌ بأنّ نرجس ، هيَ من كانَ عليها أن توقظ سيّدكَ ؟ " ، سألتُ الروميّ عند باب المَصلى . فهزّ رأسه مُوافقا ، مُبدياً بدوره شعورَ الحيرة . ولكنني ، لما هممتُ بالتوجّه نحوَ حجرة الشاملي ، فإنّ القلقَ في ملامح المملوك ما لبثَ أن أزاحَ أيّ شعور آخر . وقلتُ بسرّي : " لا بدّ أنّ ثمة تدبيراً ما ، بين الروميّ وسيّدته " . فلم أشأ أن أكونَ سبباً ، مُحتملاً ، لنقمَة نرجس على مملوكها هذا ، المسكين . ولكي أختبرُ حَدَسي ، عدتُ أطرحُ سؤالاً آخر عليه : " وإذاً ، فعلى الأرجح أنّ سنة النوم ، العميق ، قد استغرقتْ سيّدتكَ ؟ " . فأجابني إثرَ هنيهة تردد : " ربما أيقظتْ والدها ، ثمّ ذهبتْ بعدئذٍ إلى المسجد ، لأداء الصلاة ؛ فرجع هوَ للنوم سهواً منه " . إذاك ، علمتُ أنّ المملوكَ يَكذب : فالشاملي ، لا يمكنُ بحال أن يفوّت وقتَ الصلاة .
" ها هيَ نرجس ، أخيراً " هتفَ الروميّ ، المُتألقٌ بثغره المُنمنم ، البسّام ، وهوَ يوميءُ إلى الناحيَة القبلية من صحن الدار. فما هيَ إلا لحظات والفتاة ترافقنا نحوَ مخرج المدرسة ، مُكتسيَة بملبس الدارسات ، المَعروف . بيْدَ أنني عجبتُ من سماكة نقاب الوجه ، الذي كانَ يَحجبُ تماماً قسماتِ نرجس ، حتى أني تساءلتُ عما يجعلها حذرة ً إلى هذا الحدّ . فمنذ سيطرة قوات المجلس على الحيّ ، لم يَعُد هناك من حاجة لحيطة نساء المسلمين ، أثناء خروجهنّ إلى الدرب . على المنقلب الآخر ، فإنّ مسلكَ جند الانكشارية ، الفظ ، في بقية أحياء المدينة ، القديمة ، شاءَ أن يحظى من أهليها بالسخط الشديد ، المتفاقم . وكنتُ أرجو ، من جهتي ، أن تحظى مهمّتي هذه ، الجديدة ، بالنجاح والتوفيق ، بغية التعجيل بخلاص الناس ؛ وهيَ المهمّة ، المُتعيّن عليها أن تصلَ مجلس العمومية بحاكم جبل لبنان ، القويّ . نعم . إنّ الأمير بشير ، كما هوَ معلومٌ ، كانَ الشخص الوحيد ، القادر على التأثير في مزاج القناصل الأجانب ، المُعتمَدين في الولايات الشاميّة . فإنّ كلمة منه ، والحالة هذه ، لقادرة على نثر آمال الطاغية الانكشاري ، آغا باقوني ، في فلوات اليأس والقنوط . " هل ودّعتِ أباكِ ، يا سيّدتي ، قبلَ الصلاة ؟ " ، سألتُ نرجسَ بصوت خافت . فأجابتني بإيماءة ايجاب من رأسها ، المُحتجَب جميعاً بالسدول ، الأسوَد . لم أعمَد لمخاطبتها بتكلّف حسب ، بل ورأيتني أيضاً أجلسُ من بعد قربَ الحوذي ، تاركاً إياها متفرّدة مع المملوك في مقعدَيْ الركاب الخلفييْن ، المتقابليْن . عندئذٍ ، سيط َ فرس العربة بهمّة ، من لدن صاحبه ، فسارَ بنا إلى جهة البحصة ، البرانية ، في الطريق لمنزل جدّ نرجس . ولكن ، في الهنيهة نفسها ، التي تحرّكتْ فيها الكرّوسَة ، خيّل إليّ وأنا ألتفتُ ورائي نحو مدخل المدرسة ، أنّ رجلاً ثمة كانَ قد نزل بدوره من عربته ، فراحَ يتطلع بحيرة في أثرنا .
