|
الأولى والآخرة : صراط 6
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 3022 - 2010 / 6 / 2 - 15:44
المحور:
الادب والفن
البَحْرُ ، أيضاً . إنه مَساحَة ٌمن الماء ، من المُحال حَصْر مَداها ؛ مدىً من السّديم والعَماء والخواء ـ كباديَةٍ سَرْمَديّة ، أنقاؤها الموجُ والزبَد والمُلح . فوقَ مِراح هذا الكفن ، الأبيضَ ، الجدير بإله وثنيّ من العماليق ( يُسمونه أبو زيدون ، بلغة الأروام ) ، مضى مَركبُنا يَمْخرُ عِبابَ المُستحيل. وكانَ أصحابُ المركب بأنفسهم من ملّة الروم ، الصقليين ، المُتمرّسين بعلوم البحر وتجاربه . مرأى قائدهم ، العجوز ، كانَ كفيلاً ببثّ الطمأنينة في نفس المُسافر ، المُضطربة : " لقد وصلَ الرجلُ ، المُحنك ، إلى هذا العمر ، الرذل ، وهوَ يُجاهد يومياً أخطارَ اليمّ ، المَهولة " ، فكرتُ في سرّي مُحاولاً التخفيفَ من غلواء القلق والفرَق . وكانَ من الممكن ، في أحوال أخرى ، أن يُضافرَ أملي بحقيقة أننا قطعنا مُعظم طريق رحلتنا من بيروت إلى الإسكندرية . ولكن ، لم يُعَزني بحال ما كانَ يُظهره الملاحونَ من هدوء ورباطة جأش ، ولا حتى دَعوات داخلي ، الحارّة ، المُوجّهة للسماوات العلى . فبالرغم من أنّ أوانَ الصّيف ، المُبكر ، قد حانَ موعدُهُ ، فإنّ إضطراب الجوّ كانَ يُصاحبُ سَفرنا . هذا الجوّ ، المُتمَكنة فيه الريحُ بعَصفها الشديد ، ما أجازَ للأمل أن يَسكن الرَوْعَ طويلاً : فكم مرّة عُوِّضتْ الأشرعة المُتهاويَة ، المُتكسّرة ، ببدائل لها ؛ وكم مرّة حطمَتْ الريحُ خشبة السارية ، الرئيسة ( القِرَيّة ) ، فاستعمِلتْ الشرُع الأخرى ، الأقلّ شأناً ، أو قوى الجَدّافين المَساكين ، المُستعبَدين ؟ " لقد غادرنا من زمان محطة العريش ، الأخيرة. فلم يَبق لنا ، لكي نصل إلى مُبتغانا ، سوى يومٌ أو نحوه " ، قالَ لي القاروط بنبْرَةٍ مُطمْئِنة . الحق ، فإنّ هذا الرجل ، غير المؤمن ، كانَ ما يفتأ يُثير دهشتي بلامُبالاته بالأخطار . ليسَ في ذلك الوقت ، وإنما بعده بكثير من السنوات ، عليّ كانَ أن أتيقنَ بأنّ الدهريين ، همّ أقلّ الناس خوفاً من الموت : لعمري ، كانَ من المنطقيّ أن يكونَ المُتديّن ، المؤمن بحتميّة اليوم الآخر ، هوَ المُفترَض فيه التسليم بمقدور الفناء : فهل الإيمانُ ، في حقيقته ، هوَ خوفُ الإنسان من خصمِهِ الأقوى ، والأقدَم ؛ الموت ؟
" ها هوَ ، أخيراً ، منارُ الإسكندريّة " هتفَ أكثر من صوت حولي ، بنبرة الغبطة والجَذل والفوْز . كنتُ مع رفيق الرحلة ، البك المصريّ ، فوق سطح المركب ، حينما فجأتنا تلك الأصوات . ولما شرَعتُ بمدّ بصري نحوَ الأفق ، كانت علامة ُ المرسى تلك ، أدقَّ حجماً من أن تعاينها عينُ من كانَ مثلي ، بلا خِبْرَة أولئك الناس ؛ الذين زفوا لنا خبَرَ السلامة . وعرفتُ منهم ، أيضاً ، أنّ أميالاً عديدة بعد ، تفصلنا عن مرسى المدينة ، الكائن في خليج يُدعى برّ الغرب . هذه المفردة الأخيرة ، كانَ عليها إذاك أن تذكرني بقرية الغرب ؛ بالصُحبَة الحبيبة ، المُفتقدّة ،التي خلفتها ورائي ثمة ، في إمارة جبل لبنان . وكانَ عبد الله أفندي ، بطبعه المُتحفظ والمرتاب ، قد سبقَ له وارتأى البقاءَ في تلك البقاع ؛ طالما أنه إمتنعَ عن قبول دعوة القاروط ، بأن يرافقنا إلى مصر مع من كانَ بمعيّته . إنّ جدّ نرجس ، في آخر المطاف ، فضلَ أن يظلّ في حماية المير بشير ، المأمون الجانب ، ولحين أن ينجليَ الوضعُ هناك ؛ في الشام التعِسَة ، المَنكوبة بالفوضى والنزاع والفتنة .
