أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الرواية : مَطهر 3















المزيد.....

الرواية : مَطهر 3


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3030 - 2010 / 6 / 10 - 07:51
المحور: الادب والفن
    



مِزاجُ صلاح الدين ، كُشِفَ حِجابُهُ بحكاية تشييد القلعة القاهريّة.
وبدءاً يجبُ القول ، بأنّ دافع أبن أيوب لمُغادرة القاهرة ، القديمة ، والإستقرار في سفح جبلها ، المقطم ، ما يفتأ على إلغازه وبالرغم من مرور القرون العديدة : أهوَ وضعه النفسيّ ، كحاكم غريب ، سنيّ ، في بلد كانَ ما يزال عهدئذٍ يذخر بأتباع الفرقة الإسماعيلية ، المَرهوبة الإسم والفعل معاً ؛ أم يقينه بأنّ راحَة البال ستكونُ أوفرَ في حِمَى المقطم ، بما أنه يَنحَدرُ أصلاً من إقليم الجبل ؟
وعلى أيّ حال ، فإنّ الرجلَ كانَ قد بعثَ ، منذ حين ، ببعض رجاله إلى أرباض البلد ، لكي يَختاروا له مكاناً جيّداً ، مُناسباً ، لإقامَة قلعته ، المَنشودة . ولما كانَ هؤلاء ، بدورهم ، من أصل سيّدهم نفسه ، المَوسوم ، فلا غرو أنهم فكّروا ، أولاً ، بذلكَ الجبل المُبهَم ، الكالح الملامح ، المُطلّ على المدينة من شمالها . فحينما عادوا إلى مولاهم حتى يُخبروه بالأمر ، فإنه لم يتردد في اليوم التالي ، على الأثر ، من الذهاب إلى ذلكَ المَوضع بُغيَة مُعاينته عن قرب . لما أشرَفَ على القاهرة من علوّ مَرقاه ، أدرَكَ السلطانُ أنّ هذا المكانَ عصيّ الموقع ، فضلاً عن أنّ مرآه من لدن الخلق ، في الأسفل ، سيكون له تأثيرٌ في النفس، مهيبٌ وغامضٌ في آن . ولكنّ صلاح الدين ، أرادَ قبل كلّ شيء أن يَختبرَ جودَة هواء المكان . وبحَسَب أمره ، وُضِعَتْ قطعة لحم نيئة ، طازجة ، على صخرة صغيرة ، قائمة في الموضع ، المطلوب . وفي طريق الإياب ، لم يَنسَ المرافقون تركَ قطعة لحم أخرى ، طريّة ، بعيداً عن الجبل وقريباً من الحدّ العمراني للحاضرة . وإذاً ، بعد يومين من ذلك ، نقلَ أحدهم للسلطان صلاح الدين نتيجة الإختبار ، العلميّ : فإنّ قطعة اللحم ، الموجودة في سفح الجبل ، كانت ما تفتأ صالحة للأكل ، فيما الأخرى أصابها العفن .
" رائع .. " ، هتفَ السلطانُ بحبور ثمّ أضافَ " موضوع الهواء تمّ حلّه ، وبقي الموضوع الآخر ؛ الذي شغلني حينما كنتُ ثمة في سفح المقطم : فلقد لاحظتُ وقتئذٍ حاجة البلد لسور حجريّ ، حقيقيّ ، يُحيط مركزها وقلعتها ، المَنشودة ، سواءً بسواء ".
يومذاك، لم يكن في خاطر صلاح الدين،على أغلب ترجيح ، أنّ قلعته هذه ، المَطلوبة ، سَيُقدّر لها أن تضحي بنفسها مدينة عظيمة ، قائمة بذاتها ؛ بما كانَ على أخلافه أن يُضيفوا إليها من عمائر على مرّ السنين ؛ وخصوصاً ، في زمن المماليك البحريّة والبرجيّة .

