أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 8















المزيد.....

الفصل الثالث : مَنأى 8


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3007 - 2010 / 5 / 17 - 02:20
المحور: الادب والفن
    



" أدخلْ ثمة ، ياه ؛ أدفع عندكَ ولا تخشَ شيئاً "
هذه الجملة ، المُبلّغة ليلة أمس على لسان " شمس " ، في ذروة غلمتها ، لم تروّعني حَسْب ؛ بل وقدّر لها أن تكونَ النقطة الحاسمَة ، الخاتمَة جملة المُضاجعة ، البليغة . ثمة ، عند طرف المصطبَة ، عليّ كانَ أن أستردّ الوعيَ بما هوَ كائنٌ وموجود . إذاك ، اُيقظتُ تماماً من غفلة الوهم ذاك ؛ الهاتف في رَوْعي بأنها ياسمينتي ، المسكينة ، من تستلقي في فراشي عارية ومفتوحة الفخذيْن . إذ زحفتْ ابنة المجهول ، المُكتنفة بالعتمة ، نحوَ مكاني المَعلوم ، لتردّني للصواب بهمسها المَخنوق بالرغبة : " ماذا دهاكَ ، يا سيّدي ؟ " . فما أن وقعتْ المفردة ، الأخيرة ، على أمّ سَمَعي ، حتى تنفستُ بعمق وكما لو أنني أنجو للتوّ من غائلة الغرَق . " قم بنا إلى الفراش ، الدافىء ، كيلا نصاب بالبرد " ، قالتها المُشرفة ببساطة . في تلك اللحظة ، الفاصلة بين اليقين والظنّ ، كانت ما تفتأ تمرّغ وجهَها على ظاهر بدني . فيما أناملها ، القاسية نوعاً ، كانت تداعب ذكري ، الخامد الأوار ، لكي تبث فيه مُجدداً جذوة َ الشهوة .
" إنّ ما ينقص نساءَ دار الحديث ، هوَ الشيءُ ذاته ؛ الذي تملكه أنتَ ، يا آغا " ، هتفَ فيّ بنبوءته ذاكَ المَملوكُ المَلعونُ ، الماكر . نعم . كانَ عليّ ، أيضاً ، أن أستعيدَ جدّياً تلك الجملة ، المَنطوقة باستهتار وخفة ؛ أنا المَلخومُ هنا ، بين يديّ جنيّة المُتعة هذه ؛ التي أذهلتني بمعرفتها ، الكلّية ، لكلّ ما يُطيقه مجلّد الباه ، السرّي .
" أنتَ تعتقدُ ، إذاً ، أنني عذراء ؟ " ، خاطبتني الفتاة بصوت خافت واستطردتْ على الأثر " فاعلم أنني اُناكُ ـ كأيّ امرأة كاملة ، مذ عقد من الأعوام ؛ منذ أن كنتُ في الخامسة عشر من عمري " . فما كانَ مني ، إلا إجابة شمس بحركة كيْد وإنكار . عندئذ ، حرّرتُ جسدي من قبضتها ، وما عتمتُ أن نهضتُ نحوَ جهة الفراش . بدورها ، هُرعتْ بأثري إلى ناحية الخطيئة تلك ، وقد دخلَ في وهمها أنني أدعوها لإكمال جولة المُعاشرة والمؤانسة . فكم كانَ وجومُ المُشرفة كئيباً ، مُحبَطاً ، عندما رحتُ أكتسي بمنامتي . وهامستُ لها من ثمّ بنبرَة صارمة ، آمرَة : " أستري حالك ، يا سيّدتي " . لم تكن ياسمينة ، وإنما هيَ نرجسُ ، من وقفَ آنئذ حائلاً بيني وبين شمس. لم يكن ثمة رؤيا ، بعدُ .

