|
الأولى والآخرة : صراط 3
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 3017 - 2010 / 5 / 28 - 11:31
المحور:
الادب والفن
" لقد ماتَ قوّاص آغا ، مَسموماً " جذوة هذه الجملة ، التي نطقها الشاملي عند مُنبلج الصبح ، حقّ لها أن تحرقَ داخلي ببطءٍ ، مُمضّ ، طوالَ طريق رحلتنا من الشام إلى جبل لبنان . كنا الآن في عربة الدليغانس ، الفخمة ، التي من المُفترض أن تحملنا إلى تلك الإمارة ، من خلال طريق الربوة . هذه الأخيرة ، سبقَ أن اجتزناها في مُبتدأ رحلتنا ، لنعبرَ بذلك أوّل حاجز مراقبة من تلك الحواجز ، العديدة ، المَرصودة بعين الانكشارية ، اللعينة . إنّ كلاً من مظهرنا ، إضافة للأوراق التي يحملها السنيور ، أسهَمَ في خداع الجند وسهّلَ مرورنا خلل الحاجز . " ما دامَ أولئك الحمقى قد ذهلوا عن شخصياتنا ، الحقيقية ، فسيكون الأمرُ مماثلاً عند الآخرين من زملائهم " ، أكّدَ لي السنيور مارياني بثقة . وحينما أجيزُ لنفسي ، هنا ، نعتَ عبد اللطيف أفندي بنعته واسمه ، الأصلييْن ، الذيْن كانا يُعرَفُ بهما قبل أن يُشهرَ إسلامه ، فلكي أشيرُ لمنقلب حالنا ، نحنُ ركاب العربة : فبحسب خطة التضليل ، المَرسومة ، كانت شمس زوجة السنيور ، وأنا وصيفه ترافقني إمرأتي ( نرجس ) ، فيما تابعَيْنا ( المَملوكيْن ) على صفة الخدم ، المألوفة ، وكذلك الأمر بالنسبة للخادم الحبشيّ . على ذلك ، كانت حجرة العربة ، الفارهة ، منذورة بطبيعة الحال للسادَة ، بينما التوابع في خارجها ، يتابعونها وهُمُ فوق أعنة الخيل . وبالرغم من هواجسي ، كنتُ لا أحيدُ بصري عن الدرب ، مفتوناً بالمناظر الرائعة ، الخلابة ، التي تواهقُ ندّاتها الكائنة ثمة ؛ في الفردوس ، السماويّ . " في القرن السابع عشر ، ساحَ في الشام أحدُ الرحالة الطليان . جاءها من بيروت عبرَ هذا الطريق نفسه ، التي تجتازها عربتنا . ولقد جزمَ الرجلُ ، في تذكرته التي قرأتها فيما مضى ، أنه لم يرَ أبداً ، في أيّ مدينة زارها من قبل ، ما يُماثل مدخل دمشق من جهة شتورة ؛ لناحية سحر الطبيعة المِراح ، الآسر " ، قالَ لي السنيور بنبرَة إحتفالية ، شديدة الاعتزاز ، وكأنما يتكلمُ عن موطنه ، الأصليّ . ولكنّ الشامَ الشريف ، إستدرَكتُ مُتفكراً ، ليسَتْ بلدَ قوم مُعيّن ؛ إنها مدينة الله وجنة الأولى والآخرة .
