التلاشي


حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 7907 - 2024 / 3 / 5 - 10:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

أو مصير حزب العمال الشيوعي في مصر
عرض تاريخي :
عادة تقسم الحركة الشيوعية – الاشتراكية في مصر لثلاث مراحل. المرحلة الاولي في العشرينات و قضت عليها حكومة سعد باشا أمنيا قبل ان يشتد عودها. الحركة الثانية – حركة الاربعينات – و هي حركة عارمة من تنظيمات متعددة خاضت اطول نضال اشتراكي متواصل في تاريخنا و قضي عليها عبد الناصر في معتقلات القتل و التعذيب اعوام 54 و 59 . اما الحركة الثالثة و هي موضوعنا فعرفت بحركة السبعينات و هذة تتميز بأن لم يقضي عليها أحد بل تلاشت بشكل غامض من تلقاء نفسها فلما حدث هذا و كيف هذا موضوع هذة المقالة. و اتناول هنا حزب العمال الشيوعي بالذات.
- التيار و الحركة :
قبل الدخول في التفاصيل أود أن أشدد علي أن حركة السبعينات غير تيار السبعينات. فمنذ هزيمة 67 و هناك تيار وطني تمظهر في أشكال كثيرة أدبية و شعرية و حتي تظاهرات الخ. بينما الحركة هي تنظيمات شيوعية مختلفة كانت تخوض نضال علي أساس عقائدي ماركسي و هي بالطبع تستمد زخما من تيار السبعينات الوطني لكنها مستقلة عنه بحكم توجهها الايديولوجي. و لم يكن تيار السبعينات هذا كله يسار بل كان فيه أيضا يمين رجعي واضح يري أن كارثة 67 هو ما جرته علينا الاشتراكية لكنه لم يكن يمينا دينيا علي أي حال.
- الانتقال للتبعية :
أدت حرب 73 إلي الانتقال لمعسكر التبعية و دمج السوق المحلي في السوق العالمي و إستعادة اليمين الديني الإخوان المسلمين خصوصا. و بشكل عام تنبه بل تنبأ الحزب لهذا التحول التاريخي خاصة و قد سبقته خطوات لا تخطئها العين من نوع طرد الخبراء السوفييت و اعتقال كل الجناح الوطني في السلطة بذلك الرجعي فيما سمي ثورة التصحيح. لكن تداعيات هذا التحول العميقة لم تظهر سوي بعد حين. و يذكر أن عام 74 شهد زيارة نيكسون للقاهرة مباشرة قبل استقالته الشهيرة و شهد حشد السلطة للملايين كي تستقبله في محطات القطارات من القاهرة للاسكندرية.
- سنوات النضال :
منذ 68 تقريبا بدأ النضال الذي توسع مع الحركة الطلابية خاصة منذ عام 72 و السنوات التي تلت. و لعل أهم ما ميز الحزب هو أسلوبه الصدامي في العمل الجماهيري و تركيزه علي تسليح الحركة الجماهيرية بالشعارات التي تطورها و توسع حدودها. و تقريبا في نفس التاريخ بدأت حركة عمالية علي استحياء. في تلك السنوات الاولي لم يكن نضالا اشتراكيا بل وطنيا غالبا. و في اعوام 75 76 توسع النضال الطبقي و الوطني و شمل مواقع كثيرة طلابية و عمالية ثم توج ذلك بانتفاضة 77 التي اتهم النظام الحزب بها. و بالطبع لم يكن الحزب مسئولا عنها لكنه تصدي لقيادتها قدر ما يستطيع. لا اعرف رقما تقريبا لكوادر الحزب في هذة المرحلة لكنهم كانوا عددا صغيرا بالمقارنة لنفوذهم السياسي. و في عام 76 نشر في الصحافة-صحيفة السياسة الكويتية- أن للحزب 9 مرشحين للانتخابات و من المؤكد أن كثير منهم ليسوا حقا مرشحي الحزب لكن الحزب يؤيدهم. بعد 77 و الضربة الامنية تراجع النضال الجماهيري و استمر كذلك حتي التلاشي في الثمانينات.
ما سبق مجرد مقدمة سريعة لنصل لهدف هذا المقال و هو التلاشي.
