ديناميات ودوافع عودة الكفاءات المغربية من جميع أنحاء العالم: لماذا يعود المهاجرون؟ وما الذي قد يجعل تكيفهم صعبا؟


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8506 - 2025 / 10 / 25 - 04:53
المحور: ملف : ظاهرة البغاء والمتاجرة بالجنس     

في ظل سعي المغرب الدؤوب لتعبئة جالياته المهاجرة كقوة دافعة للتنمية، يواجه المغاربة في الخارج الذين يختارون العودة توازنا دقيقا بين الفرص المحلية والقيود الهيكلية. ولا تكشف مساراتهم عن ديناميات إعادة الإدماج المهني والاجتماعي فحسب، بل تكشف أيضا عن استراتيجيات لتعبئة الشبكات العابرة للحدود الوطنية والمهارات المتراكمة. وتقدم دراسة حديثة أجراها مجلس الجالية المغربية في الخارج والجامعة الدولية للرباط تحليلًا مفصلًا لهذه المسارات.
يغادرون بلدانهم التي بنوا فيها مساراتهم المهنية وحياتهم، وأحيانا عائلاتهم، ليستقروا في المغرب، حاملين معهم المعرفة والخبرة التي اكتسبوها في الخارج. ترسم رحلات العودة هذه، بين الآمال والتحديات المهنية ومفاوضات الهوية، لوحةً معقدة من النجاحات والصعوبات. وراء كل مسار تكمن رغبة في المساهمة في تنمية البلاد مع استعادة جذورهم الشخصية والاجتماعية. تُشكل دروس هذه التجارب جوهر دراسة “ديناميات ودوافع عودة الكفاءات المغربية من جميع أنحاء العالم: تركيز إثنوغرافي على الأوساط الأكاديمية وعالم ريادة الأعمال”، التي أجريت بشراكة بين مجلس الجالية المغربية بالخارج والجامعة الدولية بالرباط.
منذ خطابي جلالة الملك محمد السادس في غشت 2022 ونوفمبر 2024، أصبحت تعبئة كفاءات المغاربة حول العالم يُمثل رافعةً استراتيجيةً لمشروع التنمية الوطنية. ولكن وراء هذا الطموح، تكشف المسارات الملموسة لمن يختارون العودة عن الكثير من الوعود بقدر ما تكشف عن التحديات. وبحسب مؤلفي الدراسة، فإن الاعتراف بمسارات العودة هاته ودعمها يشكل رافعة للتحول الاجتماعي والاقتصادي: حيث يشارك المغاربة من خلال مهاراتهم وخبراتهم في إعادة تشكيل الفضاءات الأكاديمية وريادة الأعمال وتعزيز الروابط بين المغرب وجاليته في الخارج.
يريد المغاربة في جميع أنحاء العالم صوتا، وليس مجرد دور اقتصادي.
– دوافع متنوعة ومسارات هجينة
تُركز الدراسة، التي أجراها عالم الأنثروبولوجيا فريد العسري وعالمة الاجتماع شيماء جوريو، على تجارب المهاجرين الذين أُعيد توطينهم في مجالين رئيسيين: المجال الأكاديمي وريادة الأعمال. تتنوع دوافع العودة إلى المغرب. فبعضهم مدفوع بأسباب عائلية أو عاطفية، بينما تدفع آخرين الرغبة في المشاركة الفعّالة في تنمية البلاد، أو في إنشاء مشاريع مبتكرة وذات أهمية اجتماعية. ووفقا لفريد العسري، تعكس هذه الخيارات بحثًا عن المعنى والالتزام: “العودة ليست مجرد عودة جغرافية: إنها تنطوي على إعادة ابتكار الذات، والحسم بين الهوية العابرة للحدود الوطنية والانتماء المحلي، بالإضافة إلى إعادة تعريف الدور المهني والاجتماعي للفرد”.
هذه المسارات ليست متجانسة. غالبا ما يتطور المهاجرون الذين أُعيد توطينهم عبر مسارات هجينة وعابرة للحدود الوطنية، عند تقاطع العديد من النظم المرجعية الثقافية والمهنية. يشهد التنقل الدائري، والعودة الموسمية، والاعتراف المتزايد بالانتماء الوطني المزدوج على تعقيد الروابط العابرة للحدود الوطنية والروابط المتعددة مع بلد المنشأ.
ـ ملف الكفاءات وانفتاح المؤسسات
من منظور ديموغرافي، يتركز الشتات المغربي بشكل رئيسي في أوروبا، مع حركة مزدوجة للتجديد والتأنيث التدريجي، رغم أن بعض شرائح السكان تتقدم في السن. تتميز الملفات الشخصية التي تختار العودة بأنها ذات مؤهلات عالية بشكل عام: الغالبية لديها درجة جامعية أعلى وخبرة مهنية متنوعة في الخارج.