وها هيَ بلدة شتورة ، الجميلة ، تتجلى لنواظرنا ، أخيراً ، مع حلول العشيّة . فما أن وصلنا الخانَ ، المَطلوب ، حتى أسرعنا بالنزول لأخذ قسط من الراحة ، ضروريّ ، إثرَ ساعاتٍ طويلة ، شاقة ، من وعثاء السفر وما تخلله من قلق لمخاطره الداهمَة ، المُحتملة ؛ سواءً لجهة الجند أو قاطعي الطريق . وفي واقع الحال ، كانَ مُهذباً تصرّفُ الانكشاريين معنا ، عند حواجزهم ؛ بفضل ما نفِحَ لآمريهم من غروش السيّد ، الكريم ، علاوة على ما كنا نحمله من أوراق رسمية ، مُهيبة . ولأعترف بمدى غبطتي ، حينما كانَ أحدهم يُلوّحُ أوراقي بيده ليسألني ، مُشيراً إلى نرجس : " أهيَ أهلكَ ، تلك ؟ " . وكان كلّ من المرأتيْن ، المَزعومتيْن ، يَكتسي بملابس الإفرنج ، التي تكشف ليسَ الوجه وجانب من الشعر ، حَسْب ، بل وأيضاً بعض تفاصيل الجسد . بهذه الحالة ، كانَ عليّ أيضاً ، ولا غرو ، أن أحمد الله لأنّ " حَمْوي " ، الشاملي ، لم يكن معنا أثناء الرحلة ؛ حينما كانَ أيّ عنصر تافه ، رثّ المنظر ، بقادر أن يتفحّصَ نرجس ، الفاتنة ، بعينيْه النهمتيْن ، الذئبيّتيْن . كانَ الخانُ ، الكبيرُ نوعاً ، رزيَّ المَظهر كئيبَهُ . إلا أنّ داخله ، وهذا هوَ المُهمّ لنا ، كانَ على جانب من النظافة والترتيب . ساقَ الحوذيّ جيادَهُ الأربعة ، الأصيلة ، إلى جهة الياخور ، المَقصيّة عن النزل ، حتى يُريحها ويعلفها . أما نحنُ الركاب ، فكانَ علينا ، بطبيعة الحال ، أن نتدبّرَ بأنفسنا أمورَ الراحة والطعام . وكانَ من المُقرر أن نبيتَ ليلتنا في شتورة ، ثمّ نواصل سفرنا عند بكرة اليوم التالي . وإذاً ، بما أننا الآنَ بحماية حاكم الجبل القويّ ، الأوحد ، فلا شأنَ لنا بعدُ بلوازم التمويه والتضليل ـ كما كانه حالنا في الخانات التي فتناها ، وقضينا فيها بعضَ الوقت بغيَة الراحة لنا ولخيولنا . عندئذٍ ، حُجزتْ لإقامتنا هنا ، في هذا الخان ، ثلاثُ غرَفٍ ، صغيرة ؛ واحدة للسيّديْن ، والثانية للفتاتيْن ، والثالثة للخدَم . كانَ علينا كذلكَ ، أن ننامَ قريري الأعين ، دونما حاجةٍ لأيّ قلق أو هاجس ؛ بما أنّ بقيّة الطريق ، المُحتم أن نقطعه غداً حتى بيت الدين ، كانَ يَفيأ بظلال الأمان والدِعَة والرّخاء . نعم . لقد إستأصلَ الأميرُ بشير ، المَرهوب الاسم والمقام ، شأفة قطاع الطرق ، أبداً . حتى لقد بالغ بعضُ السيّاح الإفرنج بالقول ، أنه كانَ باستطاعة إمرأة غنية ، حسناء ، مُثقلة بمصاغها ، أن تسيرَ ليلاً في أيّ بقعة من جبل لبنان ودونما أيّ خشية من سالبٍ أو غاصب . من ناحية أخرى ، رأينا إختلافا ، بيّناً ، بينَ مَسلكيْ الانكشارية وعسكر الأمير على طرفيْ طريق الشام . فهؤلاء الأخيرين ، ولا شكّ ، كانوا بغاية الاحترام تجاه النساء والرجال على حدّ سواء ، فضلاً عن أنّ آمريهم لم يكونوا لينتظرونَ ، بتاتاً ، نفحَة من رشوة أو مُراضاة . وأيضاً ، فإنّ دروبَ وطرقات إمارة الجبل ، العتيدة ، التي اجتزناها حتى الآن ، كانت تشي بمقدار الإهتمام بمسألة الصيانة والاستصلاح والرقيّ .