- بعض التفسيرات للتلاشي
الابتعاد عن الطبقة العاملة :
أو العزلة عن الطبقة العاملة هذا السبب المزعوم كان يقدم من فترة بعيدة علي أنه سببا للتراجع و تقريبا لأي عوارض أخري. و حقيقة لم يحدث ذلك تاريخيا بل كان الحزب متواجدا في معظم أو حتي كل مواقع حركة الطبقة العاملة قبل التلاشي. لكن تقديم هذا السبب الذي أسميه الرومانسية العمالية له ابعادة. التقاء الحزب بالطبقة العاملة و بالاحري بالشريحة المتقدمة منها هو علاقة من طرفين ليست وفقا علي الحزب وحده و غالبا طرف الطبقة العاملة هو الطرف الاقوي في علاقة الحزب بها. مجرد تقديم ذلك كسبب يكشف مستوي تأهل الكادر. فلم يعتاد الكادر علي التفكير النقدي المنطقي بل يتصرف علي أساس من الشعاراتية و العواطف. فللاسف لم يعد الحزب كوادره - او لم يتوفر له الوقت اللازم - لتكون كوادر ماركسية حقا. و قد رأينا هذا الاسلوب غير العلمي علي أوسع نطاق في ثورة يناير مثلا.
الكادر الطلابي :
سبب أخر قدم للتلاشي. فكثير من الكوادر طلاب و بعد تخرجهم انصرفوا لبناء حياتهم العملية. و هذا النقد صحيح من زاوية غلبة الكوادر الطلابية لكنه لا يفسر شيئا. فنفس هذة الكوادر ضحت كثيرا و كان يمكنها أن تواصل لو تصدي الحزب لحالة التفكك. و من ناحية أخري فالقيادة الحزبية تعلم كم عدد كوادرها المتاحين و تصيغ مهماتها علي هذا الاساس.
- ما الذي جري فعلا
أول تفسير حزبي رسمي للتراجع كان ما سمي ب "الانحراف البيروقراطي" 1979 و هو تعبير لم أفهمه حينها و لازلت لا أفهمه. فالحزب كان يعتمد رسميا المركزية الديمقراطية لكن عمليا كان يعتمد علي مخطط يمكن أن نسميه اشعاعي. فكل كادر مرتبط بشكل ما بكوادر المركز الرئيسية و هذة بدورها مرتبطة بشخص واحد. فلا يوجد هيكل حزبي حقيقي.و اللجان المحلية بلا حول أمام تغول المركز. فدائما ما كان ينظر للعمل التنظيمي كاجتذاب عناصر أو تحريكها تصعيدا و تهبيطا و ليس بناء لجان لها شخصيتها و وضع حسب مجال اهتمامها حتي المثقفين و الفنانين كان يطلب منهم الخضوع لهذة الطريقة المتعسفة جريا علي التقاليد الاستالينية. و قد اثيرت قضية البناء الحزبي عام 75 و اسفرت عن فوضي تنظيمية هائلة و ادت مباشرة لانفصال مجموعة من الكوادر عرفوا اولا باسم التكتل ثم الانشقاق. و خلفية ذلك ليست تنظيمية كما قد يبدو بل سياسية فقد كان هناك توقع حزبي باشتعال الحركة الجماهيرية. و لم يكن هذا التوقع غريبا بل كان يتداول حتي في الصحف. خاصة أن عام 74 شهد انتفاضات صغيرة محلية عرفت باسم "الحوادث المؤسفة" و غالبا ان الجنود الذي تم تسريحهم بعد الحرب واجهوا أوضاعا صعبة. و لاعداد الحزب للمعارك القادمة أخذ المركز موقف أنه يجب سحب كوادر جماهيرية للعمل التنظيمي الداخلي علي أساس أن الموجة الجماهيرية ستحمل الاف العضويات الجديدة . بينما من انفصلوا – و كانوا يتبنون نفس التوقع السياسي الجماهيري – كان رايهم علي العكس يجب الدفع بكل ما يمكن للعمل الجماهيري لقيادة هذة الموجة الجماهيرية. و كلا الطرفين علي حق و علي خطاء فمن المنطقي كلا الخيارين فلا العمل الجماهيري و لا التنظيمي منفصل في الحياة بل يمكن يتصور ان يتخذ هذا الاجراء في مكان معين و عكسه في مكان اخر. هزمت الكوادر المنشقة توقعها بالانفصال عن الحزب و هزم المركز نفس التوقع باجراءات تنظيمة ادت لتفكيك انوية اللجان المحلية فلم يكن العمل التنظيمي يلقي بالا للجان. فمثلا أقيمت لجنة منطقة من كوادر الاسكندرية لكنها كانت مسئولة عن كل الدلتا مما أحبط العمل الحزبي في الاسكندرية و لم يفيد الدلتا طالما هؤلاء الكوادر غرباء عنها فنحن أمام بناء حزبي يجري علي أساس الخريطة و ليس واقع النضال كما جري فعلا و لو كانت بنيت منطقة الاسكندرية لتعزز النضال فيها و كانت بالتالي اقدر علي تقديم العون للانوية الكثيرة و الواعدة في الدلتا. و غالبا نفس الحال في الصعيد. كان ذلك بداية للعمل ضمن مخطط هيكلي بشكل منفصل عن الواقع تماما. هذة هي الارادوية التي عصفت بالحزب.