بيْدَ أننا ، اليومَ ، في زمن الأسرة العلويّة ؛ التي كانَ محمد علي باشا قطبها ، الأول .
وها أنا ذا بمواجهة أحمد بك ، المصري ، في اللحظة التي تلتْ إعترافه لي ، بأنه صارَ يَدَ العزيز ، اليمنى ، في الشام الشريف . " وما الداعي ، إذاً ، للمُراوغة والإخبات ما دُمتَ ستعمَدُ ، أخيراً ، إلى كشفِ نفسكَ بنفسك " ، خاطبته في سرّي . لقد بلبلني بشدّة ذلك الخبَر ؛ المُفيد بأنّ القاروط أضحى وكيلَ العزيز ثمة ، في الولاية الشامية . عليّ كانَ أن أتيقنَ ، مُتأخراً على كلّ حال ، أنّ هذا العنكبوت ، الماكر ، قد نسَجَ شباكه حولي بصبر ودقة ومهارة . فما كانَ من مَخرج أمامي ، فكرتُ ، سوى الإستسلام للمقدور أو إنتظار مُعجزةٍ ما . كانَ عليّ ، والحالة تلك ، أن أداهنَ هذا الرجل ، الداهية ، ريثما أعودُ من سَفارتي ، سالماً . وأشدّدُ على الكلمة الأخيرة ، لأني كنتُ وقتئذٍ على ثقة ، بأنّ أيّ شبهَةٍ تخامِرُ البك من ناحيتي قد تدفعه إلى الغدر بي ببساطة ويسر : فأنا هنا ، في القاهرة ، في قبضة صديقه ، الوالي ، ولا سَندَ لي ، أو شفيع ، ما لو صَدَرَ أمرُ التخلّص مني .
" مَبروك ، يا بك . لعمري أنه خبرٌ جدّ سار ، ولا غرو "، هتفتُ لمُضيفي بلهجة محتفية ، مُتكلّفة. ثمّ أضفتُ في الحال ، مؤكّداً : " إنّ صفتكَ هذه ، الجديدة ، ستكونُ عوناً لمجلس العمومية في صراعه مع الانكشارية والصدر الأعظم ". لا أدري ، حقيقة ، ما إذا إنطلتْ كلماتي تلك ، المُطنبة ، على مَكر صاحبنا ، التليد . إلا أنه ، ظاهراً على الأقل ، أبدى سعادته بما قلته، فشكرني مُحنياً رأسه أكثر من مرّة . " حَسْبي ما سَمعته من جنابكَ ، لكي أكون مطمئناً إلى أنّ أصدقائنا في المجلس ، المُبجّلين ، سيكونُ لهم الرأيُ نفسه فينصفون نزاهتي وشرفي واستقامتي " ، قالَ القاروط مُجيباً تحيّتي .
ثمّ ما عتمَ أن بللَ شفتيه ، الجافتيْن ، بطرف لسانه مُمهّداً سبيله للإفاضة بالقول : " وأرجو منكَ ، يا آغا ، أن تقدّر ما سأطلبه منك ، الآنَ ، على قدْر حقيقته . فإني أرغبُ ، مُخلصاً ، أن تشاركني أنتَ أيضاً في هذه المهمّة . فإذا تكرّمتَ بالموافقة ، سأقترحُ اليومَ على الباشا أن تحظى من لدنه بتعيينك بدرجة وكيل ثان لمصالحه. إنّ وجودكَ إلى جانبي ، ولا ريب ، سيُضافر من فرص خدمتنا للمجلس ، كما أنه خدمة لي ، شخصياً ، لن يمكنني نسيانها أبداً " ، تلى القاروط خطبته بتدفق وإلهام .

من جهتي ، واصلتْ ملامحي التعبيرَ عن الغبطة والإمتنان . سوى أن طلبَ البك ، الجديد ، رأيتُ فيه على الفور محاولة منه لتوريطي في مهمّة ، خطرة ، لا يعلم سوى الله خفاياها ، الحقة . على ذلك ، أجبته مُتلطفاً بعد وهلة تردّد : " إنه ليشرّفني ، ولا شك ، أن يَغمرني العزيزُ بهكذا حظوة ، وأن أتعاون مع جنابكَ في وظيفةٍ ساميَة ، تعودُ بالخير على مدينتنا ، المُقدّسة . بيْدَ أني أطلبُ منك ، بدوري ، أن تقدّر دافعي إذا ما رغبتُ بأن يُتاحَ لي مهلة تفكير ، كافية ، لكي أتخذ قراري بهذا الشأن ".
إلا أنّ القاروط ، بطبيعة الحال ، كانَ أدهى من أن يُخدَعَ بما سَمِعَهُ من تبرير . وكأني به قد توقعَ ، سلفاً ، ما سيكونه جوابي على إقتراحه . إذ قالَ لي بسرعة ، ودونما حاجةٍ للتفكّر : " بكل تأكيد ، يا عزيزي . ولكن ، أتمنى منكَ أن تظهرَ رضاكَ أمامَ سعادة الوالي ، فيما لو شاءَ أن يُقدّمكَ لحاشيته بوصفكَ وكيلاً له في الشام . إنّ الأمر ، أؤكدُ لجانبكَ ، مجرّد مظاهر ولا تثريبَ عليكَ ، بالتالي ، إذا ما إرتأيتَ أن تعتذر فيما بعد عن الوظيفة لسببٍ أو لآخر ".
لقد أرضاني ، أعترفُ ، طلبُ البك هذا ، ولم أجد فيه ما يُخالف ضميري . وما لم يكن في حسباني عندئذٍ ، أنّ الماكرَ سبقَ وأوعز للعزيز بقبولي للوظيفة . فما كانَ من هذا الأخير ، إلا أن يُضمّن رسالته ، السامية ، الموجّهة لأعيان الشام ، والتي حملتها لهم بنفسي ، ما يُفيدُ بأني نائبه الثاني في وكالة أعماله . كانت الرسالة ، بطبيعة الحال ، مُغلفة بمهر وخاتم حاكم مصر ، ولم تفتحَ إلا في دمشق ، ومن قبل الشاملي بالذات.