ما أن تركنا وراءنا مذاهبَ العمران ، المُختلفة ، حتى تجلتْ أمامَ نواظرنا البساتينُ المُزدهرة ، المونقة بشمس الصباح ، المُبكر . لا غروَ أن يطلقَ الأقدمونَ نعتَ الجنة على هذه المنطقة الآسرة ، المُقتطعة من السماء ، والممتدّة عرضاً بإزاء السور حتى باب الفراديس : فاسم هذا الباب ، نفسه ، كانَ دلالة على النعت ذاك ؛ المُحيل للفردوس الربانيّ . وحينما أضحى جبلُ الصالحية ، المُبارك ، يتجسّمُ رويداً لعينيّ ، كانتْ عربة الكرّوسَة ، المُتهادية على الدرب الظليل ، قد اقتربَتْ من المَنزل ، المَنشود . على الأثر ، تركتْ العربة الدربَ الرئيس ، العريض ، لتغذ صعداً على وقع خبَب فرسها ، المَلول ، في الطريق الضيقة . هنا ، كانت الطريقُ عارية من الأشجار ، ومحفوفة بالمقابل بصفيْن من البيوت الصغيرة ، الإفرنجية الطراز ، علاوة على عدد من الحوانيت ، المنتمية أيضاً بعمارتها للطراز ذاته . ثمة ، في أعلى الحارَة ، كانَ يتسامقُ بيتٌ كبير ، مُنيفٌ ، منعزلٌ نوعاً عما حوله من بناء . ولكن ، إنه المملوك الآخر ، الصقليّ ، من كانَ يقف الآن على مدخل المنزل ذاك ، وهوَ يعقدُ يديه على صدره ، بحركة كيْدٍ ، صبيانية. للوهلة الأولى ، أعتقدتُ أنّ المنحوسَ كانَ يودّ ممازحة رفيقه ، الروميّ . ولكنّ الأمرَ ، كما سأتبيّنه عاجلاً بنفسي ، كانَ يُداور في حبكة مكر ، أبعد مراماً . " يا ربّ السموات العلى ، أليستْ هيَ نرجس ؛ تلكَ الفتاة ، التي تقف هناكَ ؛ خلف الصقليّ ؟ " ، ندّتْ عني بصوت مرتفع . وحينما التفتُّ ورائي ، لأعيد السؤال على مَسمع المملوك الآخر ، إذا بي أمامَ مفاجأةٍ أخرى ، أدهى : كانت الفتاة المُحتجبَة ، الجالسة في العربة بمقابل الروميّ ، قد كشفتْ اللحظة عن وجهها ؛ وكانت هيَ شمس ، المُشرفة ، وليست غيرها . " لا ، إنّ هذا ليسَ ببشارة خير " ، قلتُ بسرّي وأنا أغلي من الغضب وحتى الخزي . نعم . ففي تلك اللحظة ، أحسستُ بالاهانة لكوني خدعتُ بتلك الطريقة ، المُبتذلة . كما أنّ صورة الشاملي ، الصارمة النظرة ، راحتْ أيضاً ترتسمُ قدّامي : ويعلم الله ، فكرتُ مهموماً ، ماذا سيظنّ الرجلُ فيّ بعد قليل من الوقت ؛ حينما يفيقُ من نومه ويُبلّغ بحقيقة الأمر على لسان كبيرة أو غيرها ؟
" إنه حقا لشرَفٌ لي ، أن أتعرّف على جنابك ، يا آغا " خاطبني عبد اللطيف أفندي باحتفاء ، وهوَ يتفحّصُ بعينيه الكستنائيتيْن ملامحَ سحنتي . لقد لاحظ ، ولا ريب ، ما كانَ في ملامحي من خطوط الاستياء والريبة . وكانَ الرجلُ قد خرجَ بدوره إلى مدخل المنزل ، ليقف ثمة قرب حفيدته ومملوكها الماكر . ولدهشتي ، بدا الأفندي ، المُعتنق دين الإسلام ، وقد عادَ إلى ملبَس جماعته ، السابقة : كانَ يتزيى بصدرية ناصعة ، تحت بدلة طويلة سوداء ، خفيفة القماش ، وسروال قاتم اللون وقصير نوعاً ، لا يكادُ يغطي أسفلَ ساقيْه . كذلك فإنّ هذا السنيور ، الطليانيّ الأصل ، قد عمَدَ إلى دهن وجهه بمسحوق ما من شحوم التجميل ، الجديرة بالنساء وليسَ بالرجال . من ناخيتي ، كنتُ أيضاً مهندما ـ كعادتي ـ بملبس مُستحدثٍ ؛ إلا