أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : صراط 7















المزيد.....


الأولى والآخرة : صراط 7


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3024 - 2010 / 6 / 4 - 14:03
المحور: الادب والفن
    





القاهرة ، أخيراً .
بَرْزخٌ بادٍ للعين ، من عجائب الدنيا ؛ هوَ ما يُطالِعُكَ به مَنظرُ مِصْرَ ، المُبتزَغ من طرَف الصّحراء . ويا لهُ من منظر فريدٍ بحق ، يقفُ المسافرُ أمامَهُ مَشدوهاً بما يُعاينهُ منه ، مذ اللحظة التي يَغشى فيها خلل عينيه . فإنْ تكن قادماً تواً إلى القاهرة ، من أيّ بلدٍ كانَ ، فلا بدّ أن تعتريكَ الرَهْبَة من عَظمَتها الجَليّة عمارة ًوسكاناً ، على السواء . إنّ دمشقَ وبيروتَ والإسكندرية ، ليبدو كلّ منها ، إذاً ، بلدة صغيرة إزاءَ هذه الحاضرَة العظمى . ولو تسنى لكَ مثلُ حظي ، فتقضي في القاهرة أياماً ثلاثة حَسْب ، فإنها ستكفي مئونة نفسكَ ، المُتلهفة ، التائقة إلى إجتلاء سرّ أمّ الدنيا ـ مثلما يَدعو المدينة أبناؤها . أما إذا كنتَ من بلدٍ آخر ـ كالشام الشريف ، مثلاً ـ فإنكَ ستغبط أهلَ مصر ، ولا ريب ، على ما حَباهم الله به من سكينة المكان ووداعته وأمانه .
" إنها هيَ ، وليسَ غيرها ، من المُفترض أن تكونَ تخت الإسلام ، الحقّ " ، أسرَرتُ لنفسي . ولم أكُ ، في واقع الحال ، بحاجةٍ لأيّ خشيَةٍ هنا ، فيما يتعلّقُ بالقول جَهاراً ، نهاراً . فكلمتي تلك ، المأسورة في داخلي منذ لحظة مغادرتي مقام الحسين عليه السلام ، كانَ من الممكن لي أن أعلنها على الملآ وبصوتٍ مُرتفع ، دونما خوفٍ من رَقيب أو عَوان . وما كانَ قصدُ الكلمة ، آنئذٍ ، الحط من شأن الآستانة ، العليّة ، وإنما الإشادة بمناقب بلدٍ مُباركٍ ، مُدهش التنوّع ، لا مَراء في أنّ كلّ مسلم سَيَجدُ فيه ضالّته ؛ مهما يكن مَذهبُه أو طائفته أو فرقته : ففضلاً عن مشاهد أهل البيت ، الكثيرة ، فها هنا ، أيضاً ، مقاماتُ الصحابة والعلماء والأولياء ؛ ومنهم شفيعُ فرقتنا ، النقشبنديّة ؛ الإمامُ الشافعي ، رضيَ الله عنه وعنهم .