" إنني على يقين ، بعدَ كلّ ما عاينته بنظري ، من أنّ المير بشير مثال الحاكم المسلم ، العادل " قلتُ لعبد اللطيف أفندي ، حالما أضحيْنا لوحدنا في الحجرة . فعلقَ بنبرة مُتشككة : " ربما كانَ الأميرُ حاكماً عادلاً ، كما تؤكدُ أنتَ ؛ ولكنه ليسَ معنياً كثيراً بالصفة الأخرى ، الدينية " . ملاحظته هذه ، أدهشتني ولا ريب . بل وأعتبرتها ، إلى حدّ ما ، كنوع من التجديف : " ماذا يَقصد الرجلُ بكلامه ، عن لا دينية الحاكم ؟ " ، فكرتُ بقلق . وكأنما انتبه الأفندي لتغيّر ملامحي ، فعادَ يقول : " هنا ، في إمارةٍ سكانها من مختلف الأديان والمذاهب ، لا يجوزُ للحاكم ، الحصيف ، أن يظلعَ على قدم واحدة ، حسب " " من كلامكَ ، يا سيّدي ، يفهم المرءُ ، خطلاً بكل تأكيد ، أنّ المير بشير يعتنقُ ديانات أتباعه ، جميعاً " " تقريباً . بل لنقل ، أنه مُسلمٌ ومسيحيّ ، في آن معاً " ، نطقها الأفندي بكلّ بساطة ، إنما دون خبثٍ ، مُبيّت النيّة . ويبدو أن إتساعَ مساحة البياض في عينيّ ، قد جعلتْ مُحادثي يُدرك مدى إستغرابي من معلوماته . على ذلك ، إتخذ الرجلُ وضعيّة أخرى ، مُريحة ، في سريره الضيّق ، قبلَ أن يستأنفَ الحديث : " يُخبرنا التاريخُ ، القريب نوعاً ، أنّ أحدَ أسلاف الأمير بشير ، وكانَ يَحملُ الإسمَ نفسه ، قد بادرَ إلى تغيير دينه النصرانيّ ، إلى الإسلام ، ولمجرّد النكاية بالبطرك ؛ الذي عجزَ عن شفاء إبنه الوحيد ، ووارثه ، من مرض عضال " . فقلتُ للأفندي ، مُتسائلاً بحيرة : " وإذاً فأنتَ تبغي ، بالتنويه بتلك الحادثة ، تفسيرَ إرتداد الأمير الحالي ، بشير الثاني ؟ " . فأجابني مُحادثي بلهجة جديدة ، لا تقلّ غموضاً : " بشكل ما ، ولا ريب . إلا أنّ سلفَ الأمير ذاكَ ، وسميّه ، هوَ من كانَ قد إرتدّ ، أولاً ، عن الإسلام " . فما كانَ مني ، إلا أن هتفتُ على الفور ، مُصحّحاً : " ولكنكَ ، يا سيّدي ، قلتَ أنّ ذاكَ الأمير ، المَلول ، قد إنتقلَ من النصرانية إلى دين الإسلام وليسَ بالعكس ؟ " " أنا قلتُ ، الإسلام ؟ ولكن ، إنّ مَذهبَ المُوحّدين ، الدروز ، على أيّ حال ، يمتّ للدين المُحمّدي بشكل ما ، قليلاً كانَ أو كثيراً " . تفاقمَ مَبلغُ دهشتي ، ولا غرو ، فتذرعتُ إذاك بالصمت . هنا ، سألني الأفندي عما إذا كنتُ مُتعباً ، وأرغب بالنوم . فهززتُ رأسي نفياً ، وقلتُ له باهتمام صادق : " بل أنا أمعنُ التفكيرَ ، حقا ، بمعميات عقيدة هؤلاء الحكام ، الشهابيين " . قسمات عبد اللطيف أفندي ، الوسيمة ، شعّتْ بابتسامة زهو ، قبل أن يُشرع مُجدداً بالحديث : " أصلُ الشهابيين ، لكي تتوضح لك جلية أمرهم ، يعودُ لأرومة المَعنيين ، الدروز ؛ الذين سبقوهم في حكم الجبل . أمّا هؤلاء الأخيرين ـ ومن حقكَ ، يا آغا ، أن تدهشَ أكثر ـ فإنهم بدورهم يَمتون لسلالة بني أيوب ؛ حُماة المذهب السني وقاهري الأفرنج " .