جذر الارادوية التنظيمية المنفلتة أذن هو الانحراف اليساري أو ما سمي ب"العواصف الثورية" هذة العواصف التي لم تحدث و بدلا عنها حدثت الانتفاضة الكبري عام 77 و التي كان جل جمهورها المهمشين كما حلل الاستاذ أحمد صادق سعد فرغم أن انتفاضة 77 بدأت في المصانع و خصوصا الترسانة البحرية و حلوان إلا أن المهمشين – أو اللومبون- أصبحوا جل قوتها و سنتناول هذة الشريحة فيما بعد
و الارادوية قد تجلت ايضا في عمل النشرات الحزبية. فبدلا من نشرة واحدة "الانتفاض" اصبح هناك "الشيوعي المصري" التي كان يفترض انها مجلة نظرية ثم "الصراع" التي يفترض أنها جريدة الحوار الداخلي ثم ما سمي اوراق النقاش و هي كتابات معدة للتحضير لاجتماعات اللجان. كانت طاقة الحزب الفكرية و السياسية و التنظيمية قادرة بالكاد علي تلبية حاجات جريدة واحدة فجاء هذا الطوفان من الجرائد كي يحبطها ويكشف عن عدم فهم ل ما العمل ل لينين. لينين كتب عن وضعية خاصة "يوجد ناس لكن لا يوجد ناس" أي أن هناك الكثيرين الذين يناضلون في مواقعهم عبر حلقات محليا لكن لا يوجد ما يكفي للنضال علي مستوي البلاد ككل. لذا فعندنا حينما نقول الحلقية و الحرفية فنحن نتكلم عن تاريخ ناس أخرين. و أنا أعترف هنا أنني لم أقراء كثير من أعداد الانتفاض لان ليس فيها جديد و لان معظم مقالاتها نسخ من بعض فعمليا لم يكن الكادر قادرا علي متابعة اي منهم حتي الانتفاض فمتطلبات العمل الجماهيري كبيرة و شروط السرية عسيرة. و عمليا ايضا لم يكن هناك حاجة لجريدة الصراع لو فتحت الانتفاض لبعض التباينات في وجهات النظر و حل القضايا الاخري عبر الاجتماعات . بل لم تكن هناك جاجة لجريدة نظرية – و في تقديري و لا القدرة النظرية علي مدها -لكن الحزب كان امام مخطط علوي منفصل عن الواقع. و المبرر المقدم هو هزيمة الحرفية و الانتقال للانتاج الكبير متجاهلا ان افضل تكنولوجيا هي اكثرها ملائمة لقوي الانتاج و ليس اكثرها تقدما. و للبرهنة علي ذلك لما لم يسعي الحزب لإنشاء محطة اذاعة لا شك انها اقدر علي الانتاج الكبير و الاجابة هي ان الراديو كان ابعد بكثير من امكانات الحزب التقنية و حتي الفكرية السياسية. و قد ادي الضغط الكبير علي جهاز الطباعة و التوزيع السري لاختراقات امنية خطيرة. و عمليا صدر طوفان من الكتابات في تلك الفترة اخذ مستواها يتدهور و اذكر منها الموقف من المسألة الزراعية بالغ السوء. لكن المخطط الارادي النظري فرض نفسه. و مقابل ذلك لم تصدر اللجنة المركزية أو المكتب السياسي تعميما واحدا حول اجتماعاتها أو أي قرارات سياسية محددة بل أن الحزب علي أتساعة لم يكن يعرف مثلا حقيقة الموقف من الكتيب المسمي ط ث شاكر هل هو يعبر عن رأي المركز كله هل دارت حوله نقاشات و ما هي الخ. و منذ سنوات و تقديري الشخصي ببساطة أنهم في المركز لا يعرفون و جرى ما يثبت وجهة نظري.و لا شك عندي أن هذة الارادوية التنظيمية هي الدافع لاطلاق صفة "الانحراف البيروقراطي" علي ما حدث لكنه لم يجيب علي سؤال لما ظهرت هذة الارادوية ما هي جذورها في الفكر و السياسة الحزبية. و رغم احتدام النقاش و الكفاح لاعداد الحزب لما اصبح يعرف ب "العواصف الثورية" فإجراءات بسيطة لم تتخذ لإعداد الحزب مثلا توحيد موقف اليسار أو تعيين متحدث رسمي علي الاقل في الخارج أو اصدار مجلة في بيروت – مع العلم ان شيوعي مصري كانت ايضا تصدر في الخارج - او علي الاقل اعداد مدارس للكادر الخ.
