جيل مارماس: هيجل ومغالطات العقل الخالص (الحلقة الرابعة


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8505 - 2025 / 10 / 24 - 09:49
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

لكن قبل ذلك، تشكل الأنثروبولوجيا مرحلة توجد فيها الروح على نمط المباشرة المعطاة وتكتفي بعلاقة حسية مع العالم الخارجي: “الروح بشكل عام، أو العقل الذي يظل محددا باعتباره موجودا، ما يزال عقلا [مندرجا] في الجسدية. ومن ثم يكون الإحساس في نفس الوقت شيئا جسديا بشكل مباشر”.
لذا فإن عيوب الروح كبيرة. ليس لديها أي معرفة موضوعية بل تظل محدودة بالانطباعات والأحلام والتكهنات. معرفتها متقلبة وزائلة، دون روابط متبادلة. من وجهة نظر عملية، تحكم الروح جسدها فقط، وتظل عاجزة عن إنتاج أعمال خارجية. كما أنها عاجزة عن بناء معرفتها أو إعطاء نفسها قانونا داخليا. ومع ذلك، فإن النفس هي اصلا روح تماما. لأنها، مثل أي روح، تمارس التأثير على الخارجية؛ بمعنى أنها تنتج نفسها كمبدإ داخلي لتوحيد ما يُعطى لها. مثلا، يؤكد هيجل أن للإنسان، في بعده الأنثروبولوجي، علاقة بجسده لا توجد لدى الحيوانات، لأنه يجعل هذا الجسد أداة مطيعة لإرادته: فهو قادر على الوقوف، والقيام بإيماءات مفيدة له، وتبني مواقف تعبر عن مشاعره. وبالمثل، يظهر هيجل أن الإحساس الإنساني يختلف عن الإحساس الحيواني بقدر ما تكون النفس الحاسة في الإنسان موجودة لذاتها باعتبارها كونية، مما يعني أنها ليست منغمسة تماما في الإحساس، بل تدرك ذاتها فيه باعتبارها نفسا حاسة بشكل عام .
مع ذلك، قد يُطرح السؤال التالي: مع النظرية الهيجلية عن النفس، ألا نكون إزاء تطبيع الروح؟ ألا يدافع هيجل عن فرضية أن للروح أصلا طبيعيا، بمعنى أن المجال العضوي هو نقطة البداية، وفي النهاية، علة الروح؟ بالفعل، يصف هيجل النفس الأنثروبولوجية بأنها “روح-طبيعة”، ويؤكد بشدة على اندماج الروح في الجسد. وهذا ما يتضح في النص التالي:
“في عصرنا هذا، يقلّ الحديث عن النفس في الفلسفة، سيما عن الروح. الروح تختلف عن النفس، التي هي، إن صحّ التعبير، الحد الأوسط بين الجسد والروح، أو الرابط بينهما. فالروح، باعتبارها نفسا، منغمسة في الجسد، والروح هي ما يُحيي الجسد”.
قد تحاول أن نستنتج من هذا النوع من العبارات أن الروح، عند هيجل، تنبع من الطبيعة، أو أن النفس مزيج من الطبيعة والروح. وبالتالي، يُشكك في نفي الروح للطبيعة، إذ سيكون لدينا هنا على الأقل شكل من أشكال الارتباط، أو حتى الخلط، بين اللحظتين. لكن، وفقا لفرضيتنا، ليس هذا هو الحال. فبالنسبة إلى هيجل، النفس تُمارس بالفعل تأثيرا على الطبيعة – حتى وإن كان ذلك بشكل بدائي. وتتجلى هذه النقطة تحديدا في التمييز الذي يُجريه هيجل بين النفس العضوية والنفس الأنثروبولوجية.
بالنسبة إلى هيجل، هناك نفس عضوية بالمعنى الدقيق، تدرك عمل أعضاء الجسد. هذه النفس ليست موحدة إلا بشكل غير كامل، لأن أعضاء الجسد، في عملها البيولوجي، متعارضة مع بعضها البعض. في المقابل، تقيم النفس الأنثروبولوجية داخل الجسد الحي معاني أو معايير مُوَحِّدة في كل مرة. مثلا، يستحضر هيجل حركة التحية التي تظهر بها الذات الاحترام أو التعاطف الذي تشعر به تجاه الآخرين. وبالمثل، يحلل الإحساس الإنساني السليم الذي يتميز، كما يقول، بربط القيم العاطفية أو الرمزية بالصفات الحسية للأشياء المدركة. في كل حالة، لا يهيمن الجسد لأنه، بدلاً من ذلك، فإن التحديدات الروحية هي التي يتم تأكيدها في الجسد. بهذا المعنى، فإن النفس الأنثروبولوجية، بينما يتم إدراجها في الطبيعة، تقطع معها. فهي لا تتعلق بالكائن الحي، الجسد العضوي والنفس الطبيعية، كما تتعلق بآخر، بل تأخذ منه وتجعله أداة مطيعة لتعبيرها الذاتي.
هذا ما رآه أرسطو، كما يقول هيجل، في مفهمة “العقل الوجداني” طي
“كتاب النفس”. فبالنسبة إلى أرسطو، إذا كانت الحواس متخصصة، يكون العقل كليا، إذ يجب أن يستقبل جميع المعقولات. ولهذا السبب، فهو معفى من أي شكل سابق: وهو ما يعبر عنه أرسطو بقوله، مستخدما لغة مستعارة من أنكساغوراس، إن العقل غير مختلط. وبالتالي، فبينما تعتمد الحواس على الجسد، يكون العقل مستقلا عنه: فهو نقي من أي اتحاد مع الجسد، وبالتالي فهو “لاعضوي”. بالنسبة إلى هيجل، تشير النفس العضوية إلى حقيقة عمل الجسد، بينما تشير النفس الأنثروبولوجية إلى مثالية المعرفة والإرادة. تبقى النفس العضوية أسيرة للخارجية المتبادلة، بينما تُولّد النفس الأنثروبولوجية معرفة أو إرادة، وهي، في حد ذاتها، موحدة. لهذا السبب، تُعدّ النفس الأنثروبولوجية، بلا لبس، شكلا للروح. ولهذا، نرى أنه يجب التخلي عن فرضية أن الأنثروبولوجيا فلسفة للطبيعة وفلسفة للروح في آنٍ واحد.
ما هي إذن مراحل الأنثروبولوجيا؟ فالروح، كنفس طبيعية، لها أولاً محتوى يُختزل إلى عواطفها؛ ثم، كنفس تحس، تكون عرضة للانقسام؛ وأخيراً، كنفس فاعلة، تُعبّر عن روحانيتها في جسديتها.
(يتبع)
نفس المرجع