" انهضْ على الفور ، يا سيّدي "
هتفَ المملوكُ ، الروميّ ، لأكثر من مرّة ، فيما كانَ يهزني بيده ، المُرتعشة . فتحتُ عينيّ ، أخيراً ، على منظر الفتى المُشوّش ، الغائم . إذاك ، أبصرتهُ شاحبَ الوجه ، ممتقعاً ، فيما أنامل كفه ، الأيمن ، ترتجفُ باستمرار وبشكل مثير للشفقة . فما عتمَ أن قالَ بخوف : " إنّ كبيرة تطلبكَ ، وفي الحال "
" آه ، إنّ أحدَهم ، ولا ريب ، قد ضبَط المُشرفة " ، فكرتُ بعظيم الجزَع . حينما كانت شمسُ قد غادرتْ غرفتي خفية ً، مُتسللة ًمنها ـ كما سبقَ وأتتْ إليها ، خيّلَ إليّ وقتئذ أنّ صرخة ، مكبوتة ، تناهتْ بأثر شبَحها . وإذاً كانَ عليّ أن أتوجّه إلى حجرة كبيرة الحافظات ، لكي أمثلَ في حضرتها ، مذنباً بأمر في غايَة الفحش ؛ معاشرة إحدى نساء دار الحديث ، اللاتي كنّ يتعهّدنَ تربية البنات ، الناشئات ، على أصول السنّة والكتاب .
" إنه العشّاب ذاك ، العجوز . لقد وجدوه ميّتاً ، في كوخه ؛ في هذا الصباح " ، قالَ لي المملوكُ ونحن في الطريق إلى حجرة أعمال كبيرة . ولا بدّ أنّ المُخبّر ، المَلولَ ، قد لحظ في هذه اللحظة ، مندهشاً ولا غرو ، تعبيرَ الارتياح على سحنتي . " رحمه الله . إنه طاعنٌ في السنّ ، على كلّ حال " ، ندّتْ عني مصحوبة بهزة أسف من رأسي العاري . ولكنني ، بعد برهة قصيرة ، لن أكونَ على هذا الشعور الرضيّ ، المُقتنع بحكمة الحياة ، الربّانية . فما أن أضحى وجهي ، الحالمُ ، بمقابل وجه كبيرة ، الجَهْم ، حتى أدركتُ أنّ مصيبة ما ، قد دهَمَتْ الدارَ . دَعَتني للجلوس على الديوان المرأة ُ البدينة ، المُحتجَبَة بخمارها الكامد ، الأسوَد ، ثمّ طفقتْ تتطلعُ في عينيّ باهتمام . من ناحيتي ، عليّ كانَ أن أهمُدَ بمكاني صامتاً ، مُتململاً . إذ تذكرتُ برودة كبيرة الحافظات هذه ، في الليلة الفائتة ؛ حينما بادرتها بالمساءلة عن الوضع المُريب ؛ الذي كانَ قد جدّ خارجَ مدرستها .

