للنضال في الحزب اليساري المغربي واجهتان: واحدة داخلية وأخرى خارجية


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8507 - 2025 / 10 / 26 - 09:48
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي     

ليس المستبد هو فقط من يمارس الاستبداد على المستوى السياسي، بمعنى أنه ينفرد بالسلطة دون الآخرين. هذا جانب واحد من معنى فعل "استبد" الذي يصرفه إلى كل الأزمنة ذاك الذي يستأثر بشيء ويحول دون أن يشرك فيه الآخرين. ولعل عبد الرحمن الكواكبي، مؤلف "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، ما غفل عن جماع معاني هذا الفعل المشين.
لكن الغريب حقا والباعث على الدوار والدوخة هو أن تجد من "يحارب" الاستبداد مستبدا لا يلين، لتحصل لك القناعة بأنه مجرد مدع لا غير. وكيف نطمئن له وقد صار زمام السلطة بين يديه؟
من خلال تجربتي المتواضعة كمناضل في صحافة الأحزاب اليسارية (الاتحاد الاشتراكي، التقدم والاشتراكية، المنظمة...) اتضح لي أن النضال على الواجهة الخارجية للتنظيم وحده غير كاف، بل لا بد للمناضل الجاد والنزيه من أن يشمر عن ساعديه كليهما من أجل أن يخوض عن حسن نية المعركة على الواجهة الداخلية. وبما أن النفاق الاجتماعي والانتهازية تسربا إلى أحزابنا التي لا تعرف للديمقراطية الداخلية طعما ومذاقا، فقد يجد هذا المحارب نفسه وحيدا بلا حصان.
المناضل في هذه الأحزاب التي تصف نفسها بالاشتراكية ليس من طبعه أن يجأر بالشكوى إذا ما همشه الخصوم السياسيون والإيديولوجيون لأنه يعتبر ذلك تحصيل حاصل، ولكن من حقه أن يرفع عقيرته بالصراخ إذا ما تعرض للتهميش على يد من يعتبرهم رفاقا يسير معهم في ركب واحد على درب للنضال. {وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةًعَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ}، كما قال الشاعر طرفة بن العبد.
في أول الأمر، يعتقد هذا المناضل أن مسعاه إلى المشاركة في أنشطة حزبه ورغبته في إعتلاء المنصة إلى جانب أفراد النخبة سابقان لأوانهما، وأن عليه أن يعمل بجد ونشاط ودون كلل حتى يبرهن للقادة أنه جدير بثقتهم وقادر على الانخراط في ما هم فيه منخرطون، لكنه يفاجأ في نهاية المطاف بأن الحزب الذي ينتمي إليه تسيره وتتحكم في ناصيته جماعات ضغط صغيرة تألفت هنا وهناك من عناصر تربطها في الباطن علاقات مرفوضة في الظاهر، فتراهم يوزعون الأدوار في ما بينهم ويحرصون على استبعاد الآخرين من دائرتهم الضيقة والمغلقة. هل نعلل هذا الأمر المفجع بالمقولة المسكوكة: مطرب الحي لا يطرب. هذا التعليل لا يستقيم؛ لأن هؤلاء المهمِّشون والمستبعِدون يعيشون في الحي (الوطن) نفسه.
أثناء مكالمة على الواتساب، تواصلت من خلالها مع رفيق لي في الحزب كان عندئذ متواجدا في فرنسا لأجل مهمة حزبية، تناولنا أطراف الحديث حول أمور شخصية كان ختامها إعلاني عن تذمري من آلية دفاعية يلجأ إليها، بوعي أو بغير وعي، بعض أفراد نخبتنا السياسية والثقافية لتصريف تجاهلهم لأسماء مناضلين حاضرين بتميز في الساحة الإعلامية محليا ودوليا، ومبادرين لخدمة أحزابهم إعلاميا، وعوض ذكرهم بأسمائهم أثناء حضورهم لفعالية من الفعاليات، تقتضي منهم تلك الآلية الدفاعية الاكتفاء بأن يشيروا وهم جالسون إلى المنصة للمعني بالتجاهل إذا ما تناول الكلمة بلقب عام، مثل:، أستاذ، متدخل، سيد، شاب، طالب، إلخ...