" ألهذا السبب ، إختارني المجلسُ لمقابلة الأمير بشير ، سعياً لمدّ جسر الصداقة معه ؟ " فكرتُ مُلهَماً بما سلفَ من قول الأفندي . بيْدَ أني سُرعانَ ما استدركتُ ، في ذهني : " من يهتمّ بأصل وفصل هذا أو ذاكَ ، من الأعيان أو الرعايا ؛ فكلنا عثمانيون ، ومسلمون قبل أيّ إعتبار آخر " . ومع ذلك ، شئتُ أن أبددَ مظنتي ، فقلتُ لمُحادثي ، الواسع المعرفة ولا ريب : " كنتُ أعتقد أنّ الجنبلاطيين حسب ، مِن أعيان الجبل ، مَن ينتسبون ، أصلاً ، لآل أيوب ، ثمّ تحوّلوا إلى مذهبَ الدروز . إذ سبقَ لوالدي ، رحمه الله ، أن أخبرني بحكاية إسلامهم . وأثناءَ وجوده هنا في زيارة ، قبل أعوام عديدة ، كانَ أبي قد طلبَ مرّة ً معونة الشيخ بشير جنبلاط ؛ فما امتنعَ هذا عن مساعدته " . تبسّمَ الأفندي ، في بدء انصاته لكلمتي ، ثمّ ما عتمَ أن هزّ رأسه ، أسفاً : " ها أنتَ قلتها بنفسك ، يا عزيزي : فوالدك المرحوم ، وهوَ شيخ طريقة صوفية ، يستنجدُ بشيخ من الدروز ـ بل وزعيمهم ـ فلا يَضنّ عليه بالمُساعدة : هكذا يُفكر ويَعمل أعيانُ جبل لبنان ، عموماً " ، ثمّ أضافَ وقد أخذ يَشرُد ببصره بعيداً " أجل ، كانَ الرجلُ جواداً كريماً وشهماً ، كما شهدَ القناصل الإفرنج ، وبالرغم من أنه لم يكن حليفا لدولهم . إلا أنّ موضوع إختلاف الشيخ بشير مع صديقه الحميم ، الأمير بشير ، والذي أدى لاحقا لقطع رأسه ، ظلماً وجهلاً ، ما فتأ غامضاً بعدُ " " إنّ هذا ، لعمري ، يذكر المرء بمغامض جرائم القتل ؛ التي أرتكِبَتْ ثمة ، في الشام " ، ندّتْ عني عفواً . بَصَرُ الأفندي ، المُستفهم أو المُتأمل ، توقلَ رويداً نحوَ قسمات سحنتي ، ليتفحّصها بصبر . في الهنيهة التالية ، وحينما انتبهتُ إلى ما فهتُ به من كلام ، كانَ الوقتُ متأخراً ولا غرو . تشديدي على الوقت ، لكوني صرتُ ملماً بطبع عبد اللطيف أفندي . فهوَ لن يألو جهداً ـ كأيّ رجل حكيم وعارف ، حتى يُحاط فضوله بشوارد المسألة ، المعنيّة ، ودونما إعتبار منه لساعة النوم ، الحثيثة ؛ المُهمّة بالنسبة لمسافر قضى نهاره كلّه بين الوهاد والوديان ، نهبة ً للهواجس والهموم .