في اليوم ذاك ، السالف على سفرنا بالبحر ، رأيتني مساءً في إحدى الحانات ، الحافلة ، التي تذخر بها ضاحية النصارى ؛ المعروفة بعين الرمانة ، الواقعة بين قرية الغرب وخليج بيروت . إنّ رفيقَ الرحلة ، القاروط ، هوَ من كانَ قد تكرّم بدعوتي إلى السهرة تلك ، الأخيرة ، في بقاع الجبل اللبنانيّ : " أعرفُ مَشرَباً جيّداً ، يتجنب أولئك البحّارة ، المهووسين بالسُكر والعربَدَة " ، قال لي رفيقي بلهجته الطريفة ، المصرية . وكانَ كلّ منا قد استأجرَ مكارياً مع بغلته ، مُشترطاً عليه الإيابَ في ذات الليلة . المكاريّ هنا ، في الجبل ، كانَ له صفة الدليل أكثر من السائس . إذ كانَ من الصعوبة بمكان ، حتى بالنسبة للعارف بطبيعة المنطقة ، أن يَهتدي لطريقه الصائب ، المَنشود ؛ بالنظر لتعدّد وتداخل الدروب والشعاب والممرات ، الوَعِرَة . حينما وصلنا للحانة ، المَطلوبة ، صرفنا المكارييْن ، الملوليْن ، على أمل أن يوافيانا إلى مدخل هذا المكان بعد نحو ثلاث ساعات . ما أن أخذتُ موضعي على أحد الكرسييْن ، الخشبييْن ، المُحدقيْن بالطاولة الصغيرة ، النائية ، حتى وجدتني ألمّ بلمحَة من عينيّ ، مُبتسَرة ، بشوارد قاعة الخمارة ، الرحبَة . فكأنني في مَوْضع للشراب ( المنعوت بالبار ، بلسان الإفرنجة ) ، في إحدى الدور الدمشقية ، المُعتبَرَة ، المَنذورة لوكلاء القناصل الأوروبيين . إلا أنّ هذا الموضعُ هنا ، يبدو وقد ضُخِمَ بشكل مُبالغ فيه .
لسببٍ ما ، لم أكتنه مغامضه آنذاك ، كانَ مُضيفنا ، الميرُ بشير ، قد شاءَ أن يُقيمَ القاروط في جناح من قصره ، خاصّ بضيوفه الرفيعي المَقام ، المُميّزين . على ذلك ، ما أن عُدنا في تلك الليلة إلى قرية الحاكم ، المؤقتة ، وصرَفنا المكارييْن مع بغلتيْهما ، اللطيفتيْن ، حتى استودعني رفيقي ثمّ مضى إلى مكان إقامته . هنا ، أمامَ النزل ، الذي تقطنه مجموعتنا ، كانَ الظلامُ مُعمّماً على المدخل والجدران ، الخارجية . كذلك ، فلم تكن ثمة حراسة ما ، عند هذه الناحية . " إنّ وكرَ النسر ، ولا غرو ، بغير حاجة لشروط الأمانَ " ، فكرتُ في نفسي مُطمئناً . وحينما قلتُ ، أنّ إيابنا للبلد كانَ ليلاً ، فإنني أعني العتمة المُغلّسَة ، الشاملة . ففي واقع الأمر ، كانَ الوقتُ على مَشارف الفجر ، عندما رحتُ أرتقي الدرجَ العريض ، المُرخّم ، في طريقي إلى حجرتي . لم أكن ثملاً تماماً ، في هذه اللحظة الرخيّة والمُتوجّسَة في آن ، التي شاءتْ أن تقودَ قدَمَيّ ، بطريق الَسهو ، إلى حجرة نرجس ؛ المُلتبسَة الموقع على ناصيَة مدخل الدور الثاني . ذلك أنّ حجرتي ، المَطلوبة ، كانت