أنه ملبسٌ آخر ، أقلّ بهرجة ، أضحى شائعاً في مدن السلطنة ، العليّة . عندما توقفنا قدّام مدخل المنزل ، ما كانَ من شمس ، الخبيثة ، إلا المبادرة أولاً بمغادرة العربة . عندئذ اندفعتْ نحو صديقتها بحركةٍ طائشة ، غير مُحتشمة ، لكي تعانقها بحرارة . من جهتي ، حييتُ نرجس ببرود ، مُظهراً لها ولا غرو مدى سخطي وعتابي . فقابلتني هيَ بهيئة مماثلة ، وربما غير مُكترثة . من ناحية أخرى ، فلأقل هنا ، أنّ هيئة الفتاة ، المُستهترة ، كانت مُبهرة في ألق هذا الصباح الربيعيّ ، المُعين الملاحة . وضاعفَ من فتنة نرجس ، ما كانَ من تهندمها بملبس ٍ إفرنجيّ جميل ، وعلى الرغم من غرابة تفاصيله : فلم تكن مُتنقبة ، ولا حتى مُحتجبَة . كانَ على رأسها قبعة عريضة ، فاخرة ، ذات طرفيْن طويليْن ، مُنسدليْن للأسفل ، مُزيّنة بالريش والأشرطة . ومن عنق الفتاة ، كانت تتدلى حلية من الجوهر النفيس ، النادر ، تليق ببشرتها الناعمة ، الناصعة ـ كالمرمر . أما ملبَسها ، فكانَ عبارة عن مَخصَر زاهٍ ، ضيّق ، مشدود فوق تنورة واسعة من قماش قطنيّ ، خال من البريق . كما أنّ المملوكَ الماكر ، الصقليّ ، كانَ قد غادرَ هيئته السابقة ، ليعودَ إلى ملبَس قومه ، الأصليّ ؛ ولو أنه ، على أيّ حال ، كانَ ملبس الخدَم . وبدون حاجة لمعونة من أحد ، عرفتُ أنه يتعيّن على كلّ منا، نحنُ القادمين الجدد ، أن يغيّر أيضاً ملابسه ، المألوفة ، لكي ينسجم شكله مع هويّته المُستحدّثة ، المَزعومة . وكذا الأمر ، بالنسبة لموضوع المُشرفة ، فإنني حَزرتُ في ذهني كلّ تفاصيله ، المُحتملة ؛ فلم أحتج لشرح من أحدهم ، أو حتى تبرير .
عندئذ ، زالتْ غشاوة الكدَر عن سحنتي ، كما تبيّنته من اختلاف نظرة حمو الزعيم . إذ راحَ الآنَ يتطلع نحوي بمودّة ، وكأنما لم يجدَّ بالمرّة شيءٌ غير عاديّ . ثمّ ما عتمَ الرجلُ أن تأبط ساعدي بألفة صديق ، وسحبني برفق باتجاه باب بيته ؛ المَشغول على الطريقة المحلية . بيْدَ أنّ الضيفَ ، الزائرَ ، لن يلبث هنا أن يلاحظ ، فوراً ، أنه انتقل من الشام إلى البندقية : إنّ كلاً من عمارة المنزل ، الخارجية ، كما وتلبيسه ، الداخليّ ، لا يكادُ يمتّ بصلة للأسلوب العثمانيّ ، الوطنيّ . وبالرغم من الطراز ، المُستحدَث ، فإنني ألممتُ بشواردَ من النمط الغابر ، الغارق في القدم ؛ والذي سيقدّر لي أن أعاينه عن قرب وبكثرة ، في جزيرة الأروام هذه ؛ أينَ أعيشُ الآنَ منفياً . على أنّ مُضيفنا ، اللطيف الاسم والخلق ، كانَ عليه ، قبل ذلك ، أن يُجيبَ على أسئلة فضولي ، المُسدّدة نحوَ تفاصيل المناظر ، المُترائية لعينيّ ، المَبهورتيْن . أجل ، لقد سبقَ وزرتُ بعض الوكلاء ، العاملين بخدمة القناصل الإفرنج ، وكانت منازلهم لا تقلّ رفعة عن منزل جدّ نرجس . إلا أني اليومَ ، والحق يُقال ، كنتُ أمام إحدى معجزات العمارة ، المُجدَّدة ؛ التي كانَ من شيمتها خلط الأسلوبيْن المُتمايزيْن ؛ العتيق والمُبتكر . " إنّ الرومانَ ، كما لا يَخفى على علمكم يا سيّدي ، حكموا ساحل البحر المتوسط برمّته ، الغربيّ والشرقيّ . وفضلاً