قصرُ الكنج الكردي ، الباذخ ، كانَ على الطراز الفرنسي ؛ بما أنه شيِّدَ في نفس الفترة من الزمن ، التي شَهدَتْ فيها القاهرة حضور بونابرته ، المُغامر . وهذه العمارة ، بالتالي ، كانت تشبه مثيلتها ثمة ، في قرية الغرب ، الشاهدة بدورها على حضور جنابنا ـ استغفرُهُ تعالى . من ناحية أخرى ، فقصر الكنج كانَ من الشهرَة في جزيرة الروضة ، أنّ أيّ عابر أو جوّال ، من أهل المنطقة ، كانَ من الممكن أن يَدلكَ عليه ؛ وهوَ ، بالمقابل ، يتطلعَ في هيئتكَ بنظرةٍ ملؤها الريبة والحَذر : وعلى ذلك ، فإنّ سبباً ما ، ولا غرو ، إقتضى أن تكونَ الشهرة تلك ، الموصوفة ، من حظ قصر والد القاروط بالتبني ؛ وبالرغم من حقيقة ، أنّ الجزيرة هذه ، المُتوسّطة نهر النيل ، كانت تحتفي بقصور أخرى ، لا تقلّ مِقداراً ورفعَة وعظمَة . من المُفيد ذكرُ هذا السبب ؛ طالما أنه يتواشجُ مع موضوع مهمّتنا هنا ، في القاهرة .
إذ وبعد أعوام قليلة من إلتجاء الكنج لحِمَى صديقه ، عزيز مصر ، جاء لهذا الأخير خبَرٌ من طرَف البلاد الشاميّة ، شاءَ أن يَستولي على إهتمامه كلياً . فإنّ رسولاً من قبل كلّ من أمير جبل لبنان ووالي عكا ، مَثلَ بين يديّ العزيز لكي ينقلَ له رغبَة سيّدَيْه في الحضور إلى القاهرة وبأسرع ما يَقتضيه الأمْرُ .. وبعد أن يَحظيا بأمْر ٍ من سعادته ، سام ٍ ، بطبيعة الحال . حينما كانَ الحاكمُ يتفكّر ، مَلياً ، بهذه المسألة ، الداهِمَة ، فإنّ طالبَيْ اللجوء كانا ، فعلاً ، في طريقهما إلى تختِ ولايته ، السعيدة .
" إننا نضعُ رأسَيْنا ، المُطأطأين ، بين يَدَيْ سعادتكَ ، أيها العزيز " ، توجّه الميرُ بشير بكلمته إلى صديقه الوالي . وكان على أمير الجبل ، من بعد الإنتهاء من حفاوة الإستقبال، أن يروي على مَسْمَع العزيز داعي لجوئه إلى مصر ، مع رفيقه ذاك ؛ والي عكا : " لقد حقّ علينا غضبُ مولانا السلطان ، حفظه الله ، لأننا تدخلنا في شئون الشام الشريف ، فحالفنا خصوم واليها في صراعهم ضدّه " ، قالَ الميرُ بشير بنبرَة يَشوبها بعضُ الأسف . بيْدَ أنّ صديقه القديم ، محمد علي باشا ، كانَ عندئذٍ يَتطلعُ إليه بنظرة تعاطف وإعجاب ، صادقة . على ذلك ، وَعَدَه أن يفعلَ ما بوسعه لكي يُعاود التمتعَ بحظوة رضى الباب العالي وعفوه ، وبأسرع وقت . ولكنّ سبباً آخر ، كانَ يتعيّنُ عليه أن يُعجّل من رغبَة العزيز في نجدة ضيفيّه ، الشامييْن : فإنّ فرقة الدالاتية ، التي كانت بخدمَة هذيْن الواليَيْن ، المَخلوعَيْن ، أجازت لأفرادها التصرّف في مصر وكأنما همُ في البلاد الشاميّة ؛ وخصوصاً أنّ آمرَهم ، السابق ، ما كانَ سوى الكنج الكردي بالذات . وعن أفعال أولئك الدالاتية ، في القاهرة ، كتبَ الجبرتيْ ؛ مؤرخ بلد الكنانة ، العظيم : " إنهم أشقياءٌ من أكراد الشام ، عانتْ مصرُ بسبب تعدّياتهم وتجاوزاتهم الكثيرَ من الويلات ". لقد قرأتُ بنفسي خطط َ الجبرتي ، بطبعتها البيروتية ، الأنيقة ؛ لأنّ نشرَها في موطنه كانَ مُتعذراً ، لما كانَ من إنتقادها ، الشديد التحامل ، لفترة حكم محمد علي باشا .