تقوم على الناصية الأخرى ،المُقابلة ، من مدخل الفناء نفسه . وإذا ، كنتُ قد تهتُ طريقي ، ولا ريب ، في الظلمة المُطبقة على المكان برمّته ، حينما رأيتني أدفعُ بابَ تلك الغرفة ، لأتسمّر من ثم مذهولاً على عتبتها ، الجوانيّة : فعلى بصيص نور شمعة متوحّدة ، خافتٍ ، كانت موضوعة على قنصلة صغيرة ، تعلوها مرآة مُذهّبة الإطار ، لمَحتْ مَشهداً غريباً ، شاذا ، لا أكادُ حتى الآن أتحقق من صحّته : إنه مَشهَدٌ عارمٌ ، طائشُ الصواب ، كانَ يَجمَعُ نرجس وشمس ، العاريتيْن تماماً ، في عناق مُتلاحم الأعضاء ، شغوفٍ ، يُهيمنُ على هيمانه البارح خصلة ُ الصّمت والسكينة والدِعَة . لمحة واحدة حَسْب ، هيَ كلّ ما أبصرَته العينُ من منظر بَدَنيْ المرأتيْن ، الأسنى ، المُكتنفُ عندئذٍ بعوارض الجوى ، الجامِحَة .
ولكن ، لأنْ كنتُ ما أفتأ على ريبةٍ من تلك الرؤيا ، إلا أني ، بالمقابل ، على يقين ، تماماً ، بأنّ ما حصلَ بُعيدَ نحو الساعة من ذلك ، كانَ واقعاً حقا . فما أن ولجتُ حجرتي ، حتى إنطرحتُ على السرير وأنا بكامل هندامي ، ثمّ رحتُ في سبات عميق . غفوتي السريعة ، كانت بسبب ثقل النعاس ، ولا شكّ . أما عجلة يقظتي ، التي جدّتْ لاحقاً ، فكانت من أثر خِفة ما أبصرَته عيني ثمة ؛ في الحجرة : إذ ما أن رفعتُ رأسي على حركة ما ، في الحجرة ، حتى خفقَ فؤادي بقوّة . فقد توهّمتُ أنها نرجس ؛ من تقف هناك على هيئة شبح ، مليئة بالظلال . بيْدَ أنها صديقتها ، شمس ، من كانَ عليها أن تحركني بإلحاح من لجة ذهولي . وبلغ الجرأة بها ، الشقيّة ، أنها لم تتورّع عن الحضور ، مُتسللة ، وعلى جسَدها غلالة حريرية ، ناصعة ، غاية في الرقة والشفافية : " لا يجوز للحبيبَيْن ، في ساعة الفراق ، الدانيَة ، تبادلُ الصدّ والكيْد والنكايَة " ، هَمَسَتْ البنتُ الخرقاء بصوتها المُرجف ، المُرتعش . هذا ما أرادته هيَ ؛ وهذا ما تحقق لها . " ماذا تفعلينَ ، بحقّ السموات العلى ؟ " ، كنتُ أردّدُ بين فينة وأخرى . ولكنني كنتُ آنئذٍ في سماوات أخرى ، أكثر علواً . إذ تبادلتُ مع مُشرفة دار الحديث ، السابقة ، وطوال الساعة تلك ، المُشرفة على الفجر ، كلّ ما يَخطرُ على بال المَرء من أفانين المُتعة ، المُختلفة ؛ المَشروع منها والمُحرّم : ولكن ، ياله من تعبير هذا ؛ طالما أنّ عقيدتنا توصّفُ بالزنا ، المُحرّم ، كلّ ولوج للذكر في مؤدلج الهنّ . على أنّ لحظة التجربة ، بطبيعة الحال ، هيَ غير لحظة تسجيلها كتابة ًعلى ورقّ الرقّ ـ وهوَ ما أفعله الآنَ ، حينما أستعيدُ وقائع العُمر وأنا في جزيرة منفايَ ، القصيّة النأي .