الآن ، في وهلة الصّمت ، تشاغلتُ بتأمّل ما يُحيطني من أشياء ومجرّدات . حجرة أعمال كبيرة ، الفارهة ، كانت شبيهة تقريباً بمثيلتها ؛ المقيمة في بيت كبير الأعيان . فكلّ من الجدران ، البليغة النقوش بالآيات الكريمة ، كانَ مقسوماً في تلبيسه إلى جزأيْن ؛ علوي وسفلي . الجزء الأول ، كانَ عبارة عن ملاط عاديّ ، سميك ، خال من الزخارف ويميل للون الأصفر . أمّا الجزء السفليّ ، فتأثلَ مداميك الحجارة الثلاثية ، الأفقية الشكل ، في تسلسلها من الأبلقيّ للبازلتيّ فالمزاويّ . وعدا عن النافذة الكبيرة ، المَفتوحة على مَشهد الدار ، الرّحب ، فثمّة قمَريّة في أعلى الجدار القبليّ ، تتيحُ للمزيد من النور أن يَغمُرَ الغرفة . خلل تلك النافذة ، كانَ بصري ينهلُ من مُعين صحن المدرسة ، المُرخم بالمرمر الرائع : من المادة الحجرية نفسها ، المُتفاوتة بين الأبيض والأسود ، كانت صنعة تلبيس البحرَة الكبيرة ، الدائرية الشكل . خلفها مباشرة ً، ثمة رواقٌ واسع للغاية ، مقنطرٌ على التوالي بقوس المدخل ، الهائل العلو ؛ ثمّ بالقوس المُتصدّر الجدار الداخليّ ، المُصمّت . كانَ ذلك المكان ، الشبيه بمحراب مُرقش بأنواع الزخرف ، مُضاءً نهاراً بنوافذ علويّة ، صغيرة ، مقوّسة بدورها. أما ليلاً ، فكانَ أمرُ الإنارة موكلاً بالمسرَجة ، العظيمة ، المُتدلية من سقف الرواق بسلسلة حديدية . ولكننا اللحظة ، كنا في صباح صاح ، ألق ، مزخرف بشمس نحاسيّة .
أما هنا ، داخل الحجرة ، فكان على خزائن الكتب والمجلدات ، المركونة في أمكنتها حذاء الجدران ، أن تشيرَ إلى الكمّ ، الجمّ ، لعلوم ومعارف سيّدة دار الحديث . كانَ بصري عندَ تلك الموجودات ، الحَسَنة المنظر ، حينما جُذبَ نحوَ منظر كبيرة ، الهائل ؛ والذي كانَ ، على أيّ حال ، يُفصح بدوره عن حسنها التليد ، الغابر . لقد أخذتْ المرأة عندئذ بالتنحنح بصوت مسموع ، لكي تبادر بخرق الصمت . وعليها كانَ ، أيضاً ، أن تأخذني على حين فجأة ، حينما قالت لي مُتسائلة : " أظنّ أنّ المملوكَ ذاك ، أعلمكَ بمصيبتنا ؟ " . ثمّ إذا بها تضيفُ بنبرة قاسيَة : " فماذا لديكَ من تفسير ، لهذا الحَدث الخطير ، الداهم ؟ " . استغربتُ من صوتها المُرتفع ، القويّ الوقع ، فما كانَ مني إلا إجابتها مُستفهماً : " ليرحَمَ الله المعلّم ، العشّاب . ولكنني ، يا سيّدتي ، لا أدري حقاً وَجْهَ الخطورة في موت الرجل ؟ " . أنتقلَ الاستغرابُ إلى مُحادثتي ، فقالت بلهجة أخرى ، تشفّ عن الأسف : " اعتقدتُ أنكَ ، يا آغا ، على بيّنة من الأمر . إنّ العجوزُ ، لعلمكَ ، ماتَ مقتولاً . أجل ، لقد عُثرَ عليه صباحاً وكان ثمة خنجرٌ ، مغروسٌ في صدره "
" خنجر ؟ " ، هتفتُ بذعر . تفاقمَ عَجَبُ المرأة ، المُجتلية ملامحي بعينيْها الكبيرتيْن ، الرّماديتيْن ، والمَحفوفتيْن بغضون شحميّة ، دَسمَة . حقّ عليها شعورُ الدّهشة ، ما دامتْ على جهل بداعي ما أفصحتُ عنه من ارتياع قولاً ومَظهراً : كانت صورة المذبوح الآخر ـ وصيف الشاملي ـ تتراءى اللحظة لعينيّ الذاهلتيْن ، الغائبتيْن .