عن ذلك ، فإنهم أسلافنا ؛ نحنُ البنادقة . لذلك ، فإنكَ تلحظ ولا ريب ، كيفَ يتداخلُ النمط الرومانيّ ، القديم ، في عمارة منزلي كما وفي تفاصيله الداخلية ؛ وخصوصاً ، لجهة استخدام الأشكال الهندسية ، الميسورة ، في النوافذ والفتحات والأفاريز ـ كالتربيع والتثليث والتدوير . علاوة طبعاً ، على النمط الأوروبي ، المُتجدد ، الذي يفضلُ الأشكالَ المُنحنية والمُحلزنة " ، شرَحَ لي عبد اللطيف أفندي ما أراه ، خلال تجوالنا في أقسام المنزل ، البرانية. وقلتُ له بلهجة إعجاب ، واضحة : " كلّ شيءٍ في منزلكم ، يا سيّدي ، بغاية الروعة " . وكدتُّ أن أضيفَ " والكمال " ، حينما همزني داخلي ؛ بأنّ الكمالَ لله عز وجلّ . ثمّ استأنفتُ كلامي ، ملاحظاً : " إلا أنكَ يا أفندي ، لوَ سَمَحتَ لي ، لم تنسَ أنكَ مسلمٌ ؛ وتعيشُ في الشام الشريف . فبغض النظر عن عمارة منزلكم ، الحجرية بالكامل ، إلا أني أبصرُ الكثيرَ من تفاصيل التلبيس الدمشقي ،المُستخدم فيه مواد انشائية أخرى ـ كالطين والخشب والجصّ والصّدف والمرمر والعاج ، وحتى الذهب والفضة " " يَسرّني بطبيعة الحال ، أن تلاحظ ذلك . ولعلمكم أيضاً ، يا آغا ، فقد استغنيتُ منذ مدّة طويلة عن التصاوير المُجسّدة أشكال البشر والحيوان ، مُستعيضاً عنها بزخارف نباتية وهندسية ؛ مُنسجمة مع عقيدة هذه البلاد وتقاليدها . إلا أنني احتفظتُ بالعمارة الخارجية ، الأوروبية الطراز ، فلم أغيّر فيها شيئاً يُذكر . وبهذه الحالة ، فلا يرى المرءُ هنا حَرَمْلك ، مثلاً ؛ أنا من يعيشُ أرملَ منذ وفاة زوجتي قبل عقدٍ من الأعوام ، تقريباً ، ولم أهتمّ مُطلقاً باستحواذ الجواري والسراري " . حينما أنهى الرجلُ كلامه ، وجدتني أهزّ رأسي تلقائياً ، فيما التفكير كانَ يُشغلني . فلقد طرأ عليّ خاطرُ مُلاحظتيْن ، في حديث هذا الأفندي ، المُهذب ، فأثارتا تساؤلي : أولهما ، أنه قالَ " عقيدة هذه البلاد " ، عوضاً عن " عقيدتنا " ؛ بما أنّ كلا منا على دين الإسلام ، والحمد لله .. ؟ والملاحظة الثانية ، أنه قالَ " زوجتي " ، فيما تقاليدنا لا تبيح تسمية الحريم سوى بكلمة عمومية ؛ من قبيل " أهلي " أو " عيالي " .. ؟
نفياً لصفتي الحقيقية ، العثمانية ، وجدتني أعمدُ بدوري للارتقاء ، مرتبة فمرتبة ، في مدارج صفة الإفرنج ، المُزيّفة . ولو كانَ عليّ أن أكتبَ تذكرة حياتي هذه ، في تلك الآونة نفسها ، لعبّرتُ عن الحال بطريقة مُعاكسة ، بكل تأكيد ؛ لكنتُ قلبتُ الإرتقاءَ إنحداراً . وكانَ خادمٌ متوسط العمر ، حبشيّ المنبت ، قد رافقني ببساطة إلى القسم العلويّ من الدار ، لكي أبدّل ملبسي ، المألوف ، بملبس آخر ، ينتمي للغرابة ولا شكّ ـ كما هوَ حالُ ملابس الأفندي والمملوكيْن . حينما قلتُ آنفاً ، " ببساطة " ؛ فلأني لم أعتد قبلاً على الصعود إلى الدور الفوقاني ، المُخصص لمعيشة أهل الدار ، دونما اجراءات عديدة ، متحرّزة . ولكن ، لا بأس . فالمُضيف قد صرّحَ بنفسه ، قبل قليل ، بأنه أرملَ ولا محظيات لديه ؛ فما هيَ المشكلة ، إذاً . وعلى كلّ حال ، فها أنا ذا هنا ، في حجرة نوم