وها أنا ذا ، بدوري ، في كنفِ عزيز مصر ، صُحبَة إبن صديقه ، القديم .
ولأعترفَ بأنّ أحمد بك هذا ، كانَ على درجةٍ رفيعة من الكرَم والسّخاء والمودّة ، طوالَ الأيام الثلاثة ، المُستطيرة الشأن ؛ التي قضيتها في قصره ذاك ، الموروث عن أبيه بالتبني . فهوَ لم يُفارقني خلال النهار ، إلا لماماً . وحتى ليلاً ، كانَ عليّ أن أتمَتع برفقته حتى ساعةٍ مُتأخرة . ولأطلبنّ مغفرة الربّ ، إذا نوّهتُ كذلك ، بأني أهملتُ ، هنا في القاهرة ، فروضَ الصلاة ، جميعاً ؛ لداعي إنشغال ذهني في معميّات مُهمّتنا ، علاوة على مغامض الجريمَتيْن ، الأخيرتيْن ؛ اللتيْن كانَ ضحيّتيْهما كلٌّ من القوّاص والعشّاب .
وإذ فوّتَ عليّ البحرُ ، بمزاجه المُتقلّب ، أيّ سانحَة للتحادث مع رفيق الرحلة ، القاروط ؛ فها نحنُ ذا هنا ، في صالون قصره ، الفاره ، نستعجلُ الخوضَ في مواضيع الساعة ومذ مساء اليوم هذا ، الأول ، لوجودنا في القاهرة .
" أرغبُ بأن أكونَ حاضراً ، حينما يأتي أمرُ العزيز بالموافقة على طلبنا ، المثول بين يدَيْه " ، قلتُ للقاروط بلهجة تتصنعُ القليلَ من الإهتمام . إلا أنّ نظرة عينيْه ، النافذتيْن ، المُسدّدة نحوي ، ما كانت تدَع شكاً بأنه فهِمَ مَقصَدَ كلمتي . فما لبثَ الرجلُ أن تحرّك من مجلسه فوقَ الطوطيّ الفاره ، المُريح ، ليقتربَ برأسه مني . " أجل ، بطبيعة الحال ، يا آغا . إنّ سعادة الباشا ، كما باحَ لي بذاته ، يرغبُ بدوره في التعرّف عليكَ عن قرب " ، أجابني أحمد بك بهدوء . ثمّ أضافَ مُتكلفا الأسَف : " وكانَ بودّي ، حقيقة ً، أن يكونَ عبدُ اللطيف أفندي ، المُبجّل ، في معيّتنا. ولكن ، من الظاهر أنه أوّلَ المُهمّة بغير معناها ، الصائب ". بدوري ، أدركتُ مَغزى هَمْزهِ ؛ وأنه يَطالني كذلك . إذ سَبَق لي ، ثمة في جبل لبنان ، أن شاركتُ الأفندي مَخاوفه ووساوسَهُ . بيْدَ أنني شئتُ ، الآنَ في حضرَة البك ، أن آخذ الأمرَ على مَحْمَل آخر ، فكِهٍ . فقلتُ لمُضيفي ، مُتسائلاً بمَرَح : " لم يكن سبعة ، عددُ أولئكَ الفتيَة ، المَبخوسي الفأل ؛ الذين صُبّتْ على رؤوسهم اللعنة السلطانية ، العظمى ؛ ثمة ، في عينتاب . أليسَ كذلك ؟ "
" بل إنّ تلك اللعنة ، الفظيعة ، صّبّتْ داخل مؤخراتهم " ، هتفَ القاروط مُتضاحكاً بجذل ورضا . وشاركته في مَسرّة المَرَح . إلا أني كنتُ ما أفتأ أنتظرُ جوابه ، الجديّ ، حولَ الأمر . فقال لي مُستفهماً ، بعدما عادتْ ملامِحُهُ إلى طبيعتها ، الخالدة : " أأنا قلتُ ، حقا ، أنهم كانوا سبعة ؟ "
" فأنتَ إذاً ، يا بك ، لا تتذكر ذلك . مع أنّ ذاكرتكَ ، ما شاء الله ، كانت تحتفظ بأدقّ تفاصيل الواقعة تلك ، المُريعة " ، قلتها بشيء من التهكّم . إلا أنّ القاروط ، كالعادة ، لم يُفصح عن كدَر ما ، من تعريضي بمسلكه . فتماديتُ بالمناكدة ، حينما إستأنفتُ حديثي بالنبرَة نفسها : " أجل ، كانَ عددهم سبعة ، بحَسَب ما ذكرته روايتكَ لحكاية إبنة الجلبي ، المُغتصَبَة. وعلى كلّ حال ، فإنّ ذلكَ هوَ عينُ عدَدِ أركان مجلس العمومية " . فتكلمَ البكُ إذاكَ بلهجةٍ أخرى ، فيها بعضُ الجفاف : " إنني أتمنى ، ولا ريب ، لو أنّ صاحبنا الأفندي ، بدوره ، قد فهمَ مغزى هذا الرقم ... " . وكاد أن يُضيفَ " المُبارك " ، لولا أنه إستدرَكَ لسانه. إذ تذكر ،على الأرجح ، ما كانَ من مصير أولئك الفتيَة ، المساكين .