البَحْرُ ، صباحاً . كم هوَ رائعٌ منظرُهُ ؛ ولكن ، من بعيد . فالقربُ ، ولا غرو ، قد فوّتَ على عينيّ ملاحَة المنظر . أما الآن ، ومن مكان مُناسبٍ ، سامِق ، مُشرفٍ على الشاطيء ، فإني كلفتُ بتأمّل سُدول الأمواج هذه ، الرخيّة ، المَوصولة في الأفق ، الأزرق ، بالسدرَة العليا . إلا أنه ، في حقيقته ، كانَ لوناً لازورَدياً ذاكَ ؛ لون الدّفق المائيّ ، المُهيمن على البحر وأمّه ، السماء . وإذاً ، من مكاني هذا ، على شرفةٍ مُرَخّمة يَفضي إليها بابُ حجرة الفندق ، الداخليّ ، كنتُ أشرفُ على مَشهَدِ البحر الصباحيّ ، الساحر ؛ وأنا جالسٌ إلى منضدة صغيرة ، مَشغولة بالمَعدن . فنجان القهوة المرّة ، المُهيّلة ، كانَ بدوره يَمزجُ نكهته ، الحرّيفة ، بأريج الورود ، العبقة ؛ الورود ، من جوريّ وشاميّ وخبيزة وتاج النار ، المُستكينة في أصُصِهَا ثمة ، على حافة الشرفة . لم يكن البك قد أفاق بعدُ ، كما قدّرتُ . فالبارحة مساءً ، وعلى الرغم من ضنى جسَدَيْنا بمشاق السفر ، داجَيْتُ رغبة الرجل ، المُلحّة ، في الخروج إلى دروب المدينة ، الأثيرة على نفسه . آنذاك ، كانَ الجوّ مُتخماً بالرطوبة ، المُملّحة ، والتي راحَتْ تتغلغلُ في ثيابي ، فيما رذاذ السّحُب القليلة ، الطائشة ، كانَ يَطشّ بالغيث وهوَ مَحمولاً على جنح الريح الربيعية ، الهيّنة المَحْمَل . وكانَ الخلقُ ، المُتنوّعي المِلل ، قد بدأوا بملأ دروبَ وساحاتِ وجادّاتِ هذا الحيّ ، الروميّ ، الطاغي على عمارته الطراز الإغريقيّ ، العريق ، والمُشرف من جهته الشمالية على الطوار الطويل ، المُحاذي للبحر . فمنَ الناس من كانَ راجلاً ، ومنهم من كانَ بصحبة عياله في الكرّوسة ( التي يَدْعونها هنا ، بالحنطور ) . لغات الأروام ، المُختلفة ، كانت مُهيمنة إذاً في هذا الحيّ . بيْدَ أني لحظتُ أنّ اللغة العربية ، بنطقها الشاميّ ، المُميّز ، كانت سائدة ً أيضاً في أماكن أخرى من الإسكندرية : ولدهشتي ، رأيتُ أن ملابسَ جماعتنا هؤلاء ، لا تكادُ تفترقُ في شيء عن ملابس أولئك الأروام ؛ اللهمّ إلا في غطاء الرأس ، في منقلبه من البرنيطة الإفرنجية إلى السَرْبوش العثمانيّ ، المُستحْدَث .
توَحّدي ، على الشرفة هذه ، جازَ له أن يأخذ الفكرَ بعيداً ؛ نحوَ جهَة الجَبل ، اللبنانيّ . ظاهراً ، كنتُ أتكلفُ القلقَ على أصدقائنا هناك ، فيما أعماقي كانَ قد بَرحَ بها ، هنا ، قلقٌ من نوع آخر ، أشدّ مَضاضة ؛ وهوَ تأنيب الضمير . إذ كنتُ عندئذٍ أبكِتُ نفسي بلا هوادة ، بسبب مطاوعتي للقاروط في السفر إلى مصر ، لطلب العون من حاكمها وباسم مجلس العمومية ، الشامية . وبالرغم من حقيقة ، أنّ ضميري مرتاحٌ لناحية دافعي ، المُخلص ، إلا أنني رحتُ أجدني رويداً على ريبةٍ بتأكيد رفيق الرحلة ؛ من أنه كانَ يحملُ توكيلاً من المجلس ، يخوله التفاوض مع المير بشير وعزيز مصر على السواء . ففي يوم سابق ، من أيام الجبل الماضيَة ، كانَ عبد اللطيف أفندي قد نبَرَ للإعتراض على ذلك المَسعى . " إنّ الإستعانة بقوّة خارجية ، صديقة ، سيجرّ على البلد نكبات جديدة ، داهمَة ؛ بما يتبعَه من تدخل أجنبيّ ، مُعادٍ " ، قالَ الأفندي مُتنبئاً . كنا وقتئذٍ في قاعة الصالون ، الفارهة ، في الدور الأرضيّ لنزل الضيافة ذاك ، المنذور لإقامتنا في قرية الغرب . وإذ آثرنا ذلك المكانَ ، فبالنظر إلى أنّ الوقتَ كانَ فترة القيلولة ، وكانَ كلّ من جماعتنا الآخرين ، قد آوى إلى حجرته . " أنا أرى الأمرَ بصورة أخرى ، يا سيّدي " ، قالَ القاروط ثمّ أضافَ " إنّ داعي فرمان الأمان ، العليّ ، قد بطلتْ أسبابه بمقتل الوزير والقبجي . على ذلك ، سيصبّ السلطانُ جامَ غضبه على الشام ، طالما أن خلقها ، في نظره ، سبقَ لهم أن إقترفوا ذنبيْن عظيمَيْن ؛ التمرّد على طاعته والإستهانة بمرسوم فرمانه " " أهذا هوَ رأيكَ ، أيها البك ، أمْ رأي المجلس ؟ " ، سألَ الأفندي مُحادثه . ومع أنّ البك ، المصريّ ، كانَ مُتنعّماً بملامح في وجهه ، خالدة ، خاليّة من التعبير ؛ ولكنه فوجيء ولا شكّ بالسؤال . فأجابَ مُتلعثماً قليلاً : " بل إنني أتكلمُ باسم أخواننا الآخرين ، في المجلس ، كما سلفَ وأوضحتُ منذ البداية " . وأردَفَ بنبرَة مُسالمة ، بُعيدَ هنيهة تردّد : " إلا أنّ الأخوانَ ثمة ، شددوا عليّ ، أيضاً ، بألا أمضي في مهمّتي قبلَ ضمان موافقة كلّ من حضرتيْكما ". قالها ثمّ إلتفتَ إليّ ليتطلعَ في عينيّ ، مُنتظراً ما يَبدُر عني من تعليق .
في تلك الآونة ، كنتُ أمضي بفكري إلى جهةٍ أخرى ، أبعدَ منالاً : فعلى عكس ما أبداه من قلق ، كلٌّ من جليسَيْ الخلوة ، فإني كنتُ آنئذٍ رخيّ البال ، سعيداً نوعاً بفكرة داهيَة ، خرقاء ؛ وهيَ أنّ موتَ الوزير ، وبغض الطرف عن خطورته ، فإنه أزاحَ من قدّامي أكثرَ من عقبَة : وكنتُ أعني ، ولا غرو ، ما جدّ على متاهة المأزق ، المُتشعبة الممرات ، من تغيّر مُبين : هذه المتاهة ، التي سبقَ لي أن وَسَمْتُ مداخلها بأربع يافطات ؛ وهيَ " الوزير " ؛ " ياسمينة " ؛ " الكتاب " ؛ و " القاتل " . هذا الأخير ، والحالة تلك ، هوَ من بقيَ ماثلاً قدّامي ـ كتحدّ لي ، ولغز عصيّ . إلا أني كنتُ ، بالمقابل ، مطمئناً إلى هذه الدرجة أو تلك ، بأنّ القاتل لا بدّ له أن يَرْعَوي الآنَ ؛ بما أنّ داعي جرائمه قد أضحى ، على الأرجح ، غير ذي أهمّية : فلو كانَ ذلك الداعي ، الموسوم ، يُراوحُ حولَ " المخطط " ، الموجود في كتاب الشيخ البرزنجي ؛ فإنّ الوزيرَ ، صاحبَ الشأن ، قد لاقى وجه ربّه وانتهى . وكذا الأمر ، لو كانَ الداعي ، نفسه ، يتعلّقُ بياسمينة ، المسكينة ؛ فإنّ أثرَها فقِدَ ، أبداً . على أنّ طمأنينتي، في واقع الحال ، كانَ يَشوبُها الكدَرُ . حدّ أني فكرتُ في داخلي ، مراراً ، بأنني أخادعُ نفسي : فعقدة ياسمينة ، استبْدِلتْ بعقدة أختها ، نرجس ، الأكثر غموضاً . كما أنّ موضوع الكتاب ، كانَ من الممكن أن يُحيلَ إلى " كنز الكنج " ؛ المَطلوب من وارثه ، المُفترض ؛ القاروط ، الماكرُ الأكبر . هذا الرجلُ ، الداهيَة ، كانَ إذاً يتطلعُ نحوي ، في هنيهة الصمت تلك ، التي أعقبتْ الجدلَ حول مهمّة الإتصال بعزيز مصر . ولا بدّ أنه محضُ إتفاق ، أن يُبادرَ البكُ ، المصريّ ، القولَ مُترحّماً على أبيه بالتبني : " أنتما ، أيها المُبجلان ، على معرفة بأنّ والدي ، رحمه الله ، كانَ الكنج الكردي ؛ والي الشام ، السابق " ، قالها برجّة من الحَرَج وهوَ يُحدّقُ بعينيّ كلّ منا . ثمّ استأنفَ كلامَهُ بهمّة وثقة : " وإذاً ، فإنه كانَ مُعتاداً ، ما أن بلغتُ سنّ الفتوّة ، على تحذيري من طبْع سلاطين آل عثمان ؛ المُتقلّب والغادر والوحشيّ " . عندئذٍ ، شرَعَ القاروط برواية حكاية ، غريبة ، قالَ أنّ أبيه قد سبقَ له أن أعطاها مثالاً ، يؤيّدُ حُكمَهُ على طبع العثمانيين ، الموصوف . وأدركتُ ، قبلَ أن يَفتحَ البكُ فمَهُ بكلمةٍ بعدُ ، أنه يُريدنا أن نستخلصَ من حكايته عبرَة ً ما .
