عودة الدولة


حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 6097 - 2018 / 12 / 28 - 06:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

عودة الدولة
بدأت موجة العولمة الامبريالية في السبعينات كرد فعل علي الازمة الاقتصادية المستحدثة – الركود التضخمي – و خروج الولايات المتحدة من اتفاقية بريتون وودز. الرأسمالية عكس الاقطاع نظام عالمي منذ البداية. مر بمراجل متعددة مرحلة تجارية و استعمارية و امبريالية و العولمة. فالعولمة مرحلة نوعية جديدة في تطور الرأسمالية الامبريالية. توجة سياسي اقتصادي نشاء كرد فعل علي الازمة في نهاية مرحلة التراكم السريع التي اعقبت الحرب العالمية الثانية و في تبدل تركيب الطبقة الرأسمالية ذاتها . و اسبابها اقتصادية و سياسية متنوعة منها رخص القوة العاملة في الجنوب و حصار الاتحاد السوفييتي و التغلب علي قوة النقابات العمالية في الشمال و أزمة البترول عام 1973.
أطلقت العولمة شعارات من نوع حرية التجارة و حرية الاستثمار و تمثل تطبيقا لنظريات مليتون فريدمان علي مستوي العالم ككل . انطوت العولمة علي تناقض الدعوة لحرية التجارة أي حركة البضائع و حرية حركة رؤوس الاموال دون حرية حركة العنصر الثالث اي القوة العاملة. و بالتالي اصبحت العولمة تعني تخفيض الجمارك او إلغائها و الادماج الاقتصادي. و تطورت العولمة لحد أن البعض تنبيء بزوال الدولة القومية فعملية الإنتاج اصبحت عالمية أبعد من مستوي أن المراكز الرأسمالية تصدر السلع و دول الجنوب المواد الخام. و في الواقع فأن دولا قومية محددة استفادت من هذة الموجة خصوصا الولايات المتحدة التي تخلصت من أزمتها الطاحنة. و قد تحولت إلي بنك العالم بعدما كانت مصنعه. و يساهم رأس المال المالي باكثر من 40% من الناتج الأمريكي بينما تراجعت الصناعة لصالح قطاع الخدمات . توسع الاقراض بالدين أو الكريدت فالسلع و الخدمات تشتري ليس بالعمل المدخر بالامس لكن بوعد العمل غدا و كانت هذة هي الطريقة الوحيدة لخلق طلب بينما يتم تقليص الطبقة العاملة و في نفس الوقت ربطها بالديون . و هذا نفسه ما حصل علي مستوي الدول.
عام 1984 دخلت الاتفاقية العامة للجمارك و التجارة حيز الوجود المعروفة باسم الجات ثم تطورت الي منظمة التجارة العالمية WTO عام 1995. و هذة المنظمة تعطي نفسها حق إصدار قرارات فوق قومية. هكذا أصبحت العولمة متجسدة بثلاثة منظمات عالمية صندوق النقد الدولي و البنك الدولي و التجارة العالمية و تهيمن عليهم جميعا الولايات المتحدة. و تنامت القروض فاصبحت هناك "صناعة" القروض أو ما يسمي بالمشتقات المالية التي هي منتجات هذة الصناعة . و هذا الاقتصاد "الوهمي" او الافتراضي اصبحت قيمته الرقمية 60 ضعفا الاقتصاد الحقيقي و أن كان الاثنان متداخلان .بل حتي الشركات الصناعية العملاقة اقامت لنفسها فروعا مالية لتستفيد من تغول راس المال المالي.
لعبت ثورة الاتصالات و تكنولوجيا المعلومات دورا محوريا في ظهور و تطور العولمة مثل الدور الذي لعبته الآلة البخارية في ظهور الرأسمالية الصناعية. فانفجار الاقتصاد الوهمي لم يكن ممكنا بدونها.
و ظهرت نظريات تبرر العولمة منها أنه لا توجد دول قومية خارج أمريكا و أوروبا الغربية – هنري كسينجر- و منها ما سمي بصراع الحضارات – فوكوياما هانينجتون-فلا توجد دولا و انما ثقافات تواجة بعضها البعض بعد أن وصلنا لنهاية التاريخ و الانتصار الناجز للرأسمالية الليبرالية. ترتب علي ذلك انهيار القانون الدولي الذي وضع عقب الحرب العالمية الثانية و المبني علي السيادة القومية أو الوطنية.