عند ذلك طرَحتُ عليه سؤالاً مُلحّاً ، سبقَ أن شغلني منذ أن رُويَتْ تلك الحكاية أمامي : " ولكن ، يا بك ، كانَ بودّي أن أستفهمَ منك في حينه عن أمر آخر . وإذاً ، أكانَ فرمان السلطان ذاك ، يُطلقُ حقا يدَ والي عينتاب قتلاً وسبياً في المدينة وبدون تفرقة بين مذنب وبريء ؟ " . فتطلع إليّ القاروط ببصره الحاد، ثمّ أجابني بهدوء : " نعم . ولو حصلَ ذلك ، لما كانت هذه حالة غربية ، شاذة ، في تاريخ السلطنة " . وأضافَ وهوَ يتنهّد " إنّ هؤلاء الترك ذوو مزاج دمويّ ؛ فهم لا يَتهاونون قط في أمور العفة والعقيدة ـ كما يفهمونها على طريقتهم "
" عجباً . فإنّ تطبيق ذاك الفرمان ، كان سيؤدي إلى انتهاك أعراض آلاف النسوة ، المسلمات ، ولخاطر الإنتقام لعفة بنت واحدة ، حسب ؟ "
" ولمَ العَجَب ، يا عزيزي . فمن همُ أهالي عينتاب ، في آخر الأمر ـ بنظر أولئك الترك ؟ وحتى في مدينتنا ؛ التي يزعمون بأنفسهم قدسيّتها ، فأطلقوا عليها نعتَ " الشام الشريف " ـ فهل الحال أفضل ؟ أم أنكَ تعتقد أنَ تصرفات وموبقات الانكشارية ، وطوائف الجند الأخرى ، هيَ بعيدة عن أسماع سلاطين آل عثمان ؟ " . ولحظتُ وقتئذٍ ، أنّ البك المصريّ كان يتكلم بحقد عن الخلافة العلية ، الهمايونية . فما كانَ مني إلا أن تنحنحتُ ، مُقلداً طريقة الشاملي ؛ حينما كانَ يرغبُ باستهلال حديثه . ولكنني ، بتلك الحركة ، كنتُ أريد تغيير الحديث .
" سأصارحكَ ، يا بك ، بما كنتُ على ريبةٍ منه ، بخصوص مهمّتنا هذه " ، إتجَهتُ إلى القاروط بكلامي مُمهّداً بذلك لمحاولة سَبْرَ غوره . ثمّ أردفتُ قائلاً : " إذ سبَقَ لك أن أدخلتَ في يقين الآخرين ، من أعيان الشام ، بأنكَ تركتَ مصرَ بسبب تذمّركَ من حالها ، العَسِر . فكانَ لا بدّ أنّ ندهشَ بعدئذٍ ولا غرو ، بإقتراحكَ الذي قدّمته ؛ وهو أن نستعينَ بالعزيز ". لاحظتُ إذاك أنّ مُحدّثي سكتَ مُطوّلاً . كان بصرُهُ يَجوسُ ، مُوارباً ، في هيئتي . ولعلّه كانَ يستشفّ شيئاً ما ، مُريباً ، في سؤالي ـ هكذا قدّرتُ . بيْدَ أنّ الرجلَ ، على دهشتي ، ما عتمَ أن أطلقَ ضحكة خافتة ، مُقتضبَة ، قبل أن يُبادرَ لإجابتي : " المعذرة ، يا آغا . ولكنّ سؤالكَ جعلني أستعيدُ حكايَة إقصائي عن حظوة العزيز " . وكعادة القاروط ، راحَ يَسرُد الحادثة بأسلوبه الممتع ، الشائق ؛ والشبيه نوعاً باسلوب الحكواتي في مقهى بين النهرين ، الدمشقي .