" لعلكَ تعني ، الجرائم تلك ؛ المُستهلّة بموت آغا أميني ، مَسموماً ؟ " قالَ لي الأفندي ، مُتسائلاً . وكنتُ قبلاً على يقين ، بأنّ صهره الشاملي لا بدّ وأخبَرَه بما كانَ قدّ جدّ من تلك الأمور ، طالما أنّ علاقتهما بهذه المتانة والثقة . كما أنّ الجريمة الأخيرة ، المودية بحياة التعس ، قوّاص آغا ، سبقَ أن ناقشناها ، في هذا الصباح ، بحضور عبد اللطيف أفندي . حينئذٍ ، كانَ كبيرُ المجلس على إصراره ، بأنّ موتَ صاحبنا لا علاقة له بما سلفَ من جريمَتيْ داره ؛ هناك في القنوات : " إنّ المرحومَ القوّاص ، سامحَه الله وغفرَ له ، كانَ قد جعلَ منزلَ منافسه الانكشاري ، المرحوم آغا القابيقول ، في مَرمى إنتقامه . فهوَ لم يكتفِ بالإستحواذ على الدار ، دونما وجه حق ، بل واحتفظ ببعض الجواري لنفسه . أجل ، كانَ بودّه الثأر من القابيقول ، الذين أحرقوا منزله في سيدي عامود وأسروا نساءه وسرائره ، حينما سيطروا على المدينة قبل حوالي عشرين يوماً . فماذا كانت نتيجة ثأره ، الموصوف ؟ إنّ إحدى جواري آغا أميني ، على أرجح إحتمال ، هيَ من دسّ السمّ للقوّاص ؛ خلاصاً لنفسها أو إخلاصاً لسيّدها ، الأول " ، قالَ لي الشاملي ، في حينه ، بنبرَةٍ جازمَة . وإذاً ، رأيتُ أنه من الأصوبَ أن أكونَ صريحاً ، تماماً ، مع حمو كبير الأعيان هذا . " إنه كبيرُ العقل ، واسعُ الاطلاع وكثيرُ التجربة ، فلمَ لا أفيدُ منه في محاولة حلّ معميّات الجرائم تلك ؟ " ، أسررتُ لتفسي راضياً . ولم يُخيّبَ الأفندي ، على أيّ حال ، أملي فيه . فإنه طلبَ مني أن أعيدَ على مسمعه ، بما أمكن من الإيجاز ، حكاية سلسلة القتل ؛ والتي لا يظهر أنها سَتختتمُ بموت القوّاص . وقد فعلتُ ما طلبه مني ، بصدق وصراحة تامّين . فلم أخفِ عن الرجل ، المُتفتح الحواس ، حتى موضوع كناش البرزنجي ، المَسروق من بيت الشاملي . إلا ناحيَة واحدة فقط ؛ إعتبرتها من المُحرّمات ولن يُضيرَ كثيراً ، كما قدّرتُ ، أن أتجاهلَ ذكرها : موضوع العلاقات الجسديّة ، المُتشابكة التفاصيل ، والتي كانَ مكانها ثمة ؛ في القنوات وسوق ساروجة . لقد استخرتُ ضميري في ذلك ، كما وقلبي سواءً بسواء . " حَسْبنا الليلة ، ما قصصته أنتَ من أمور تلك الجرائم . وغداً نناقشها ، إن شاء الله " ، قالَ لي عبد اللطيف أفندي وهوَ يندسّ بين ملاءات سريره . ثمّ أعقبَ ، مُتمنياً لي صباحاً من الخير . وبادلته بدوري نفس الأمنية ، وتوجّهتُ إلى سريري لأنام . ولكن ، أينَ الخير ؟ بل ، أين الطمأنينة والهدوء ؟