عندَ الظهر ، وقبل موعد الغداء ، المَعلوم ، صُلّيَ على جثمان العشّاب ، العجوز . أدينا الفرضَ ثمة ، في مسجد دار الحديث ، الكبير . وحينما جَمَعتُ مُبتدأ الجملة ، الفائتة ، فلكي أشير إلى حقيقة ، أنّ كبيرة تساهلتْ في أمر حضوري الصلاة على روح المعلّم . على ذلك ، كنتُ الرجل الحاضر ، الوحيد ، في هذا الحَرَم ، المَنذور آنئذ لحظوة الحَريم . استقامت كبيرة الحافظات بالمقدّمة ـ كونها من تأمّ الحاضرين ؛ وخلفها في الصفّ الثاني مساعداتها ؛ وخلفهنّ صفّ المُشرفات والمدرّسات ، الواقفات جنباً لجنب مع طالباتهنّ . وبالرغم من مكاني النائي ، المُنعزل في زاوية متطرّفة من قاعة المَصلى ، إلا أنني كنتُ أشعرُ ـ استغفرُ الله ـ بسهام نظرات النسوة ، الفضوليات ، وهيَ تنفذ في جَنبي . " إنّ نرجس ، وصديقتها شمس ، هناك ؛ بين تلك اللمّة ، المُحتجَبَة ببراقعها السود " ، قلتُ بسرّي مهموماً . غضضتُ نظري ، أجل . ولكنني تجاهلتُ قدسيّة المكان ، فيما كنتُ أتفكّر بما يمكن أن تكونه ردّة فعل ابنة الشاملي ، المُتحفظة والأنوف ، فيما لو أخبرتها صاحبتها ، الخرقاء ، بتفاصيل المغامرة الليلية ، الغرامية . وبصرف البَصَر عن موقفي آنذاك ، الشريف ولا شكّ ، إلا أنّ عقيدتنا تبيحُ للشيطان ، دوماً ، أن يكونَ ثالث المُجتمعين بينَ امرأة ورجل . بله ما احتفيَ به مَجمعنا ، أنا والمشرفة ، من رَشف وهَصْر ورَهْز . ليعينني الله ، إذاً .
" سيّدي ، إنّ كبيرة تدعوكَ للإسراع في التوجّه لمخرج الدار . ثمة رجل ، مرسل من طرف الشاملي ، يَطلبُ رؤيتكَ بإلحاح " ، هَمَسَ المَملوكُ الروميّ كلمته ، دفعة واحدة ، في سَمعي . كان قد سبقَ لعينيّ ملاحظة أمر غريب ، مُريب ؛ عندما اقتربتْ من كبيرة إحدى خادمات الدار ، فانحنتْ عليها بحركة من يودّ الإفضاءَ بسرّ ما ، مَكتوم . " هلمّ بنا ، أيها الفتى " ، قلتُ للمملوك ودونما حاجة للتردّد أو التفكير . فما أن وصلتُ ، لاهثاً مَلهوفاً ، إلى مدخل مدرسة الحديث ، المُهيب العمارة ، حتى سمّرني هناك موقفٌ مُحيّر . نعم . كانَ مَحظوراً عليّ ، حتى تلك الساعة ، مجرّد التفكير في موقف كهذا : عربة الكرّوسَة ، المتوقفة ثمة بانتظاري ، على قارعة الطريق .