- الشعار المرحلي
ثم تأتي قضية الشعار فلم يسأل الحزب نفسه حقا ماذا يريد؟ و ساعرض سريعا لهذة القضية الهامة و المعقدة. فالثورة الاشتراكية طبعا حلم بعيد المنال فما هو الشعار الوسيط ؟ صدرت وثيقة تدعو ل اسقاط حكم السادات كشعار مرحلي لكنها اثارت أسئلة أكثر من الاجوبة أولها اسقاط حكمه لصالح من ؟ ثم أن إسقاط نظام الحكم كان علي جدول الاعمال منذ التحول للتبعية عقب حرب 73 فلا جديد هنا لكن أن طرح هذا الشعار كشعار إجرائي فهو قافز تماما علي واقع القوي الوطنية ككل. ثم هل في مقدور حزب صغير العدد و الانتشار ان يسقط الحكم في دولة مركزية مثل مصر؟ و الحزب ليس لدية منظمة جماهيرية مستقلة او حتي نقابة علاوة علي انه يغرد منفردا بعيدا عن باقي قوي اليسار و القوي الديمقراطية المختلفة !!وتشاء الاقدار أن يسقط حكم السادات بل و السادات نفسه ثم بعدها ب 30 سنة سقط حكم خليفته بانتفاضة شعبية و لم يتحول الحكم في الحالتين لحكم شعبي. قارن هنا ثورة 1905 في روسيا التي رفعت شعار الجمعية التأسيسية و ظلت هذة القضية محل أخذ وجذب حتي حكم البلاشفة. و قد اظهرت انتفاضة 77 كيف ان هذا الشعار"اسقاط حكم السادات" محلق في الفراغ.و بالمناسبة اتهم البعض الحزب بانه تقاعس عن استلام السلطة ابان الانتفاضة و هو قول لا يكشف سوي جهل قائله التام بما جري في 77 .
- المنظمات الممولة :
يتهمها البعض بانها مسئولة لحد ما عن ظاهرة التلاشي. لحد كبير استقطبت تلك المنظمات جهود كثير من اليساريين و الشيوعيين منذ منتصف الثمانينات. و هي توفر "مظهر" تقدمي ما لاعضائها لكنها تبعدهم عن خيارات سابقة لهم بالتغيير الاجتماعي الشامل. و هذة المنظمات لا يمكن اطلاق صفة منظمات عليها فهي من اعداد محدودة و هي ليست ديمقراطية مثل الاحزاب و النقابات كما لا يمكن وصفها بانها منظمات "غير حكومية" ففي احيان كثيرة تكون حكومية لكن ليست حكومة بلدها. لذا فأنا اسميها منظمات ممولة للتعبير عن الجانب الابرز فيها.وللاسف تورط بعض كوادر المركز في هذة اللعبة الجديدة .علي كل حال لا يستقيم ان نتهمها بالمسئولية عن التلاشي بل هي بالاحري احد مظاهر هذا التلاشي
- العلاقات الشخصية ضمن الأمراض التي كانت تنخر في الحزب العلاقات الشخصية الفاسدة فكثير من الرفاق كانوا ضمن "شلة" ما تجمعهم العلاقات التاريخية بسبب الجيرة مثلا و هذة الروابط بدلا من دعم العلاقات الرفاقية كثيرا ما كانت تأتي علي حسابها. ثم العلاقات بين الرجال و النساء رفاق كثيرين فهموا "الحب الحر"بمعني التحلل من كل قيد أخلاقي فتحولت ممارسة الجنس لنوع من الرياضة مثل رفع الاثقال او السباحة بما في ذلك الخيانة الزوجية. مما أفرز مشاكل شخصية بلا عدد ناهيك عن الانصراف عن تطوير الملكات الفكرية و الثقافية. و حتي أحيانا حدث تفاخر رجالي أو نسائي بكم العلاقات و "الغزوات" . بل لقد سمعت مرة عن "مراهنات" بين رفيقات حول من "تحصل" علي ذلك الرفيق. و أعرف تماما أنه في الغرب المعروف بانفتاحه تدان مثل هذة الممارسات. فشل الحزب تماما في تربية أعضاؤه بروحية النضال و مثله. و لن استطرد في تبيان تأثير ذلك علي التلاشي النهائي.