حاول الرفيق الذي كان يتحدث معي من أوربا أن يقنعني بأن ملاحظتي غير صائبة بدعوى أن القادة السياسيين والمسؤولين الحزبيين من كثرة المهام المنوطة بهم ووفرة الوجوه التي يتعاملون معها يطفئ النسيان وهج ذاكراتهم. وليبعدني عن التوجه الذي اخترته لملاحظتي تلك وليقربني، بالمقابل، من مرماي الذي مناطه احترام الآخر ومعاملته بدون تجاهل، نصحني باستبدال صورتي الشخصية المرافقة لمقالاتي على "الحوار المتمدن" بأخرى أكثر جمالا ورونقا. ولكن هل من فكر اليسار ومبادئه التباهي بالمظهر الأنيق أمام الفقراء والادعاء بالنضال لصالحهم؟ والفكرة النتيجة الملموسة التي يمكن الخلوص بها من محادثتي مع الرفيق هي أن النضال نضالات على وزن الظلم ظلمات.
بعبارة واحدة، للنضال واجهتان على الأقل؛ واجهة داخلية وأخرى خارجية.. وسوف أستمر في نشر كتاباتي بنفس الصورة لوقت آخر حتى أفقأ عيون الذين في قلوبهم مرض الإنكار والجحود، وفي خلدهم يدور أن ذكر اسمك أو انتدابك للمشاركة في ندوة من الندوات أو في لقاء من اللقاءات مقدمة لمجد يظنونه حكرا عليهم وإرثا مصونا لذريتهم من أبنائهم وحفدتهم، ولأقاربهم ومعارفهم.
خاتمة ممكنة: ما كاينش مع من..
ما كاينش مع من.. كثيرا ما نسمع هذه العبارة تتردد على ألسنة المغاربة مع جهل بحقيقة بديهية وهي انك إذا كانت مواقفك نزيهة ومناصرة للحق والعدل فأنت تعرف بها على مر الأيام، ما يؤهلك لتصبح سمعتك طيبة، ولتنال نضاليتك اعترافا من الآخرين الذين قد يكون أغلبهم من خارج البلاد، وقد يحسدونك على ما تراكم لديك من رصيد في هذا الجانب ولا يكرهون أن يكونوا مثلك، وهكذا يلتفون حولك بعدما كانوا قد أهملوك وتجاهلوك ثم في الأخير أيدوك..
بعد مرور ساعتين بالتمام والكمال على هذه الفقرة اليتيمة، وجدت نسلها بدأ ينتشر رويدا رويدا. فها هو صديقي الذي يتابعني - مشكورا - على الفيسبوك مثل ظلي ينبري بتعليق وفي لحكمة "ما قل ودل": إنها الحقيقية، لكن أغلبهم لا يعترفون..
وها هو صديقي وزميلي ورفيقي القديم مبارك عثماني، رئيس الهيئة المغربية لحقوق الإنسان، يدخل على الخط بسؤال مباشر أنقله إليكم بدون تصرف: فاش حاسدينك،
أخويا؟ وهل تعتقدون أني سأقف "bouche bée" أمام هذا السؤال؟ وها كيف كان جوابي:
الحسد إحدى الصفتين المذمومتين اللتين ما فتئ سيرفانتس يؤكد في روايته "دون كيشوت" أنهما من أقبح الصفات التي تضر بجوهر الإنسان. الصفة الذميمة الأخرى هي الجحود أو الإنكار أو عدم الاعتراف بالجميل..
وحتى تدرك، رفيقي مبارك، المعنى الذي قصدته عندما أثرت رذيلة الحسد دعني أحكي لك ما حدث لي مع صديق وأخ لي في الحرفة تقاعد مؤخرا. قبل عيد أضحى عام 2017, ضبط معي عبد الرحيم أريري موعدا نلتقي به في مقهى فاخر يقع أمام مقر جريدته الإلكترونية بالدار البيضاء بعدما اشتغلت معه بهمة ونشاط ودون انقطاع في تحيين الجريدة بعيون المقالات. عشية سفري إلى الدار البيضاء، جالست زميلي المذكور بإحدى مقاهي بوزنيقة وتحدثت معه عن عزمي السفر غدا صباحا إلى الدار البيضاء لملاقاة أريري، وأسهبت في ذكر التفاصيل التي جعلتها امرا ممكنا فمتحققا.. هل تعرف كيف عبر عن رد فعله؟ بكلمة واحدة، قال لي: "فرحاتك.." قد أسمعك تسألني: وكيف لمست في رد فعله حسدا؟ هذا حسد أبيض محمود وهو ما كان يشير إليه أبي كلما أراد أن ينصحني: ضاد وما تحسد.. ويبقى هناك حسد يتوشح بالسواد، كما هو الحال مع السحر..
اقتنع صديقي المناضل الحقوقي بجوابي، لكن من باب الخوف علي من الانسحاب من الساحة ولو أنها صارت بيداء تعرفني، وجه لي نصيحة أخوية هذا نصها: اعمل ولا تلتفت ولا تبال حتى لا تنشغل وتنسحب..