" كانَ ذلك ، في إحدى الأمسيات الربيعية ، الطيّبة الهواء ، والتي كانَ فيها جبلُ المقطم يجود بالنسائم اللطيفة على أهل القلعة . في الديوان إذاً ، كانَ السمّارُ والضيوفُ يَتداولون شتى الأحاديث والنوادر ، حينما أبدى أحدهم هذه الملاحظة ، مُداهناً بها الوالي : " إنه لأتفاقٌ قدَريّ ، ولا ريب ، أن تكون مِصْرُ السنيّة مَحَط ّ رحال دولة العلويين ، الفاطمية ؛ التي يا ما سعى إليها أخلافُ أهل البيت منذ شهادة كوكبهم ؛ الحسين عليه السلام . وبلدنا ، سيكونُ عليه ، بالتالي ، أن يَشهَدَ مستقبلاً مولدَ سلالة علويّة ، جديدة ؛ كوكبُها ، الأسنى ، هوَ مولانا محمد علي باشا ، حفظه الله " . سكتَ القاروط لبرهة ، ثمّ تابع حكايته " وبطبيعة الحال ، تهلّلَ وجهُ الباشا لذاك المديح فاتحاً بذلك الطريق للآخرين من الحضور للإزادة والإفاضة . فما كانَ مني ، من غير قصد ، إلا أن عكرتُ مزاجَ الرجل بمداخلة تاريخيّة عن مظالم أولئك العلويين ، الفاطميين ؛ والتي إنتهت بظهور صلاح الدين " .
" ولكن ، يا بك . على حَسَب علمي ، فإنّ العزيزَ يُحبّ التشبّه بصلاح الدين ؛ إلى درجة أنّ بعضهم يؤكدُ أنه من سلالته ؟ " ، قلتُ له مُقاطعاً . فابتسم فمُ المضيف ، قبل أن يفوه بالقول : " أحسنتَ ، يا عزيزي ؛ إنها لمعلومة صائبة . ولكنني ، في تلك الأمسية ، نوّهتُ بموضوع آخر ؛ يتعلق بفرض العلويين لضرائبَ قاسية ، من كلّ شكل ولون . وبالغتُ وقتئذٍ بالقول ، أن مسلمي مصر ، الفاطمية ، تمنوا لو كانوا قد ظلوا على دين أسلافهم ، القبطي ؛ طالما أنّ النصارى يدفعونَ ضريبة واحدة حَسْب ؛ وهيَ الجزية . واختتمتُ مداخلتي تلك ، بشهادة الرحالة ابن جبير الأندلسي ـ وكانَ شاهدَ عيان ـ وفيها روايته للمظالم الشنيعة ، التي كانَ يقترفها آنذاك رجالُ الدولة الفاطمية : فعلى الحدود ، مثلاً ، كانَ هؤلاء ينتظرون حجاجَ بيت الله الحرام ، العائدين من الحجاز . فكلّ من لم يكن بقدرته دفعَ مكوس الحجّ ، المَفروض ، كانَ يُعلّق في السقف من خصيتيْه بوساطة حبل ، فيُخصى كما لو كانَ عبداً متعوسَ الحظ " . وعادَ القاروط للصمت قليلاً ، ثمّ اختتم حكايته بالقول : " ذاكَ كانَ سبباً ، مباشراً ، لحنق العزيز واستيائه مني ". عندئذٍ ، أجزتُ لنفسي أن أبدي ، بدوري ، هذه الملاحظة : " وإذاً ، فإنّ اتصالكَ مع العزيز ، لم ينقطع تماماً بحلول جنابكَ في الشام ؟ ". فما كانَ من القاروط ، فجأة ، إلا أن رفعَ صوته مُجيباً بشيء من الحدّة : " بل إنقطعت علاقتي مع سعادته ، تماماً . ووجودي هنا ، الآن ، هوَ بطلبٍ من مجلس العمومية ـ كما تعلم " .