- التلاشي ظاهرة فكرية سياسية:
حقق حزب العمال الشيوعي المصري اختراقا فكريا سياسيا بطرح مفهوم البرجوازية البيروقراطية كتوصيف طبقي للشريحة المهيمنة من الطبقة الحاكمة. و قد انتشر هذا المفهوم من وقتها و حاز قبول العديد من التيارات اليسارية. و من الواضح التأثير "الصيني" في هذا المفهوم و كذلك في الموقف غير المتهادن من الاتحاد السوفييتي. و من المفيد هنا تذكر أن في هذا الوقت من منتصف الستينات سادت توصيفات من نوع البرجوازية الصغيرة و المجموعة الاشتراكية و الطريق اللاراسمالي. و تصدي الحزب لهذة المفاهيم التحريفية و دحضها ربما حتي اكثر مما ينبغي. لكن من ناحية أخري لم يولي الحزب نفس الاهتمام بالطبقات الشعبية العمال و الفلاحين و البرجوازية الصغيرة و فقراء المدن. و قد تلاشي الحزب و لم يترك للاجيال الاحقة تحليل طبقي لمجمل المجتمع المصري. تبني الحزب نظرة استاتيكية ماركسية عن الطبقات الشعبية. و المقصود بذلك أن الحزب يتبني التحليل الماركسي الذي يضع الطبقة العاملة كطبقة ثورية لها مصلحة في إنهاء الرأسمالية و المجتمع الطبقي ككل. لكن هذا التحليل التاريخي لم ينحل لدي الحزب لرصد اوضاع الطبقة العاملة و وزنها في المجتمع و مزاجها الثوري صعودا و هبوطا. و لم يقدم الحزب حتي تحليلا لانتفاضة 77 و لم يري التبدلات التي جرت في المجتمع و المنطقة و العالم منذ السبعينات. ساد دائما نوع من التفاؤل الساذج بالطبع منبعه أن الحزب أبعد ما يمكن عن القيام بالمهمات
- تبدلات الرأسمالية العالمية – فى أول السبعينات حدث تحولين خطيرين الاول هو انسحب أمريكا من معاهدة بريتون وودز التي كانت تقضي بالتحويل الثابت من الدولار للذهب بمعدل ثابت هو 35 دولار للاوقية. و هذا يعني ببساطة أعلان الافلاس للامبراطورية العظمي. أو بداية أزمة الراسمالية الثانية طبقا لاستاذنا سمير أمين
التحول الاخر هو تضاعف سعر للبترول مما يعنى أن الدول البترولية أصبح لديها فائض ضخم و طلب كبير جدا علي العمالة التي وفرتها مصر. بالتالي أصبح في مصر سوقين و ليس سوق واحد سوق هؤلاء الذين يعملون في الخارج و السوق الاخر للعمالة المحلية. علي مستوي أخر أصبح النضال لتحسين شروط الاستغلال بلا معني يكفي أن يجد المرء عقد عمل في الخارج لتحل متاعبة. و حتي اليوم تحويلات العاملين في الخارج هي اكبر مصدر للنقد الاجنبي حول 30 مليار سنويا متجاوزة السياحة و التصدير الخ. مؤكدة الطابع الريعي للاقتصاد المصري.
الحرب داخل اللجنة المركزية في هذة الاثناء جرت حرب حقيقية داخل اللجنة المركزية حول قضية شديدة الغرابة و هي هل المسئول السياسي شاذ جنسيا؟! و لا يمكنني التعليق علي ذلك لكن الارتباك الذي حدث كان مهولا. ما ادهشني أكثر من أي شيء أن اللجنة المركزية حافظت علي ذلك سرا عن الحزب و سرا أن هناك حرب حقيقية و انقسام داخل المركز. البعض تكلم عن الاغلبية و الاقلية لكن هذة خيالات فلم يكن هناك ابدا قرار ما لكي تكون اغلبية و اقلية حوله. فقط محاولة للظهور بمظهر يماثل ما حدث في بلاد أخري البلاشفة و المناشفة. رغم أن من يقولون ذلك مؤكد سمعوا عن كتاب لينين "خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية" و كيف عرض للقرارات المختلفة التي تبناها كل طرف. و غالبا يعرفون أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي رغم الانشقاق كان مازال حزبا واحدا. انتهت هذة القضية -دون ذيولها – بانسحاب المسئول السياسي أو السكرتير لا أعرف حقا لقبه الحزبي. و أن كنت أشهد علي أنه كان رجلا محب للسيطرة و دون مبرر مثلا من منجزات فكرية فحتي لو كان عندنا ماركس نفسه لم يكن ليتصرف هكذا. كما ذكرت "الديكتاتورية" و هذة علاقة و ليست حاله فلكى يكون هناك ديكتاتور يجب أن هناك من يستجيبون له و المثل يقول يا فرعون مين فرعنك!!