من شدّة التعب ، علاوة على إرهاق الفكر بنوائب الأيام المُنقضيَة ، رأيتني أغفو من فوري. وحينما أفقتُ ثانية ً، بُعيدَ سويعة أو نحوها ، كنتُ في الحجرة وحيداً ، وكانَ بابُها مفتوحاً على رؤىً غريبة ، راحَتْ تتجسّم لناظري آنياً ، رهيبة ً ومُريعة وشنيعة . أجل ، عليّ كانَ أن أنهض على الفور ، هاتفاً بذعر أنّ الصحبَة فارقتني وإتجهتْ نحوَ هدفها ، المطلوب ، دونما حاجة لمعونتي . فما أن أطللتُ خلل صفق باب الحجرة ، حتى صَدَمَني ، أولاً ، مرأى مَطية مُشوّهة ( أهيَ فرَس عربتنا ، ربما ؟ ) ، مَبتورة أطرافها الأربعة ، وجَدعاتها العفنة ، المُتقيّحة ، يُعشش فيها الذباب . وكانَ قدّام الدابّة وعاءٌ فيه أوساخ الدار ، وكانت تأكل منه بقناعة ورضى . أما دروبَ البلدة ، فكانت تعجّ كذلك بأناس ذوي أشكال ، عجيبة ، ولا يكادُ يخلو أحدهم من عاهة ما ، في جسَده . ولكن ،على حين فجأة ، انبعثَ صراخٌ وعويلٌ من خلفي تماماً . وعندما التفتّ ورائي ، لكي أرى جليّة الأمر ، إذا بحجرتي نفسها وقد ذخرَتْ بنسوة متنقبات بملاءات سود ، ينحنين فوق لفة صغيرة الحجم ، كأنما هيَ جثمان طفل ما ؛ رضيع ولا ريب . استحييتُ من موقفي ثمة ، وكنتُ في سبيلي للمغادرة ، عندما اقتحَمَتْ المكانَ إمرأة ٌ مُهتاجة . وهذه بدورها ، كانت مُجللة بالسواد ، ولو أنّ نقابها كانَ شفافاً نوعاً . " سامحني ، يا ولدي " ، قالت المرأة للرضيع المتوفي وهيَ تنشج بصوت مَسموع . فقلتُ في نفسي ، أنّ هذه الثكلى لا بدّ أن تكونَ القادين ، الكبيرة . فحينما التفتت نحوي ، قبل أن تهمّ بالتحرك للخروج ، فتأملتها ملياً ، إذا بالدوار يَكاد يُطيح بي أرضاً : لقد كنتُ اللحظة ، ويا للهَول ، وجه لوجه أمامَ الجنيّة تلك ؛ التابعة .
أشعة الشمس ، المُزخرفة نافذة الحجرة بوَشيها المُتقن ، الذهبيّ ، كانت هيَ من أيقظني صباحاً ، وليسَ تلك الجنيّة ، الشريرة ؛ التي شاءَ حضورُها ، ليلاً ، أن يُبلبلَ حلمي . عندئذٍ ، تذكرتُ ليسَ الكابوس حسب ، بل وحقيقة أني لم أقض صلاة الفجر . وكنتُ مُتيقناً ،أيضاً ، من أنّ الأفندي قد أهملَ الفرض مثلي ؛ بدليل أنه لم يوقظني في ميقاته ، المَعلوم . وإذاً ، كانَ عليّ الآنَ أن أدَعَهُ يتمتع بقسط من النوم ، أطول ، فيما أغادرُ سريري نحوَ المطاهر ، الكائنة في الفناء . فما أن عدتُ من تلك الناحية ، بعدما تطهّرتُ واغتسلت ، حتى وَجَدتني فجأة ً ، وجهاً لوجه ، بمقابل نرجس . ولكن ، كيفَ يمكنني أن أصِفَ مَظهرَ الفتاة ، المُتبدّي لي وقتئذٍ في ألق الصبح . وكلمة واحدة حسب ؛ كلمة " مُعجز " ، تكفي لمُجمَل الوَصف . إلا أنني ، كما في المرات السابقة ، أرغبُ في الإطناب بسِحْر الخالق ؛ الذي كثيراً ـ أو بالأصح ، نادراً ما يتشخصُ في ملامح مخلوقاته . وما أضفى الإبهارَ على مَظهر حفيدة الشاملي ، كوني أراها أمامي بلا أيّ ستر يَحجُب