أمّا ما سأقصّه فيما يلي ، فقد سبقَ للشام كلّها ، أنْ لهَجَتْ فيه ، مُطوّلاً .
طوال الدرب ، المُتفاوت الأرضيّة بين الحجارة والحصى والتراب ، كنتُ جالساً في الكروسة وكأنني في معراج حلم مديد ، لا يكاد يبلغ النهاية : لم يكن ثمة انكشاريّ واحد ، ولا أيّ دخيل آخر ، في كلّ المنطقة الشاسعة ، الواقعة بين المدرسة الركنية والمدرسة البرّانية .
" أنظر يا سيّدي ، إلى ذلك المَشهد ، العجيب " ، قال لي القبرصيّ وهوَ يشير بيده إلى الناحيَة التي تدنو عربتنا منها . الساحَة الرَحْبة ، المُحتفية بمنزل شمّو آغا ، والتي ستعرف باسمه ، في زمن تال ؛ هذه الساحة ، بَدَتْ كأنها ميدان حرب ، حافل بمقاتليه . هنا ، تكرْدَسَتْ قوى الأهالي ، الشوام ، فضلاً عن فرق الأورطات ، الأغراب . فلأول مرة في تاريخ الولاية ربما ، يتآلفُ خصومُ الأمس ؛ من فرسان ومشائي وحَرَس العموميّة واليرلية والدالاتية واللاوند والمواصلة والبغادة والمغاربة . أبعدَ قليلاً ، على جانب الطريق ، كانت عربات الخيل ، ، تجنزر بسلاسلها ، الثقيلة ، قطعَ المدفعية وحاويات ذخيرتها . فيما السَدَنة ، كانوا على انهماكهم في التشحيم والتنظيف والتركيب . ليسَ في اللحظة المُبهرَة هذه ، بل فيما بعد ، أدركتُ مغزى التنظيم الصارم ، المُعَدّ بعناية ، للتظاهرة العسكرية ، المُترائية للعين : شمّو آغا ، زعيم الصالحية ، الممتطي فرسه الأصهَب ، كانَ في مقدمة الموكب . ثمّ يليه آغا يقيني ، على فرس أدهم . وخلفه كانَ فارسٌ من آمري الحَرَس ، يتبخترُ فوق حصان مُطهّم . ولكن ، إنّ ذاكَ الفارس ، الصلف ، بدا أليفاً لعينيّ .
" يا ربّ الخلق والفناء . أهوَ قوّاص آغا ، من يبدو جلياً لعياني ؟ " ، تفكرتُ مَبهوتاً بصوت مَسموع . فما كانَ من ابن الزعيم الصالحاني ، البكر ، الذي كان يرافقنا في الكروسة ، إلا المُبادرة لإجابتي : " أجل ، يا آغا . إنه آمرُ اليرلية " .

عرَبَة الكروسة ، الفخمة ، الخاصّة بالقاروط ؛ هيَ من توّلتْ حملَ وجوه الموكب ؛ من غير المقاتلين . علاوة على البك المصريّ وكاتب كلمات هذا الكناش ، كانَ يجلسُ معنا كلّ من الشاملي والعريان . أجل ، إنّ زعيم العمارة ، أيضاً ، قد عُثرَ على أثره ، في نهاية الأمر . فكم أسعدَني لقاء هذا الصديق الوفي ، الحكيم . عندئذ ، تحرّكت عربتنا ، مُتيحة ً لبقيّة الموكب أن تتبعها بتأنّ ورويّة . كان السائس ، المتجاوز الحلقة الخامسة من عمره ، متأنقا بلباس مميّز . مملوكنا ، الروميّ ، جلس بجانب السائس ، وما لبث أن دخل معه بحديث طويل ، حميم ، عما كان يطرأ على أحوال العربة وفرَسَيْها خلال الطريق . من جهتي ، زهدتُ بالكلام ، بما كان من هواجسي بخصوص مقتل العشّاب ، التعس . فمن سيقترف هذا العمل الطائش ، الخسيس ، بحق رجل عجوز لا يملك شيئاً من حطام الدنيا ؟ على أنني ، بالمقابل ، كنتُ مطمئناً لحقيقة ؛ أنّ مقتل معلمي ، لا علاقة له من قريب أو بعيد بمغامض الكناش وضحيتيْه ، المُفترضتيْن . آه ، ولكنني أدركتُ ، على حين بغتة ، داعي حدّة كبيرة الحافظات ، حينما واجهتني في الصباح : إنني " الذكر " الوحيد في المدرسة ؛ طالما أنّ المملوكيْن ، السعيديْن ، كانا ملفقيْن بصفة الإناث .
بالرغم من كثرة الخلق ، المتجمهرين على جانبَيْ الدّرب ، إلا أنّ حماسهم كانَ عادياً . أفصحتُ عن ملاحظتي تلك ، على سَمع الآخرين . فقال لي كبيرُ الأعيان ، بعيدَ مهلة تفكير : " إنّ الصوالحة ، لم يُعانوا من وطأة حكم الانكشارية ، الساحق ـ كما عاناه الشوام عموماً ؛ وعلى ذلك ، فلم يَعنهم كثيراً هذه التظاهرة ، إلا كمناسبَة سعيدة ، نادرة ". كلمات الكبير ، كانت مَشحونة بحزن عميق ، لم يخفَ عليّ . نعم . لا غرو أنه أفصحَ عن حاله ، قبل أيّ كان ؛ حينما أجابَ سؤالي . فهوَ ما يفتأ طريد الديار ، ينتابه دأبُ الحنين لحارته وناسها ونهرها وبيوتها وقناطرها ومحلاتها وأرباضها وأسواقها . أمّا بيته ، الحبيب ، فإنه أضحى خراباً ، بسبب الحريق .