التقرير الجماهيري مقابل ذلك التنظيمي خرج ليس واحد بل 2 تقارير جماهيرية احدهم 92 صفحة و الاخر حوالي 50- تصور في ظروف السرية كيف يمكن للاعضاء الاطلاع علي كل هذا- و الرفيقين الكتاب كلاهما لم يكن لفترة طويلة مقيما بمصر !!وكان يمكن اختصارهما معا في 3 صفحات. فليس في أيا منهما رصد للاوضاع في وسط الطبقات الشعبية و لا حتي التغيرات الكبري الجارية كل ما هناك نعي علي الكادر و الاعضاء أنهم لا يقومون بدورهم. كان أمرا كوميديا كوادر من الخارج تأتي لتقول للحزب انة لا يقوم بدوره بينما هم لا يعرفون حقا ما يجري و لم يبادر أي منهم للالتقاء مع الكوادر الجماهيرية – الطريقة الوحيدة لمعرفة الوضع الجماهيري هي الاستماع للجماهير عبر قادتهم. قارن مثلا مع كتاب انجلز "أوضاع الطبقة العاملة الانجليزية" فرغم أنه ليس تقريرا جماهيريا عن لحظة معينة إلا أنه مكتوب بناء علي شهادات العشرات و حتي شهادات عيانية. ثم تجاهل تام للتغيرات العميقة في المجتمع و أخفاء تام لحرب اللجنة المركزية. حالة من الانفصال عن الواقع تامة حتي أنني قرأت لاحد كتاب التقارير الجماهيرية أنه تميز بأن الانشقاق الذي كان علي رأسه لم يلية أنشقاق أخر كعادة الشيوعيين و ذلك في نظره لانه كان "سياسي" أي الانشقاق و ليس لان الحزب برمته أختفي بعدها بما فيه هو نفسه. و أقول لنفسي هذة هي النتيجة المنطقية لكوادر من هذة النوعية. و اظنني سمعت كلمة "الديمقراطية" أكثر من المعتاد لكنني لم أري دعوة لخطوات ملموسة فحتي المكتب السياسي كان يمارس نوع من الاستبداد علي اللجنة المركزية ذاتها أو حتي لا اكون متجنيا لم تكن هناك قواعد محددة خاصة و ان كلا منهما غير منتخبين بل و لا خطة لعقد مؤتمر أو حتي استبيان للحزب.
الثمانينات و ما أدراك ما الثمانينات شهدت السبعينيات خطوة غريبة من جانب الاتحاد السوفييتي ففي الوقت الذي حقق فيه التعادل الاستراتيجي مع الامبريالية و فاز في فيتنام قدم سياسة "الوفاق" وربما بسبب الفشل الاقتصادي الكامل حتي أن السوفييتي بكل مساحته و موارده يستورد الحبوب من أمريكا. ما يهمني هنا هو أن حزبنا الشيوعي أيضا لم يلتفت لذلك. و في الثمانينات أخذت المنظومة الاشتراكية تتففكك بداية ببولندا التي أثارت نقاباتها التضامن نقاشات حامية الوطيس في العالم كله إلا عندنا و انتهت هذة الحقبة بمظاهرات الميدان السماوي في بكين عام 89 لكننا كنا انتهينا فعلا.
- بداية تضعض الحزب سرعان ما بدء الانفراط و أول المنفرطين هم المسئول الجماهيري في المكتب السياسي الذى تحول لليمين الديني و مسئول تنظيمي أخر تحول لليمين الامبريالي. مما يوضح معدن الكوادر التي حواها المركز. لكن لم يلفت هذا انتباه أحد
- معضلة الثورة في مصر
الرفيق الذي كتب طبيعة السلطة الاستاذ ابراهيم فتحي اعتزل العمل السياسي بعدها مباشرة. فماذا عن طبيعة الثورة المقبلة؟ الغريب انه لم تجري محاولات في هذا الاتجاه. أن كانت الثورة هي ثورة اشتراكية او حتي ديمقراطية شعبية فوزن الطبقة العاملة لا يسمح لها بالقيام بثورة او قيادة الفلاحين فيها في المدي المنظور. الطبقة العاملة اغلبيتها الكاسحة تعمل في منشأت صغيرة أو قزمية أو حتي بعيدا عن الصناعة كلية ثم أنها لم تنتزع حتي نقابات مستقلة و القسم الذي يعمل في الصناعة الكبيرة يكاد لا يذكر. أحب أن أذكر هنا بأنه في روسيا رغم تخلفها وقت الثورة كان تمركز الطبقة العاملة أعلي منه في المانيا- تمركز بمعني نسبة العمال العاملين في مصانع كبيرة مقارنة بالمجموع- يعود هذا إلي أن الثروات الطبيعية الضخمة- فحم حديد الخ- جذبت استثمارات هائلة من فرنسا و المانيا و انجلترا ثم الحاجة للسلاح في بلد تعد نفسها الاولي في اوروبا – راجع كتاب تروتسكي عن الثورة الاولي 1905 – ليس لدينا شيئا من ذلك بل علي العكس طبقة عاملة تتفكك بضغط النظام و السفر للخارج. ثم أن عبد الناصر أنهي تقريبا وجود الرأسماليين الافراد. أما علي الجانب الفلاحي فلدينا بحر من الملكيات القزمية. الرأسمالي الاكبر و مالك الارض الاكبر هو الدولة و هي تبتعد عن التنمية و الحداثة ابتعاد الانسان عن الكلب الاجرب. الاستاذ أحمد صادق سعد في مقال يري أن التغيير سيأتي عن طريق الانتفاضات العفوية او التلقائية. لكن هذة لا تصنع استراتيجية لقد عرفنا انتفاضة 77 ثم انتفاضة الامن المركزي و حتي بعد تلاشي الحزب انتفاضة او ثورة 2011 و لا يبدو أننا اقتربنا من تغيير للنظام لصالح جماهير الشعب.
