عودة إلى حكومة بنكيران.. كيف استطاع حزب العدالة والتنمية حصاد ما زرعته حركة 20 فبراير؟
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8496 - 2025 / 10 / 15 - 00:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يدرك المتتبعون للحياة السياسية ببلادنا أن هذه الحكومة، التي سلخت جلدها في منتصف الطريق، مدينة في وجودها لمفارقة تاريخية كرست، جنبا إلى جنب مؤشرات أخرى، حالة الاستثناء المغربي في زمن الربيع العربي. لقد تأكد لهؤلاء المتتبعين أن الحزب الإسلامي، الذي اشتد عوده داخل قوقعة الخطيب التي كانت شبه خاوية على عروشها، حصد كل ما زرعته حركة 20 فبراير المناضلة. هنا، تحضرني قولة لبنسالم حميش كررها مرارا على مسامعنا عندما كنا طلبة في حضرته: آلهة التاريخ حمقى وقالوا لها زغردي. ثم ألا يحيلنا ركوب البيجيدي على صهوة حركة 20 فبراير وقرصنته للمطالب التي صدحت بها حناجرها المطالبة بالتغيير عبر شوارع وميادين أكثر من 50 مدينة مغربية بالمثل المغربي الذي يقول: اجري يا التاعس بسعد الناعس؟
الغريب في الأمر هو أن حامي الدين، منظر وديماغوجي الحزب، أراد أن يدخل أداة النفي على هذه الحقيقة التي تحدث في شأنها الركبان، وزعم أن عشيرته السياسية دعمت مطالب الحركة ذاتها منذ البداية (كذا).لكن حفيظ، المشهور برفضه لنجاحه المزور في الانتخابات، تصدى لتلك المزاعم من خلال مقال نشر في أكثر من موقع وفند ادعاء المنظر السياسي بأن "العدالة والتنمية" أطر مطالب الحركة. في مواجهة لمثل هذه الأكاذيب، لا يسعني إلا أن أقول لمن أطلقها: إذا لم تستحي فافعل ما شئت!
الواقع أن تجربة دخول إسلاميي البيجيدي إلى الحكومة أبانت عن كون ما أقدم عليه حامي الدين من تزييف للحقيقة ولي لعنق التاريخ ليس بادرة معزولة وغير مسبوقة. فمن منا لايتذكر ما كان قاله بنكيران منذ صعوده إلى رئاسة الحكومة من كونه يمثل الشعب المغربي الذي – في نظره – صوت لصالح حزبه، مع ان الأصوات التي حصل عليها تبلغ بالكاد المليون وهي لاتمثل سوى نسبة ضئيلة من مجموع الأصوات التي لو تم الإدلاء بها في الانتخابات التشريعية التي أعقبت دستور 2011 لكان لبنكيران وصحبه حديث آخر. وما زاد الطين بلة أن رئيس الحكومة ذهب به اعتداده بنفسه وحزبه إلى حد أنه تحدى رئيس مجلس النواب وقال له: شكون انت حتى تقاطعني؟!
من المفارقات التي وسمت بميسمها حكومة بنكيران في نسختها الأولى والتي لم يستطع العقل السياسي المغربي لحد الساعة فك طلاسمها، هناك، من جهة، تفاهمه وتوادده مع نبيل بن عبد الله زعيم ما تبقى من الحزب الشيوعي المغربي القديم الذي لا يجمعه بالإسلاميين لا الخير ولا الإحسان. وكان هناك، من جهة أخرى، سوء تفاهم بنكيران مع شباط؛ زعيم حزب الميزان الذي لايختلف مذهبا وتوجها عن حزب المصباح.
الضجة التي أحدثها شباط مباشرة بعد تنصيبه أمينا عاما على رأس حزب الاستقلال، يمكن تفسيرها بمفارقة السياسي التي نسبها بول ريكور لحنا أرندت في الصفحة 11 من كتيبه الموسوم ب "الانتقاد والاعتقاد". لقد أعاد ريكور صياغة هذه المفارقة بالقول إن" السياسي (LE POLITIQUE ) يتمظهر على شكل بنية متقاطعة، ذات مستوى أفقي وآخر عمودي. فمن جهة، إذن، نجد الرابطة الأفقية التي تجسدها إرادة العيش المشترك التي تكون صامتة، وغير ملحوظة على العموم، ومطمورة، بحيث لا ننتبه لوجودها إلا حينما تتفكك، أو عندما تكون مهددة: إنها تجربة الوطن لحظة تحدق به الأخطار، المقترنة بالانكسارات الكبرى التي تشكل هي الأخرى فترات تتفكك فيها الرابطة السياسية. ثم هناك الجانب العمودي، التراتبي، الذي كان ماكس فيبر يفكر فيه حين أقحم مفهوم السياسي في الحقل الاجتماعي في مستهل كتابه"ا الاقتصاد والمجتمع"، عبر إقامته لتمييز عمودي بين الحاكمين والمحكومين؛ ولايخفى، بالطبع، أنه يربط الاستعمال المشروع والأخير للعنف بهذه العمودية."