سلكنا دربَ عين كرش ، فمررنا ببساتين أرزة ومَقرى وبيت أبيات والميطور والباعونية والديوانية . إلى أن وصلنا إلى الحدّ العمرانيّ ، المُرفه ، لحيّ سوق ساروجة . هنا ، رأيتُ أنه كان من النافل ما أبديته من خشية ؛ لضربة غدر أو خيانة : إنّ الدروب الضيقة ، كما مداخل الأزقة ، كانت مزروعة بأنفار الأورطات ؛ الذين سبقَ أن تسلموا أمنَ الحيّ من الانكشارية . وإذاً ، فإنّ الزعيمَ لم يكن يُضيّع وقته ؛ حينما كانَ مشغولاً في الأيام المُنقضية مع زهوره ووروده في حديقة المدرسة . ولكنّ الفضل في طرد القابيقول ، للحقيقة ، يعود لشجاعة وحكمة شمّو آغا ؛ وللبك المصري ، بدرجة أقل . ولكنّ هذا ، حديث آخر .
لم ينبني أحدٌ بوجهة سيْرنا ، إلا أنني خمنتُ بأننا في الطريق ربما إلى مدرسة الحديث . ولكن ، حينما تسامقتْ مئذنة جامع الورد أمام أبصارنا ، أدركتُ أننا نمضي نحوَ مكان آخر . " إنّ الموكبَ ، يا آغا ، يقصدُ قصرَ القاروط " ، قالَ لي العريان بنبرة يشوبها التهكم . بيدَ أنّ الهرَج ما أسرَعَ أن نثرَ كلماته تلك . فما أن دخلنا خلل درب السويقة ، العريض نوعاً ، حتى اندفع الخلق بأصوات مُبتهجة ومُحتفلة ، مُصمّة ، مُتماهية مع زغاريد النسوة من خلف أبواب الدور أو من على أسطحها . عند الساحة ، المحدودة المساحة ، المركون قصر البك المصريّ على ناصيتها اليسرى ، التقى موكبنا مع موكب آخر ، أقل منه شأناً . قبل ذلك ، تناهى وقعُ الطبول والمزاهر لسمعي . إذاك ، علمتُ أنّ دراويش الصوفيّة ، على اختلاف فرقهم ، يَحفونَ بشيخ الشام ، الجديد ؛ الذي عيّنه جلالة السلطان بدلاً عن ذاكَ الدجّال ، الوهّابي : إنه الشيخ سراج العابدين ، صهر مولانا النقشبندي وخليفته على سجادة الطريقة ؛ وكانَ قد عادَ يوم أمس من الاستانة ، يحمل ببيلوردي تعيينه ، السامي . كنتُ على معرفة بهذا الرجل ، الداهيَة . وكنتُ أعرفُ أنه كانَ عدواً ، لدوداً ، للمرحوم الشيخ القبّان ؛ وقبل ذلك ، كانَ أيضاً خصمَ والدي ، رحمه الله .



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الثالث : مَنأى 7
- الفصل الثالث : مَنأى 6
- الفصل الثالث : مَنأى 5
- الفصل الثالث : مَنأى 4
- الفصل الثالث : مَنأى 3
- الفصل الثالث : مَنأى 2
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7
- الرواية : مَهوى 6
- الرواية : مَهوى 5
- الرواية : مَهوى 4
- الرواية : مَهوى 3
- الرواية 2
- الرواية : مَهوى
- الأولى والآخرة : مَرقى 13
- الأولى والآخرة : مَرقى 12


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 8