عند غروب الشمس ، كنتُ أجرجرُ قدَمَيّ بأثر خطى القاروط ، المُتمهّلة ، المُتجهة إلى باب القلعة ، الرئيس ، المُخصّص للزائرين من ضيوف العزيز . الحراسُ ، المهندمونَ بملابس الفرقة الأرناؤوطية ، المُميّزة ، كانوا على جانبٍ كبير من اليقظة والصرامة . دققوا في أوراقنا بانتباه ، ثمّ ما لبثوا أن أفسحوا لنا الطريق باحترام وأدب ، بالغيْن . تفعيلة الصمتِ ، كانت مُهيمنة على بيت القصيد هذا ؛ الذي ياما شهِدَ مواكب الملوك والسلاطين والولاة ، الصاخبة ، المُرافقة بالصنوج والطبول والمزاهر والزرنايات.
" إنّ محمد علي باشا ، هوَ أوّل وال ٍ ، عثمانيّ ، يُعيّن حاكماً على مصر برغبة عوامها وأعيانها ، والمُتجليّة برسالة من مشايخ الأزهر للباب العالي "، قالَ لي البك بلهجة احتفالية . ومع أني أبديتُ اهتمامي بكلام الرجل ، إلا أنّ ذكره للرسالة ، ما كانَ ليسعدني في تلك الهنيهة. إذ إنقبضَ قلبي ولا غرو ، حينما تذكرتُ رسالة المير بشير ، المَحفوظة في رقها طيّ حزامي ، والمُوجّهة لصديقه القديم ؛ العزيز .
وكنا الآنَ نصعَدُ ، هوناً ، الدربَ الوعر والعريض نوعاً ، المُفضي إلى فناء القلعة الرئيس ؛ أين يتربّعُ ثمة قصرُ الوالي . ولحظتُ أنّ درباً آخر ، موازياً ، كانَ يعلو دربنا هذا ، ويؤدي ربما إلى المسجد المُنيف . وكان من الممكن لنا رؤية المنائر الرشيقة والقباب الدقيقة ، المُتبدّية من وراء الجدران الحجرية ، الشاهقة ، لذاك الدرب الأعلى . فما عتمَ القاروط أن أشارَ إلى تلك الناحية ، قائلاً : " هوَ ذا المسجدُ الكبير ، الذي شيّد بأمر من العزيز " . ثمّ أضافَ " وفي الجانب الآخر من المكان ، ثمة مسجد آخر بناه السلطان المملوكي ، قلاوون " . وليغفر الله لي ، إذا ما أبديتُ عندئذٍ رغبتي بأداء فرض الصلاة في مسجد الوالي ، وليسَ في مسجد سلفه ذاك ، المملوكيّ : فالحيّ أكثر نفعاً ، ولا ريب ، من الميّت .