بمعني اخر تجاوزت الرأسمالية أزمتها بالاقتراض من المستقبل. لذلك علي المستوي السياسي ظهرت فكرة أن السيادة الوطنية غير ذات معني فالدول كما الافراد ملتزمة أمام مقرضيها و ليس أمام خرافة "السيادة الوطنية" و أن علي كل الدول أن تخضع ل "المثل العليا" أي أشياء من نوع حقوق الإنسان و الديمقراطية كما يفهمها الإعلام الغربي. ادي هذا لظهور طبقة جديدة عالمية تحكم العالم . ليس مهما أن كنت هندي أو صيني أو مصري أو أو المهم هو الموقع الذي تشغله من عملية الانتاج التي أصبحت عالمية. و تبلورت "ثقافة" استهلاكية جديدة عالمية عزلت الثقافات المحلية .
و من مظاهر تراجع الدولة القومية تنامي دور المنظمات العابرة للقومية مثل التنظيم العالمي للإخوان و هيومن رايتس واتش و المئات غيرهم . تراجعت الشرعية القانونية المحلية لصاح شرعية جديدة مبهمة و غير محددة فأن كنت ايطالي مثلا لا يهم ما يقرره ممثلوك في البرلمان المهم ما يقوله البيروقراطيين في الاتحاد الأوروبي ! أو بورصات المال العالمية .
كان تفكك الاتحاد السوفييتي و دول المعسكر الاشتراكي حوالي عام 90 هو قمة انهيار الدولة القومية . القمة التالية هي غزو و احتلال العراق فمن الممكن الآن تدمير دولة بزريعة أن حاكمها ديكتاتور فلا تعني السيادة الوطنية شيئا أمام الهيمنة الإمبريالية التي تقدم باعتبارها تحررا.
بالنسبة لنا في المنطقة العربية عدا العراق كان "الربيع العربي" – الذي هو نفسه أحد افرازات الأزمة المالية العالمية - هو مدخلنا لتراجع الدولة القومية بل و تفككها سواء بفضل الانتفاضات الشعبية أو التدخل الامبريالي المباشر مثل ليبيا أو تدخل القوي الاقليمية مثل اليمن أو المنظمات الإرهابية من مختلف الانواع مثلا مصر أما سورية فنالها نصيب الأسد من كل الأنواع السابقة. و في حالتنا فأن تراجع الدولة ارتبط بتفككها أو غيابها بالجملة عكس ما حدث في دول الشمال.
استنفرت العولمة تظاهرات حاشدة من اليسار في اوروبا و امريكا و كذلك المنتدي الاجتماعي العالمي الذي عقد اول دوراته في مدينة بورتو اليجري بالبرازيل عام 2001 و هو المنتدي الذي اهتم بمواجهة العولمة الراسمالية و البحث في اسس عولمة شعبية مضادة.
لكن العولمة الرأسمالية أنهارت حينما ضربت الازمة المالية العالمية عام 2008 . و الأزمة هي نتاج مباشر للعولمة فقد حدثت بسبب الاقراض المفرط لسوق العقارات الامريكية ثم بناء الكثير من الادوات علي تلك الديون و بدأت مع إنهيار بنك ليمان برزرز الامريكي . ثم تمددت لأن اسواق كثيرة في العالم مرتبطة بالسوق الامريكي.
كنتيجة للازمة انتعشت الحركات الشعبوية القومية بل حتي النازية في اوروبا و أمريكا مثل براكزت البريطانية و ماري لوبان الفرنسية كما في اليونان وايطاليا و المانيا و السويد و حركات اخري كثيرة انجحها و اشهرها انتخاب رونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة . تستند للدعوة للعودة للصناعة و حماية المنتج المحلي و الابتعاد عن التجمعات الفوق قومية و الرجعية و العنصرية ضد الاجانب و التعصب. فالطبقات الشعبية هناك جنت الحصاد المر للازمة و أجبرت علي دفع ثمنها بتسديد ديون البنوك و خسرت دولة الرفاة التي ناضلت كثيرا من أجلها. هكذا ظهرت النازية أول مرة و أكتسبت شعبية كبيرة بعد أزمة 1929 فمن 20 سنة كان الشباب المائل لليسار يتظاهر في سياتل و ميامي و جنوا رفضا للعولمة تحول الامر لان رئيس الولايات المتحدة يصرح بانه قومي و معادي للعولمة !!.
كان أحد مظاهر العولمة تغييب اليسار و ميلاد يسار متعولم . فلم تعد قيم الاشتراكية و مفاهيم الصراع الطبقي تناسبه بل أصبح يبشر بالحداثة و حقوق الإنسان . لذلك حينما أنهارت العولمة لم يكن حاضرا كان الحاضر الوحيد هو اليمين الرجعي و أحيانا اليسار الشعبوي فاقد الهدف.