في مدينة عينتاب ، الواقعة في وسط الأناضول ، والتي تشبه مدينة حلب بنواح عديدة ، كانَ ثمة قولٌ على لسان العامّة والخاصّة ، كادَ أن يُصبحَ أمثولة : " مثل حلاوة بنت الجلبي " . إنّ هذه البنت ، في حقيقة الأمر ، قد وًجِدَتْ هناك في تلك الحاضرة ، المُزدهرَة . ولنضِفْ أيضاً ، بأنها عاشت في زمن أحد أسلاف سلطاننا ، المُعظم . بدوره ، فإنّ والدها لم يكن جلبياً ( حلاقا ) ، بل يبدو أنّ أحدَ أسلافه ، الغارقين في التراب رمَماً ، كانَ كذلك . لم يكُ هذا الرجلُ ، إذاً ، سوى والي عينتاب بالذات ؛ وكانَ معروفاً والحالة تلك بـ " الباشا الجلبي " . من ناحيتها ، كانت الإبنة في صورتها مرآة ً للمثل الشعبيّ ، الفائتِ الذكر . وعلى الأغلب ، فإنّ الحمّامَ هوَ من تعيّن عليه الوشاية بفتنة البنت ، الفائقة . إنّ أسرارَ القصور ، مضروبٌ عليها الكتمان ولا ريب . إلا أنّ الجمالَ ، في آخر المطاف ، هوَ هِبَة من الخالق ؛ وهيَ صفته ، جلّ وعلا ، قبل كلّ شيء . وإذا كانت إبنة الجلبي من حريّة الشخصيّة وقوّتها ورقتها في آن ، أن تستهترَ بمقام والدها ، العالي ، فتذهب مع صويحباتها إلى حمّام السوق ؛ فإنها لم تأبه ، في أحد الأيام الصيفية ، المعتدلة ، من التنكر بملبس الغلمان وسوق فرَسها نحوَ أرباض المدينة ، للتمتع بسويعة نزهة بين البساتين ، المونقة . " يا ربّ العالمين ، أنظروا إلى هذا الفتى ، الصارخ الوسامَة " ، هتفَ أحدُ الشباب لأصحابه مذهولاً وكأنما أصابَهُ مَسٌّ . في تلك اللحظة ، إلتفتَ الآخرون إلى جهة إشارة عينيّ صديقهم ، المَبهورتيْن ، لينبَتهوا أيضاً بما عاينوه : كانَ ذاكَ الفتى ، المَعلوم ، مُعتمراً عَمامة خفيفة ، مُطرّزة بالحرير الأسود ، النفيس ، يندلقُ من أطرافها شعرُه الفاحم ، الشديد اللمعان ، ليُضفي على سحنته منظرَ ليل مُنسدِل ٍعلى طنفٍ رخاميّ . فما هيَ إلا لمحَة حَسْب ، حتى كانَ أولئكَ الأصحاب ، السبعة ، يتقضون على ما توهذموا أنه ، غلامٌ ، فيتمكنونَ من كبتِ حركة مقاومته بوساطة حبل . ثمّ عمَدوا من ثمّ ، مَرحين مُهللين ، إلى قلبه على بطنه . حينما أضحى سروال " الغلام " مُتكوّماً عند ركبتيْه ، لم يتمالك الفتيَة عن الصراخ بإنشداهٍ وإختبال : فإنّ عينَ أيٌّ منهم ، لم تكنُ قط قد رأتْ من قبل رَدفاً ، حَسَناً ، بتلك الرَوْعَة والرَعبَلة . وإذاً ، لم يَنهضَ عن مطيّته ، آخرُ المَحظوظين ، إلا والغروب كانَ يَهمي بظلاله على بقعة الإغتصاب والفحشاء والرذيلة .