صاحبنا ، الأفندي ؛ أقفُ مندهشاً أمامَ خزانة ثيابه ، الهائلة الحجم ، والتي يكسو خشبها الصقيل ، من جهة الوسط ، مرآة رائعة ، مستطيلة الشكل ، مزخرفة الإطار بتذهيبٍ متقن الصنعة . الخادمُ الحبشي ، الطيّب الملامح واللسان ، أجزى لي مساعدته ، الضرورية ، حينما كنتُ أنتقي هذه أو تلك من قطع الملابس . وأعترفُ ، بأني حيّرتُ الرجلَ ؛ طالما أنّ هدفي لم يكن اختيار هيئة تروق للذائقة الإفرنجية ، بقدر ما تكون كذلك بالنسبة لذوقنا ، المَشرقي . فما أنّ إطمأنّ الرجل ، بعد جهدٍ حقيق بالتذمّر ، إلى مظهري ، الرضيّ ، حتى قفلَ عائداً إلى البيت التحتاني ، إثر نداء أحدهم باسمه . وكنتُ في الهنيهة التالية ، مُنشغلاً بارتداء الملابس الجديدة ، حينما فجأني الخادمُ بظهوره ، مرة أخرى ، لكي يطلبَ مني أن أتعجّل بالنزول إلى قاعة الضيافة ؛ لأنه ثمة من يودّ رؤيتي بإلحاح . " أرجو أن تتمالكَ نفسكَ ، يا آغا . فإني أحملُ معي خبراً غير سار ، بل ومشئوماً " ، خاطبني كبيرُ الأعيان ، بعدما فرغنا من شؤون المصافحة والمجاملة . وكنتُ عند دخولي الصالة ، قد تسمّرتُ على مدخلها مذهولاً بمرأى الشاملي ؛ وهوَ مجالسٌ حموه في أريكة واحدة ، فارهة ، مركونة في صدر المكان . فحينما نطقَ الضيفُ مُبتدأ جملته تلك ، فإني شعرتُ بخفق فؤادي ، الذي أخذ يقرع صدري بقوّة . إذاك ، فقد ذهبَ فكري بشبهته نحوَ جهة واحدة : اليرلي باشي ، المبخوس الفأل . وما لبثَ الشاملي أن أيّد حَدَسي ، عندما استأنفَ القولَ بنبرة حزينة ، متهدّجة ، مُضيفاً الخبرَ لجملته تلك : " لقد ماتَ قوّاص آغا ، مَسموماً ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأولى والآخرة : صراط
-
الفصل الثالث : مَنأى 9
-
الفصل الثالث : مَنأى 8
-
الفصل الثالث : مَنأى 7
-
الفصل الثالث : مَنأى 6
-
الفصل الثالث : مَنأى 5
-
الفصل الثالث : مَنأى 4
-
الفصل الثالث : مَنأى 3
-
الفصل الثالث : مَنأى 2
-
الفصل الثالث : مَنأى
-
الرواية : مَهوى 11
-
الرواية : مَهوى 10
-
الرواية : مَهوى 9
-
الرواية : مَهوى 8
-
الرواية : مَهوى 7
-
الرواية : مَهوى 6
-
الرواية : مَهوى 5
-
الرواية : مَهوى 4
-
الرواية : مَهوى 3
-
الرواية 2
المزيد.....
-
ملامح من حركة سوق الكتاب في دمشق.. تجمعات أدبية ووفرة في الع
...
-
كيف ألهمت ثقافة السكن الفريدة في كوريا الجنوبية معرضًا فنيا
...
-
شاهد: نظارة تعرض ترجمة فورية أبهرت ضيوف دوليين في حدث هانغتش
...
-
-الملفوظات-.. وثيقة دعوية وتاريخية تستكشف منهجية جماعة التبل
...
-
-أقوى من أي هجوم أو كفاح مسلح-.. ساويرس يعلق على فيلم -لا أر
...
-
-مندوب الليل-... فيلم سعودي يكشف الوجه الخفي للرياض
-
الموت يفجع الفنانة اللبنانية كارول سماحة بوفاة زوجها
-
وفاة المنتج المصري وليد مصطفى زوج الفنانة اللبنانية كارول سم
...
-
الشاعرة ومغنية السوبرانوالرائعة :دسهيرادريس ضيفة صالون النجو
...
-
في عيد التلفزيون العراقي... ذاكرة وطن تُبَثّ بالصوت والصورة
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|