الحقيقة ، فلم استغرب من خروج البك ، الداهية ، عن طوره : إذ كانَ هذا ، من ضمن خطتي لإخراجه من تحفظه وجعله يتكلم بصراحة وصدق . على ذلك ، قلتُ له بنبرة لامبالية ، مُتكلّفة : " نعم ، ولا شك . فما علمناه منكَ ، أنا والأفندي ، أنّ المجلسَ طلبَ معونة المير بشير ، لكي يُحاولَ الإتصالَ مع عزيز مصر وإقناعه بالتدخل لدى جلالة السلطان ". فقاطعني القاروط ، قائلاً بنبرةٍ أخفّ حدّة : " إسمح لي ، يا عزيزي . إنكما ، أنت والأفندي ، من أبديا الإعتراضَ على هذا المَسعى "
" إنّ عبد اللطيف أفندي ، كما سمعتَ جنابك منه ، هوَ من رفضَ الإستعانة بحاكم مصر . لقد تخوّف من إمكانيّة تدخل الدول الأوروبية ، المعادية لطموحات العزيز في ضمّ البلاد الشامية . أما من ناحيتي ، فلم أعترض على ذلك الأمر . بل كنتُ أودّ أن نبقى في الجبل ، لحين ورود ردّ عزيز مصر على رسالة المير بشير "
" حسنٌ . إلا أنّ المير بشير هوَ من كانَ قد نصحنا ، بنفسه ، بحمل هذه الرسالة إلى صديقه ، حاكم مصر ، مُعتقداً أنّ ذلك سيكون له تأثيرٌ أقوى عليه ؛ فيبادر هوَ بدوره للإتصال بالباب العالي ، حتى يرجوه العفو عن الشام بخصوص المأزق هذا ؛ المُترتب على مقتل الوزير والقبجي "
" كنا دائماً في مأزق ، يا بك "
" صحيح. والآن ، يمكن لنا أن ننعتَ الوضعَ بالأزمة "
" أزمة ؟ "
" إنها تعريبٌ لكلمة فرنسية ، على ما أعتقد . وهيَ تعني حالة سياسية أكثر خطورة من المأزق ـ كما تسنى لي مطالعته ، فيما مضى ، في صحيفة تصدر بالديار المصرية " ، قالها ثمّ استطردَ " وعلى أيّ حال ، فنحن أبناء اليوم . ولعلمك يا آغا ، فالخلق هناك ، في الشام ، يعتقدون أنّ يومَ القيامة ، الموعود ، أضحى جدّ قريبٍ " ، ثمّ أضافَ بنبرَة مُبيّتة " وإنّ كثيرين منهم ، كما تأكدتّ من ذلك بنفسي ، يُروّجون لقرب ظهور الخضر . وقد ضافرَ هذا الإعتقادُ ما كانَ من رؤيا الممرّ ذاك ، السرّي ، في منزل الشاملي بالقنوات " .