" مولاي الباديشاه ، المُعظم . إنّ إبنَ واليكم ، الباشا الجلبي ، قد حضرَ من عينتاب ويلحّ في المثول بين يديّ جلالتكم " توجّه الوصيفُ إلى مولاه ، مُتكلماً بنبرَة خشوع وإجلال . عَجبَ السلطانُ من جرأة الفتى ، ولكنه طفقَ يتفكّرُ ملياً قبلَ أن يتخذ قرارَه . لا مَراءَ في أنّ شأناً ما ، مُستطيراً ، هوَ ما أجبَرَ إبن الوالي ذاك ، على جسارَة طلبِ مُقابلة الباديشاه . أخيراً ، حينما مَثلَ الفتى أمامَ السلطان ، ليقبّل الأرضَ تحتَ قدَمَيْه ، فإنه ما عتمَ أن رفعَ رأسه عن سحنةٍ ربانيّة ، مُعجّزة ؛ لم يُقدّر للقصر ، حتى ذلك الوقت ، حظوة مرأى مثيل فتنتها . هنيهة أخرى من الصّمت ، وإذا بمفاجأةٍ أخرى ، أكثر عَجَباً ، شاءتْ أن تستولي على المَوقف . عندئذٍ ، مدّ الفتى يدَهُ إلى عمامَة رأسه ، فإنتزعها بحركةٍ حاسمَة ، غايةٍ في الجرأة : والآنَ ، فإنّ عينيّ إبنة الجلبي الواسعتيْن ، الآسرتيْن ، كانتا تتطلعان برجاء وأمل في عينيّ أمير المؤمنين المُنحرفتيْ الطرَفيْن ، المَذهولتيْن . ثمّ ما لبثتْ ، إثرَ إذن مولاها ، أن أخذتْ تقصّ على مَسْمَعه تفاصيلَ حكاية إغتصابها ، المُنكرَة . " نداء ، نداء من سعادة الباشا " ، هكذا كانَ يَصرخُ المُنادي في دروب عينتاب وحواريها وساحاتها وأسواقها . وكانَ الرجلُ ، في كلّ مرّة ، يَعمَدُ إلى قراءة نصّ فرمان جلالة السلطان إلى أهالي المدينة ؛ وفيه أن يقوموا ، خلال ثلاثة ايام فقط ، بتسليم أولئك الغاصبين ، السبعة ، إلى فضيلة القاضي لكي يَستجوبَهم ثمّ يبتّ أمرَهُ فيهم . ولكن ، مَضتْ المهلة تلك ، وتبِعَها يومٌ آخر ، والجناة على مَجهلتهم المُبينة . الباشا الجلبي ، من جهته ، كانَ على علم بداعي الصّمت والإخبات ، بفضل ما زوَّدَهُ به جواسيسُهُ ، المَبثوثون في أنحاء البلد : فإنّ أولئك الشبان ، السبعة ، كانوا من عائلات الأعيان ، الأكثر رفعة ووجاهة ونفوذاً . في اليوم الخامس ، على الأثر ، فرَضَ الوالي منعَ التجوّل على المدينة بأسرها ؛ منذ غروب الشمس وحتى لحظة شروقها . وإذاً ، ففي منتصف الليل ، وحينما كانت الطرقات مُقفرة من السابلة، تماماً ، كانَ أعوانُ الوالي يُمْهرونَ منازلَ النصارى واليهود بعلامة ، مُعيّنة ، من دهان أسود . بيْدَ أنه ، ويا للعجب ، جاء الصباحُ وإذا بجميع منازل البلد ، بلا إستثناء ، مُعلّمة بالإشارة تلك ، السوداء .