ما أن خرجنا من المصلى ، حتى بوغتنا بأصواتٍ هادرةٍ ، يأتي صداها من جهةٍ ما ، بأسفل السور الداخلي . هُرعتُ والبك على الفور نحوَ حرف السور ، وقد دارَ في خلد كلّ منا ، على ما يبدو ، الفكرة نفسها ؛ وهيَ أنّ الوالي في طريقه للقصر ، أو أنّ أحدَ ضيوفه ، البارزين ، قد وصلَ إلى هناك . فلما أطللنا على الساحة الكبرى للقلعة ، شاهدنا حشداً من الجند ، وفيراً ، يؤدي مراسم عسكرية ، معيّنة ، فيما أفراده من مشاة وفرسان ، يتراصفون في صفوفٍ طويلة. وكانَ منظراً رائعاً ، يَجلبُ للنفس الرهبة والبهجة معاً . وكما توقعت ، فتحَ البك فمه ليعلق على ذلك المنظر ، المُنبسط تحتنا : " إنه عرضٌ عسكريّ ، عاديّ ، مثلما ترى . وأعتقدُ أنّ الأمرَ يخصّ قطعات الحراسة ، وتنظيم مناوباتها ، الليلية . ولكنّ هذه الساحة ، ذاتها ، كانت شاهداً من قبل على أهمّ حدَثٍ في زمن العزيز و ... " ، وسكتَ مُحدّثي فجأة عن إتمام جملته . بيْدَ أني ، وبلمحة واحدة حَسْب ، أدركتُ أنه كانَ في سبيله لينطق بمفردة ما ، غير مُناسبة ، بحقّ وليّ نعمته . وهكذا كانَ ، فعلاً . إذ ما لبثَ البك ، مُحرجاً قليلاً ، أن واصلَ جملته تلك بالقول : " أجل ، إنها مَذبحة المماليك . ولا شكّ أنكَ ، يا آغا ، سمعتَ بها قبلاً ؟ ". أجبته بهزة من رأسي موافقة ، فيما كانَ داخلي يُخاطِبُهُ : " وإذاً ، فإنها أفظع حدث ؛ تلك المذبحة . أليسَ هذا ، أيها الماكر ، ما كانَ بودّكَ التعبير عنه ؟ ". وكأني بالرجل قرأ فكرتي هذه . فإنه إستأنفَ حديثه ، مُستدركاً : " لقد سقى العزيزُ خصومَهُ أولئك ، المَشنوعي الصيت ، من كأس الهلاك نفسه ، الذي سبَقَ لهم أن جرّعوه للخلق ". فقلتُ لمُحدّثي ، مؤيّداً : " معكَ حق ، يا بك . لقد قرأتُ ما كتبه الجبرتي ، المؤرخ ، عن المماليك ؛ وأنهم أذاقوا أهلَ مصر من العذاب شيئاً لا يمكن وصفه ، حدّ أنّ الإفرنج لو ملكوا البلد لما كانوا زادوا بغياً عنهم "
" عفارم ، يا عزيزي . إنه قولُ بليغ وصائبٌ ، ما عبّرَ عنه الجبرتي. ولا ننسَ أيضاً، أنّ المماليكَ الترك قد تمكنوا من الإستيلاء على الحكم بوساطة تدبير ، غادر ، ذكّره العزيزُ لأخلافهم فيما بعد " ، ندّتْ عن القاروط ، المُشدد على صفة أولئك القوم . ثمّ إستطردَ مُواصلاً حديثه : " إنّ مذبحة القلعة ، لو نظرنا إليها بتمعّن ودونما أن نأبَه للجاجة توصيفها ، لتذكّر المرء بحادثة تخلّص المماليك ، الترك ، من آخر سلاطين دولة بني أيوب في مصر . إذ غدروا بسيّدهم هذا ، تورانشاه ، بطريقة غادرة وخسيسة ، لما كانَ بصحبتهم في وليمة على شط النيل ، كانوا قد دعوه إليها . فما أن فرَغ السلطانُ من غدائه ، حتى أشهروا سيوفهم في وجهه على غرّة ، فما كانَ منه إلا أن حاولَ النجاة بنفسه عن طريق القفز في مياه النيل . ولكنّ أولئك الترك ، الغادرين ، أدركوه ثمة على الشط ثمّ قتلوه على الفور . ولم يقف الأمرُ عندَ ذلك الحدّ ، فإنهم قاموا بعدئذٍ برمي جثته في خندق تحت سور قصره ؛ هناك في جزيرة الروضة ، ودونما أن يُصلى عليها أو حتى أن تغسلَ ". فما أن وصلَ مُحدّثي في حكايته ، التاريخية ، إلى ذلكَ الفاصل ، الدمويّ ، حتى أجفلَ فجأة .