جَمالها ، الربانيّ : كانَ شعرُها ، العقيقُ ، يتوهّجُ مثلَ خزانة النار ، فيما بدنها ، المَبذولُ لناظري بفضل قميص نومها الرقيق ، الحريريّ ، كانَ بلون الخمرة ، الشمول . " أنتظر عندكَ ، يا سيّدي . لديّ أمانة لكَ ، سأجلبها من وقتي " ، فجأتني نرجس بالقول ، المُتكلّف . ثمّ ما لبثتْ أن استدارتْ على عقبيْها وعادتْ تدخل غرفتها تلك ، المُقابلة لغرفتنا . مفردة " أمانة " ، التي نطقتها البنت ، لم أتوقف عندها إلا فيما بعد . بيْدَ أنّ نرجس ، لم تتركني مع فكري أكثر من هنيهة ، قصيرة . فقد فتحَ بابُ حجرتها ثانية ، وأطلتْ هيَ منه وبيدها لفة ما ، صغيرة الحجم ، ناولتني إياها بلا أيّ نأمَة . فما أن استلمتُ هذا الغرض ، حتى كانت الفتاة تختفي، من جديد ،عن أنظاري. إذاك ، مَضيتُ بدوري إلى حجرتي ، وأنا أخطو على وقع ضربات طبل قلبي ، المتواترة . فقد حَدَستُ فوراً ، ماهيّة هذه " الأمانة " . ودونما حاجة مني لفتح اللفة ، أدركتُ آنئذٍ أنها تضمّ " كناش ياسمينة " ؛ الذي سبقَ وسرقه أحدهم مني ، أثناء ما دوهمتُ ببحران الحمّى ، في ظهيرة الانكشارية تلك ، الرهيبة .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأولى والآخرة : صراط 2
-
الأولى والآخرة : صراط
-
الفصل الثالث : مَنأى 9
-
الفصل الثالث : مَنأى 8
-
الفصل الثالث : مَنأى 7
-
الفصل الثالث : مَنأى 6
-
الفصل الثالث : مَنأى 5
-
الفصل الثالث : مَنأى 4
-
الفصل الثالث : مَنأى 3
-
الفصل الثالث : مَنأى 2
-
الفصل الثالث : مَنأى
-
الرواية : مَهوى 11
-
الرواية : مَهوى 10
-
الرواية : مَهوى 9
-
الرواية : مَهوى 8
-
الرواية : مَهوى 7
-
الرواية : مَهوى 6
-
الرواية : مَهوى 5
-
الرواية : مَهوى 4
-
الرواية : مَهوى 3
المزيد.....
-
توم يورك يغادر المسرح بعد مشادة مع متظاهر مؤيد للفلسطينيين ف
...
-
كيف شكلت الأعمال الروائية رؤية خامنئي للديمقراطية الأميركية؟
...
-
شوف كل حصري.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على القمر الصناعي
...
-
رغم حزنه لوفاة شقيقه.. حسين فهمي يواصل التحضيرات للقاهرة الس
...
-
أفلام ومسلسلات من اللي بتحبها في انتظارك.. تردد روتانا سينما
...
-
فنانة مصرية شهيرة تكشف -مؤامرة بريئة- عن زواجها العرفي 10 سن
...
-
بعد الجدل والنجاح.. مسلسل -الحشاشين- يعود للشاشة من خلال فيل
...
-
“حـــ 168 مترجمة“ مسلسل المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقة ال
...
-
جائزة -ديسمبر- الأدبية للمغربي عبدالله الطايع
-
التلفزيون البولندي يعرض مسلسلا روسيا!
المزيد.....
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
المزيد.....
|