" أجل ، فلقد كانَ أولئك الأعيانُ ، المتورّطون ، أدهى من أن يُخدَعوا بلعبة الباشا " قالَ القاروط ، فيما هوَ يَضربُ يدَهُ على الطاولة ، القريبة ، بحركةٍ مُتحمّسة تدلّ ربما على قرب مُختتم الحكاية . ثمّ ما عتمَ أن واصلَ القصّ ، قائلاً : " على أنّ فرمانَ الباديشاه ، المُعظم ، كانَ يجب أن يُنفذ بأيّ شكل ومهما تكن العواقب . هنا ، جاءَ دورُ أهالي عينتاب ، من العوام والبسطاء والدّهماء ، لقولوا كلمتهم . نعم . إذا كانَ عددٌ من الفتيَة ، المُفسَدين بالرفاهية والدلال ـ قالَ هؤلاء بحقد ـ همُ من قاموا بتلك الفعلة ، الفحشاء ، فلمَ على باقي السكان أن يَدفعوا الثمنَ إبادَة ًوإستباحَة . فما كانَ منهم ، أولئك الخلق ، إلا أن هاجموا منازل الأعيان ، المتورّطين ، فقبضوا على أبنائهم ثمّ سلموهم في الحال للقاضي . في صبيحة اليوم التالي ـ وهوَ الأخيرُ ، المُتبقي لأعمارهم الغضة ـ كانَ على هؤلاء الفتيَة الأشقياء ، التعسين ، أن يتذكّروا صباحاً آخر ، أقدَمَ عهداً بقليل ، سبقَ أن تمتعوا فيه بأروع ردف وأحسَنه . ففي ساحة المدينة ، الأكبر ، كانَ ثمّة شجيرات رمان ، يانعة ، بالكاد يبلغ أطولها قامة رجل . وكانَ سَبعٌ من الشجيرات تلك ، قد نحِّيَ عنها الآنَ أغصانها وفروعُها واوراقها ، لكي تبدو كحِرابٍ مُشهَرة : على كلّ من هذه الحراب ، الحادّة الرأس ، وُضِعَ أحدُ أولئك الشبان ، الجانين ؛ وهوَ مُقيّدٌ بحبل ومُعرّى القسم الأسفلَ من بدنه . دقائق على الأثر ، ثمّ ما لبثَ الصراخ الهائلُ ، الغريبُ النبرَة ، أن راحَ يَشقّ عنانَ السماء . وكانَ ذلك ، كما أكدَ شاهدٌ مُسنّ لوالدي ، رحمه الله ، من أفظع مشاهِدِ الخوزقة ، التي رآها أهالي عينتاب على مرّ الأزمان والحِقب ؛ وكانت الأخيرة من نوعها ، على كلّ حال " .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأولى والآخرة : صراط 5
-
الأولى والآخرة : صراط 4
-
الأولى والآخرة : صراط 3
-
الأولى والآخرة : صراط 2
-
الأولى والآخرة : صراط
-
الفصل الثالث : مَنأى 9
-
الفصل الثالث : مَنأى 8
-
الفصل الثالث : مَنأى 7
-
الفصل الثالث : مَنأى 6
-
الفصل الثالث : مَنأى 5
-
الفصل الثالث : مَنأى 4
-
الفصل الثالث : مَنأى 3
-
الفصل الثالث : مَنأى 2
-
الفصل الثالث : مَنأى
-
الرواية : مَهوى 11
-
الرواية : مَهوى 10
-
الرواية : مَهوى 9
-
الرواية : مَهوى 8
-
الرواية : مَهوى 7
-
الرواية : مَهوى 6
المزيد.....
-
ترشيح المخرج رون هوارد لجائزة -إيمي- لأول مرة في فئة التمثيل
...
-
توم هولاند -متحمس للغاية- لفيلم -Spider-Man 4-.. إليكم السبب
...
-
100 فيلم لا تُنسى.. اختيارات نيويورك تايمز لسينما الألفية ال
...
-
الحكم على ثلاثة بالسجن لمساعدتهم في جريمة قتل مغني الراب سي
...
-
مقتل المشرفة الموسيقية السابقة في برنامج -American Idol- وزو
...
-
أيقونات من رماد الحرب.. فنان أوكراني يحوّل صناديق الذخيرة إل
...
-
إطلاق جائزة فلسطين العالمية للشعر في ختام مهرجان ميديين الدو
...
-
رئيس الممثلية الألمانية لدى السلطة في مقابلة مع -القدس- قبل
...
-
جدل في أوروبا بعد دعوة -فنان بوتين- إلى مهرجان موسيقي في الج
...
-
-المدينة ذات الأسوار الغامضة- رحلة موراكامي إلى الحدود الضبا
...
المزيد.....
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
المزيد.....
|