من الناحية الواقعية، كانت الأغلبية الحكومية في حكومة بنكيران رقم 1 مشكلة من أربعة أحزاب. ثلاثة منها يحوز أمناؤها العامون على منصب وزاري ضمن الحكومة، في حين أن رابعها (حزب الاستقلال) لم يحظ زعيمه بأي منصب حكومي. إن السبب الحاسم الذي هدى إلى هذا الاستثناء هو، بدون شك، تواجد عباس الفاسي على رأس حزب علال الفاسي لحظة تشكيل الحكومة وهو الذي فاوض بنكيران على المقاعد المخصصة لحزبه، غير أنه من المستبعد جدا استوزاره شخصيا لأن رياح حركة 20 فبراير عجلت بسقوط حكومته قبل الأوان. لهذا، ألح شباط إلحاحا على إعادة النظر في ميثاق الأغلبية وفي لائحة الوزراء المحسوبين على حزبه مؤملا النفس بالفوز بحقيبة وزارية إلى جانب الأمناء العامين الثلاثة الآخرين. بلغة حنا أرندت أراد شباط بمناوراته تلك أن يخرج من عداد المحكومين إلى صفوف الحاكمين. لكن بنكيران تهيب من دخول شباط إلى الحكومة نظرا لسوابقه في اللجوء إلى العنف للإطاحة بخصومه (استعانته بالكلاب من أجل سحب قيادة الذراع النقابي للحزب من بنجلون الأندلسي) فلم يكن من بنكيران إلا أن تجاهل مطالبه وتركه يرغد ويزبد إلى أن استعمل كل صلاحياته لحمل وزرائه على الانسحاب من الحكومة.
في غضون تلك الأيام الحافلة بضجيج الخصومات بين الزعيمين، ترأس شباط تجمعات ومهرجانات خطابية وظف فيها الرابطة العمودية المشار إليها سابقا في معرض دفاعه عن الوحدة الترابية ومطالبته باسترجاع الجزء الشرقي من صحرائنا الذي لازالت الجزائر تحتله لحد الآن.
مفارقة السياسي ليست حكرا على شباط، بل هي ملجأ وملاذ كل القادة السياسيين عندنا بصرف النظر عن توجهاتهم وانتماءاتهم ومذهبياتهم.
بعد خروج وزراء حزب الاستقلال من الحكومة، دخلت البلاد في نفق الانتظارية لمدة طويلة مما أتاح فرصة ذهبية لهواة تكهن السينياريوهات وشجع البعض على المناداة بانتخابات سابقة لأوانها مع ما يقتضيه هذا الخيار من ملايير هي أعز مايطلب في عز الأزمة الاقتصادية العالمية التي لم يتم الاعتراف بها إلا في وقت متأخر؛ لسبب وحيد هو تبرير سياسة التقشف التي تنهجها الحكومة في تعاطيها مع انتظارات المواطنين. كما أن ذلك الاعتراف لم تواكبه إرادة حكومية لتقليص أجور الوزراء ليكونوا إسوة لأثرياء البلد ومترفيه.
ساذج وواهم من كان يعتقد أن النسخة الثانية من حكومة بنكيران سوف تضع حدا للانتطارية المقيتة التي أرغم الشعب على تجرع مرارتها. إن حكومة بنكيران رقم 2 لم تبرهن سوى على الزج بالعباد في انتظارية أشد هولا وأكثر بأسا من سابقاتها. من الناحية السياسية، أشر رجوع التقنوقراط إلى الحكومة على الالتفاف على المبدإ المضيئ في الدستور الجديد؛ ألا وهو ربط المسؤولية بالمحاسبة. ثم كيف نفسر بقاء وزير في الحكومة بعد أن تم طرده من صفوف الحزب الذي دخل إليها باسمه في بادئ الأمر صحبة زملاء له لم يترددوا في ترك الجمل وماحمل؟ كيف يستساغ إسناد وزارة أخرى لهذا الوزير وقد ثبت تورطه في إيقاف عجلة البرنامج الاستعجالي لإصلاح منظومة التربية والتكوين؟ أما من الناحية الاجتماعية، فما سجل على بنكيران هو أنه لم يحسن استعمال آليات التفاوض والتحاور مع حليفه شباط فقط بل حنى مع االشركاء الاجتماعيين المنضوين تحت نقابات وجمعيات. الشيء الوحيد الذي جعل نجم بنكيران "يسطع" هو الزيادات في أسعار بعض السلع والخدمات إلى درجة أن شريحة عريضة من الشباب آثرت أن تطلق عليه لقب بنزيدان.