إتسَعَ مبلغُ دهشتي ، فتذرعتُ عندئذٍ بالصمت.
إنّ القاروط رجلٌ في غايَة المكر ، فكرتُ ؛ فهل يختلق هذه القصّة لكي يُمهّد للحديث عن كناش البرزنجي ؛ الذي وصله ناقصاً تلك الأوراق ، المنتزعة من لدن ياسمينة ؟
وكأنما الماكرُ كانَ يقرأ أفكاري ، فما عتمَ أن فتحَ فمه ثانية ً ليقول بلهجة غير مكترثة : " أجل ، وتكلموا حتى عن إبنة الشاملي تلك ، الراحلة ؛ على أساس أنها العذراء ، أو ما شابَهَ ذلك . ثمّ فاقمَ من الأمر حلولُ بعض الأغراب في المدينة ؛ ممن وَعَدَهم شيخهم بموعد القيامة ، القريب ، في الشام الشريف "
" من أيّ الأقاليم ، جاءَ هؤلاء ؟ "
" من العراق وكردستان والأغوان ، وحتى من فارس نفسها "
" فارس ؟ أي من جهة عدوّ سلطاننا ذاكَ ؛ الصفويّ ؟ " ، تساءلتُ باستغراب . هزّ القاروط رأسه ، علامة على الإيجاب . ثمّ قالَ بعد لحظة تردد : " إنّ عدداً من الرجال ، الأعاجم ، الذين مروا من الشام في طريقهم إلى القدس للحجّ ، أعلنوا بصوتٍ جهير على الملأ بأنّ علامة ظهور من أسموه بالغائب ، قد عرفوا بنذيرها وهم ثمة ، في بلادهم . وقالوا أيضاً ، أنهم في سبيلهم إلى القدس ، لكي يلاقوا وليّهم المنتظر ، المطلوب " . ثمّ نظرَ في عينيّ ، واستأنفَ كلامه : " لقد اعتقدَ هؤلاء ، أيضاً ،أنّ العلامة تلك ، المزعومة ، تداور في فلك رؤيا إبنة الشملي ؛ وأنها وصلتهم عن طريق رصدهم للنجوم . ويبدو بحسب قولهم ، أنّ نجم العذراء ، المُذنب ، هوَ من كانَ قد ظهرَ في سماء منطقة الهلال الخصيب ، مؤخراً . إنّ ظهورَ ذلك النجم ، المذنب ، كانَ حقيقة وشاهده معظم الخلق ؛ فبلبلَ خاطرهم في كلّ مكان . عندئذٍ انتشرتْ ثمة ، في الشام ، أقاويلٌ عجيبة ؛ تدّعي أنّ الرجال سيصبحون نساءً وأنّ أسماكَ نهر بردى سيصبحُ في إمكانها أن تتكلمَ وتبشر بالغائب ، المنتظر .. وغير ذلك من رؤى ، مزعومة " . قالها المُضيفُ ، ثمّ أرخى رأسه إلى الوراء بما ينمّ عن الإرهاق ، أو ربما برغبته في إنهاء السهرة . كنتُ من جهتي ، ولا ريب ، على علم بما ينتظرنا غداً من أمر ، مُستطير ؛ حينما سيبعثوا بطلبنا من القلعة ، لمقابلة عزيز مصر . وبالرغم من ذلك ، رأيتني على توق لإنهاء الحديث أولاً ؛ طالما أنه كانَ يَمِسُّ شغافَ فؤادي ويثيرُ ذكرياتٍ عزيزة على نفسي .
" ولكن ، لِمَ تنتشرُ مثلُ تلك الأقاويل ، في كلّ فترة يجدّ فيها حَدَثٌ جلل ـ كما في واقعة مقتل الوزير والقبجي ؟ "
سألتُ مضيفي ، مجدداً ، بهدف حثّ همّته على التوقد . وهكذا كان . أرجعَ البكُ رأسه ، ولكن ليسَ بدون فتور ، إلى وضعيّته الأولى ، ثمّ شرَعَ يُجيبني بحيوية : " لأنّ العامّة ، البسطاء ، لا يجدونَ مَخرجاً آخرَ ، غير الدين " . وكنتُ ، مذ وصوله إلى قرية الغرب ثمة في جبل لبنان ، قد اعتدتُ من البك تجديفه وشطحه . بيْدَ أني لم أكترث لذلك كثيراً . فإنني ، قبل أيّ إعتبار آخر ، من صُلب أحد حواريي صاحب السجادة الخالدية. وكانَ مولانا ، قدَّس سرّه ، غير مُغترّ بعلوم اليقين ومنفتحاً دوماً على آراء الشكّ . فلم يخشَ قط المُجادلة مع الدهريين أو المُنشقين أو الرافضة . وإذاً ،استفهمتُ من مُجادلي عما كانَ يقصد بكلامه ، عن حاجة البسطاء للدين : " فأنتَ تعني ، إذاً ، خشيتهم من الموت ؟
" نعم . إنهم يودّون التطهّر من ذنوب الدنيا ، طالما أنهم يعتقدونَ بأنّ أبوابَ الآخرة ، الموارَبة ، في سبيلها لتنفتحَ عاجلاً . حينما يكون سيفُ السلطان ، البتار ، مُسلطاً على رؤوس العامّة ، فإنهم يميلون عندئذٍ إلى تصديق أيّ خرافة ، مُحتملة ، تعِدُهُم بالخلاص . حتى لو كانَ ذلك الخلاص ، هوَ الفناء نفسه . بيْدَ أنهم لا يرغبونَ بملاقاة مصيرَهم ، الحَتم ، إلا بعدما يضمنوا لأنفسهم الطهارة من آثام الحياة الأولى "
" أنتَ قلتَ " العامّة والبسطاء " ؛ فهل غيرهم ، من الأغنياء والأعيان ، يستهترُ بمقام الفناء ؟ "
" أبداً . بل إنّ الأغنياءَ ، في واقع الحال ، يعيشون حياتهم برخاء ودِعَة ، ولا يشغلون أذهانهم كثيراً بمسألة بسيطة. وأقولُ أنّ الموتَ مسألة ٌ، بسيطة ، لأنه حَتمٌ وميعادُهُ موقوتٌ . وحينما تحينُ اللحظة تلك ، فإنّ القبورَ الفخمة ، المُرخّمَة ، تكون جاهزة لإستقبال أجداث أولئك القوم ، المُعتبَرين . وإذاً ، فخوفُ بني آدم من خصمه، الأزليّ ، يفهمه كلّ منهم على طريقته ويتعامل معه بحسب وضعه ومرتبته . لقد كنتُ اليومَ مُتمتعاً بصُحبَة جنابكَ ؛ هناك في الجيزة . فرأينا تلك الإهرامات العظيمة ؛ والتي هيَ ، كما نعلم ، مجرّد قبور لملوك مصر ، القديمة . فماذا تكون دلالة الأهرام ؛ غير كونه رمزاً لعبث الحياة : إنّ كلّ كائنات الدنيا وموجوداتها تفنى : ملوكها ؛ رعيّتها ؛ دويباتها ؛ طيورها ؛ أسماكها ؛ هوامها .. وأيضاً ، مباهجها ؛ ملاهيها ؛ لذاتها ؛ قصورها ؛ متاعها ؛ فنونها .. كلّ شيء ، سيضربُ عليه الموتُ بقبضته القويّة ، الماحقة . ووحدها القبورُ ( والأهراماتُ تلك ، الحجرية ، أكثرها ديمومة ولا غرو ) ، من سيكونُ لها حظ البقاء على الأرض ؛ لكي تكونَ شاهداً على حقيقة الكون الوحيدة ، الحقيقية : الموت " .