" آه ، إنّ الوقتَ دَهَمَنا ربما . فعلينا التعجيل بالذهاب إلى ديوان سعادة الوالي "
قالها القاروط وهوَ ينظرُ في الساعة الثمينة ،الإفرنجية المَصدر ، المُتدلّية من كرزته الحريرية بوساطة سلسلة دقيقة ، ذهبية . على إيقاع تلك العجلة ، المَعلومة ، وصلنا إلى مدخل الديوان . وكنا ، لحسن الحظ ، في الساعة السانحة ، المَطلوبة.
هذا المكان ، المُكوّن في عمارته الخارجية، البسيطة ، من دور واحد ، ما كانَ ليوحي بأنه قصر الباشا نفسه ؛ الموروث عن أسلافه من ولاة وملوك وسلاطين . ولا حتى في عمارته ، الداخلية ـ ونحنُ الآنَ صرنا في الرواق الطويل ، المَسقوف ـ لتجعلها تختلفُ نظرة ُ الزائر تلك ، لهذا القصر ، العتيد . إلا أنّ قاعة الديوان ، الفارهة ، التي ما لبثتُ أن وجدتني فيها ، كانَ عليها أن تغيّر من نظرتي للمكان .
" لن تراني ولكن انظر إلى ذلك الجبل " ؛ هكذا خاطبُ الربُّ موسى ـ سورة الأعراف . ولا أدري ، حقا ، لمَ راودتْ ذهني آية ُ الكتاب ، الكريمة ، في نفس اللحظة المُستطيرة ، المُسوّمة بمطيّة مهمّتنا : لقد كنتُ ، إذاً ، أمامَ الرجل العظيم ، الذي يبدو أنّ اسمَهُ السامي ، المُركّب ، باتَ مَصدر بلبلة الباب العالي ـ بله حضوره ، ( العزيز ) ، المَرهوب من لدن عبد الله ، البسيط ؛ الذي يخط كلمات هذا الكناش الفاني .
" أهلاً وسهلاً بضيفيّ العاليَيْ المَقام ، المُبجليْن ، القادمَيْن من الشام الشريف " ، رحّبَ بنا الباشا بحفاوة ، وبلغته العثمانية المَتينة . صحيحُ هذه الجملة ، كانَ عليه أن يَحذفَ معلولَ جملة نفسي ، المُتوجّسة . ولكنها ، في واقع الحال ، سحنة العزيز البشوشة ، السَمِحَة ، من كانَ عليها أن تضافرَ طمأنتي لجانب جنابهِ ، المُكفهرّ السمعة . كانت سحنة حَسَنة الملامح ، تعلوها عينان صغيرتا البؤبؤ نوعاً ، ولكنهما متقدتان بأوار الفراسة والحنكة والمراس . أنفه العاديّ الحجم ، كانَ أقنى قليلاً . وكذلك يمكنُ القول بأنّ فمه ، ذي الشفتيْن الرقيقتيْن ، كانَ على شيء من الوسع : ولعمري ، فإنّ ملامحَ المخلوق لتنبي غالباً بسريرته ـ كما رسَمَها وأرادها خالقه .
" مولاي العزيز ، إنّ خادمكم ليتشرّفَ ، صاغراً ، بحمل رجاء أعيان الشام الشريف إلى جنابكم ، والمُعبّر عنه سعادة المير بشير ، حاكم جبل لبنان ، في رسالته هذه " ، تلوتُ على مَسمَع عزيز مصر ، العظيم ، خطبتي المتواضعة ، فيما كانت الرسالة تلك ، الموسومة ، قد أضحَتْ بين يديه . وأعترفُ هنا ، بأني أعددت خطبتي ، جيداً ، طوال الأيام الماضية . كانَ الباشا عندئذٍ مُستلق فوق طوطيّ وثير ، مُظهّر بالديباج الأحمر ، فيما وُضِعَتْ نمرقة باللون نفسه خلف ظهره . مَلبَسُهُ ، بالمقابل ، كانَ بسيطاً ، بل من قطعة واحدة حسب ؛ طالما أنه لم يكن سوى جلابية أهل البلد ، المَصحوبة بسَرْبوش الرأس ، القاني ، ذي السِمَة الروميّة . على ذلك ، وبخبرتي بعوارض المَرض ، حَدَستُ من فوري بأنّ الرجلَ غير مُعافى : ولا أدري ، مرّة أخرى ، لمَ آذنتني آنئذٍ سحنة كلّ من المَرحومَيْن ، آغا أميني وقوّاص آغا ، حينما كانَ كلّ منهما ، أيضاً ، يتمتعُ بأمسيةٍ ربيعيّة ، حارّة ؛ شبيهةٍ بهذه الأمسية من أوان الصيف القائظ ، المُبكر .



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرواية : مَطهر 2
- الرواية : مَطهر
- الأولى والآخرة : صراط 7
- الأولى والآخرة : صراط 6
- الأولى والآخرة : صراط 5
- الأولى والآخرة : صراط 4
- الأولى والآخرة : صراط 3
- الأولى والآخرة : صراط 2
- الأولى والآخرة : صراط
- الفصل الثالث : مَنأى 9
- الفصل الثالث : مَنأى 8
- الفصل الثالث : مَنأى 7
- الفصل الثالث : مَنأى 6
- الفصل الثالث : مَنأى 5
- الفصل الثالث : مَنأى 4
- الفصل الثالث : مَنأى 3
- الفصل الثالث : مَنأى 2
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الرواية : مَطهر 3