في القطاع الأكاديمي، تسلط الدراسة الضوء على تفضيل مؤسسات الشراكة بين القطاعين العام والخاص. توفر هذه المؤسسات مرونة تربوية أكبر وانفتاحا دوليا وتنوعا لغويا يسهل انتقال المهارات من الخارج. كما أنها تتيح إمكانية صياغة المعايير الأكاديمية الدولية مع الخصوصيات المحلية، مما يوفر لمسؤولي الإدارة العمومية فضاء للابتكار في المناهج الدراسية والحوار بين الثقافات.
ومع ذلك، فإن التكامل ليس بدون عقبات. تشير الشهادات التي تم جمعها إلى قيود مؤسسية متكررة: البطء الإداري، الجمود الهيكلي، والصعوبات في الحصول على المناصب أو المسؤوليات بما يتماشى مع مؤهلاتهم. تتطلب هذه العقبات التكيف المستمر وتعبئة أشكال المرونة، مثل استخدام الشبكات المهنية عبر الوطنية والابتكار التنظيمي.
ـ ريادة الأعمال: الإبداع مقابل الجمود
في مجال ريادة الأعمال، تتسم الدينامية بالتباين. يتمتع رواد الأعمال المغتربون بمهارات تقنية وإدارية ورؤية عالمية. إلا أن التنفيذ الملموس لمشاريعهم غالبا ما يواجه تعقيد الإجراءات الإدارية، ومحدودية فرص الحصول على التمويل، ونقص الآليات الملائمة لاحتياجاتهم الخاصة. يرى فريد العسري أن هذه القيود تُولّد استجابات مبتكرة. ويوضح قائلاً: “يواجه رواد الأعمال المغتربون بيئةً قاسيةً أحيانا، لكن هذا القيد تحديدا هو ما يُحفّز الإبداع. فهم يستخدمون رأس مالهم الاجتماعي ومعارفهم وشبكاتهم التي اكتسبوها في الخارج، ويطورون أساليب إدارية وتنظيمية مرنة”. وهكذا، يُصبح المغتربون محركا محتملا للابتكار، إلا أن اندماجهم يتطلب إدراكا لخصوصيات هذه المسارات العابرة للحدود الوطنية.
ـ استراتيجية حوكمة وطنية متجددة
تقترح الدراسة رؤية استراتيجية لهيكلة تعبئة مهارات إدارة الموارد البشرية. ومن المتصور إنشاء مؤسسة المحمدية للمغاربة المقيمين في الخارج كرافعة مركزية. وستكون لهذه المؤسسة مهمة توحيد وتنسيق مبادرات الشتات، ودعم الاستثمار، وتبسيط الإجراءات الإدارية. وستشكل ذراعا تنفيذية للحكامة التشاركية، قادرة على الجمع بين المؤسسات العمومية والمجتمع المدني والقطاع الاقتصادي.
وفي الوقت نفسه، يمكن تطوير الدبلوماسية العلمية وريادة الأعمال: إنشاء حاضنات وبرامج توجيه وتمويل مناسب ومراكز بحثية، من أجل هيكلة وتوجيه المساهمة الفكرية والتكنولوجية والاقتصادية لإدارة الموارد البشرية. ويُعد الاعتراف بالكفاءات المتنوعة، التي تتراوح من المعرفة المهنية ةالخبرة غير الماهرة، بما فيها مهارات التعامل مع الآخرين، نقطة رئيسية أخرى لضمان التكامل الفعال والشامل. كما أن البعد الثقافي محوري بنفس القدر. إن سياسة متعددة اللغات وشاملة تعمل على تعزيز الهويات المتعددة لمواطني الدول الأخرى من شأنها أن تعزز الروابط الرمزية مع البلاد، وتشجع الدبلوماسية الثقافية، وتخلق مساحات للحوار والبناء المشترك.
ـ خريطة طريق عملية
لا يقتصر دمجُ المجتمعات المحلية متعددة الثقافات على إجراءات رمزية، بل يتطلب تخطيطا دقيقا، وتنسيقا بين المؤسسات، وبرامج تجريبية لاختبار مناهج جديدة. كما يُعدّ تطوير مؤشرات الأداء والتواصل المُوجَّه أمرا بالغ الأهمية، وكذلك القدرة على التكيف المستمر، القائم على الابتكار وتعزيز النجاحات.
يُشدّد فريد العسري على الإمكانات التحويلية لهذه المهارات. ويختتم قائلًا: “إن فهم كيفية استقرار المجتمعات المحلية متعددة الثقافات، وإعادة بناء هويتها، والتفاوض على اندماجها الاجتماعي، يعني إدراك دورها المحوري في الابتكار، وتجديد الفضاءات الاجتماعية، وتوطيد الروابط بين المغرب وجاليته في الخارج”.
المرجع:جريدة "le matin"