< ويليه الفصل الخامس من الرواية ؛ وهوَ بعنوان " مَطهر " ..



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأولى والآخرة : صراط 6
- الأولى والآخرة : صراط 5
- الأولى والآخرة : صراط 4
- الأولى والآخرة : صراط 3
- الأولى والآخرة : صراط 2
- الأولى والآخرة : صراط
- الفصل الثالث : مَنأى 9
- الفصل الثالث : مَنأى 8
- الفصل الثالث : مَنأى 7
- الفصل الثالث : مَنأى 6
- الفصل الثالث : مَنأى 5
- الفصل الثالث : مَنأى 4
- الفصل الثالث : مَنأى 3
- الفصل الثالث : مَنأى 2
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7


المزيد.....




- جبل كورك في كردستان العراق.. من خطر الألغام إلى رفاهية المنت ...
- لماذا يفضل صناع السينما بناء مدن بدلا من التصوير في الشارع؟ ...
- الذكاء الاصطناعي يختار أفضل 10 نجوم في تاريخ الفنون القتالية ...
- شباب سوق الشيوخ يناقشون الكتب في حديقة اتحاد الأدباء
- الجزيرة 360 تشارك في مهرجان شفيلد للفيلم الوثائقي بـ-غزة.. ص ...
- النيابة تطالب بمضاعفة عقوبة الكاتب بوعلام صنصال إلى عشر سنوا ...
- دعوات من فنانين عرب لأمن قطر واستقرار المنطقة
- -الهجوم الإيراني على قاعدة العُديد مسرحية استعراضية- - مقال ...
- ميادة الحناوي وأصالة في مهرجان -جرش للثقافة والفنون-.. الإعل ...
- صدر حديثا : كتاب إبداعات منداوية 13


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : صراط 7