يجب أن نحسب هنا حساب طبقة المهمشين أو فقراء المدن. هذة الطبقة أو الشريحة واسعة جدا بل و تتسع و هي وراء انتفاضة 77 حتي ثورة يناير. المهمشين طبقة لا تحتفظ بعلاقة ثابتة بعملية الانتاج. فربما يكون هناك عملا في يوم و لا يوجد غدا ثم انها اعمال كيفا اتفق ليس نفس العمل دائما هي اوسع كثيرا مما يسمي جيش العمال الاحتياطي و بالطبع لدي هذة الشريحة نقمة هائلة ليس علي الرأسماليين بل علي المجتمع ككل. عام 1848 في ثورة الطبقة العاملة الاولي -في يونيو- كان هناك 200 الف عامل بالسلاح و معهم مثلهم من المهمشين. و نتيجة لوضعهم فتنظيمهم يكاد أن يكون مستحيلا بل حتي توظيفهم فهي طبقة لم تتعلم الانضباط في المصنع و لا حتي الحقل. و تقديري الشخصي أن الاستاذ احمد صادق سعد يغالي كثيرا في اعتقاده بها. غير انها طبقة قد تكون شديدة الفائدة إذا كانت هناك طبقة أخري تقود النضال مثل الطبقة العاملة أو حتي البرجوازية الصغيرة كما رأينا في ثورة يناير.
الخلاصة أن التغيير لن يأتي إلا علي مدي أبعد كثيرا. و هذا الاستنتاج يعني أهمية ضم أوسع طيف ممكن معا لبناء جبهة عريضة جدا حتي الناصريين أي علي العكس تماما مما كنا نفعل. كان هناك لدينا في حزب العمال وهم الثورة السريعة. السنا علي حق!! فيجب أن تنصاع لنا كل التطورات الاجتماعية و السياسية كنا حقيقة نعادي المادية التاريخية ألم نعتبر أنفسنا نمتلك الحقيقة المطلقة و أن الاخرين بهم كل العبر. ربما لو بنينا جبهة عريضة كنا تفادينا التلاشي. و هو نوع مختلف من النضال طبعا لا ينفع فيه "العباقرة". أن لم تخونني الذاكرة أظن أن مقال يتناول وحدة الشيوعيين قد صدر. لكنه مقال لا يتناول الاوضاع الاجتماعية مقال يركز علي "النقاء الثوري". لقد كنا سعداء بالاسم الذي أطلق علينا "الاسياخ" بمعني المتشددين. لكننا أهملنا أهم ما يميزنا و هو النضال و الكفاحية. فخارج اسوارنا كان هناك كثيرين لهم مثل هذة الصفات خاصة من بين شيوعيي الحلقة الثانية فهم ملتزمين بقضايا الشعب و أن كانت أفكارهم عنها مشوشة. يحضرني هنا أسم عطية الصيرفي. لكن ألا تعني الدعوة لجبهة عريضة بناء حزب تجمع أخر ؟! حزب التجمع رغم أسمه لا يمثل جبهة بل حزب واحد متعدد التيارات مع غلبة تيار معين. ثم أن حزب التجمع ليست الثورة علي جدول أعماله هذة فروق جوهرية. كنا نقول للشيوعيين من خارج حزبنا كما قال عبد الناصر للشيوعيين الذين طلبوا أن ينضموا ككتلة للاتحاد الاشتراكي. أولا وافقوا علي "خط" الحزب ثم ننظر في ضمكم له. الفارق أن عبد الناصر كان في السلطة حينذاك.
من الحركة الجماهيرية و اليها لم يكن حزبنا حزبا شيوعيا كما يوحي أسمه كان ببساطة أحد أفرازات الحركة الجماهيرية. كان جهازا لإدارة هذة الحركة بهذا القدر أو ذاك من النجاح. الشيوعية رداء واسع جدا عليه. و ما تعلمه من ذلك هو معاداة السلطة لكن كل المادية التاريخية لم تخطر بباله. و حينما أنتهت الحركة الجماهيرية و خاصة حينما تحول المجتمع للريعية و سافر العمال للخارج لدول البترول و غيرها و ظهر ما أسميته و غيري "الميوعة الطبقية" أو عدم التحدد الطبقي لم يتبقي لهذا الحزب من وظيفة تاريخية فكان لابد و أن يتلاشي.
الخطوة الاخيرة في حزب العمال هي الوحدة الاندماجية مع منظمة 8 يناير عام 1989. و لم تكن المنظمتين متباعدتين عن بعضهما طوال التاريخ فهذة الوحدة الاندماجية تقريبا تحصيل حاصل و ليست بداية لتشكيل جبهة يسارية واسعة لا سمح الله و لم اسمع عن أي توجة فكري او سياسي جديد و لا حتي تنظيمي كلاهما أمام قطار التلاشي المسرع احتضنا بعض لبرهة قصيرة.
أنا مضطر هنا أن أقول أمر شخصي لكنه يوضح كيفية عمل المركز و دوري فيه. حينما تم تصعيدي للجنة المركزية قابلت عاصفة من الترحيب و قيل لي الكثير عن الدور المنتظر مني. في نفس الوقت كان ردي عن سؤال ما هو رأيك في اللجنة المركزية قلت أنني شعرت بالصدمة. و كان مرجع هذا رؤيتي للكوادر الذين يشكلونها. لكن سرعان ما تغيرت الريح فما أن أبديت أعتراضي علي عدم أطلاع الحزب علي الحرب المرتبطة بشخص المسئول السياسي و رفضى الكامل لما سمي التقرير التنظيمي -تقرير الانحراف البيروقراطي- و رفضي أيضا لما سمي التقرير الجماهيري -الاثنين-حتي عقدت اللجنة المركزية أو من تبقي منها عمليا أجتماع وطردت منها و لما كانت اللائحة تتطلب أن يوافق عضو اللجنة المركزية علي قرار تهبيطه فقد قلت للزملاء أرفض قرار التهبيط لكنني سالتزم به يهمني جدا أن يكون رفاقي في لجنتي أيا كانت يقبلونني. بعد طردي من المركز لم أدعي لاي أجتماع تشاوري – و هو أمر تنظيمي بأعتباري أصبحت بعد التهبيط مرشحا للجنة المركزية - بل حتي لم يتم تحديد اللجنة التي يجب أن التزم بها. سمعت بعد ذلك شفهيا من أحد الرفاق أعتذار اللجنة المركزية علي أسلوب التعامل معي (فقد كان هناك حديث عن تهبيط عدد أخر لكن لم يحدث ذلك سوي معي أى مع العضو الوحيد المعترض) و لا اعتذار عن الفوضي الطاحنة التي عمت المركز و الحزب. و حتي قرار الوحدة مع 8 يناير لم استشر فيه. طبعا فكرت كثيرا أن أكتب لكنى لم يكن لي لا سكن و لا دخل يسمح بذلك. واذكر هنا أنني كتبت مقال "الحزب..الحزب" و يتناول كيفية البناء الحزبي وكذلك "الجبهة الشعبية" و يتناول هذا الموضوع و ذلك قبل ثورة يناير ربما في 2008 2009 و هي مقالات علي الحوار المتمدن. و قد تركت الحزب تماما عام 89 و طبعا لم تكن هناك جهة يمكن تقديم أستقالة لها.
- التاريخ الدقيق للتلاشي لا يمكن تحديدة فبينما تتبخر لجان ربما تنجح أخري في ضم أعضاء جدد و لقد سمعت عن عقد لقاء تشاوري ربما في 91 أو 92 و أحد الرفاق ذكر أن 2002 هو أخر تاريخ للتلاشي
- أعتز كثيرا بالعديد من الرفاق الذين تحملوا الكثير في سبيل قضية الطبقة العاملة كما أحتقر كثيرا رفاق أخرين لم يروا فيها سوي واجهة أجتماعية ملائمة في وقت ما.
النقد الذاتي. رغم هذا التاريخ من التحرك نحو التلاشي فلم أري و لو لمرة رفيقا أو رفيقة ينتقد نفسه أو يعرب عن أسفه علي العكس وجدت كثيرا من تبرئة الذات أو حتي الفخر الاجوف.
مارس 2124