ديناميكات الصراع حول فلسطين


حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 7878 - 2024 / 2 / 5 - 00:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

منذ انطلاق انتفاضة طوفان الاقصي في غزة و دوامة من الصراعات و التناقضات تعصف بالمنطقة و تتوسع حتي شملت كل المنطقة تجر ورائها تقريبا كل دول العالم سواء علي مستوي العمل العسكري او النضال الجماهيري لايوجد في التاريخ حركة كتلك منذ حرب فيتنام. قبل الغوص في تفكيك هذا الصراع العالمي بحق لابد أولا من ازاحة مفاهيم خاطئة و احيانا معكوسة شاع استخدامها. مثلا ان الولايات المتحدة تدعم إسرائيل كل هذا الدعم بسبب النفوذ القوي للوبي الصهيوني فيها. الواقع هو العكس أي أن النفوذ الهائل للوبي الصهيوني في أمريكا هو أحد نتائج الدعم الامريكي لقاعدته الإسرائيلية في منطقتنا مما يعكس الاهمية المحورية للمنطقة في المواجهة الشاملة بين أمريكا و باقي العالم. يرتبط بذلك فكرة أن الرؤساء الامريكيين يتملقون اللوبي المذكور طمعا في أصوات الناخبين اليهود. لو كان هذا صحيحا لكان عليهم تملق المكسيك فالامريكان من أصل مكسيكي و لاتيني بشكل عام أكبر بما لا يقاس من اليهود. علاوة علي أن اليهود الامريكيين حسب استطلاعات الرأي منقسمين بين التأييد المطلق لإسرائيل و بين تأييد مبدأ حل الدولتين في فلسطين ناهيك عن اليهود الذين يعارضون بكل قوة إسرائيل و الصهيونية من منطلقات دينية بحتة. و لا يجب أن ننسي أن اليهود كانوا فئة مضطهدة في النصف الاول من القرن ال 20 لاسباب متعددة في الولايات المتحدة ذاتها. نستنتج من ذلك مباشرة أن عملية 7 أكتوبر تماثل من حيث النوعية الهجوم بمسيرة علي قاعدة التنف الامريكية مؤخرا فكلاهما هجوم علي قاعدة أمريكية بصرف النظر عن الاحجام. وضمن المفاهيم المغلوطة مفهوم العنصرية فهذة الصفة ليست حكرا علي أشخاص أو مجموعات بعينها مثلا نتنياهو أو هذا الشخص أو ذاك بل هو حالة تشمل كل إسرائيل مع الاعتراف بأن بعض أو حتي معظم الإسرائىلين ليسو كذلك. فحلول مجموعة بشرية مكان مجموعة أخري في نفس المساحة لابد أن تعني العنصرية. فالاوروبي الذي هاجر للعالم الجديد أمريكا بحثا عن أرض يزرعها ليس عنصريا بطبيعته لكنه بشكل ما شارك في إبادة سكان أمريكا الاصليين المعروفين بالهنود الحمر أحد أكبر و أفظع العمليات العنصرية في التاريخ مع الاعتراف بالمكانة الخاصة لقادة الاتجاه. يترتب علي ذلك إنكشاف المأزق الاستراتيجي التاريخي المحيط بإسرائيل. فكل الحالات التي أفرزت عنصرية علي مستوي الدولة تم حلها بالابادة كمثل امريكا و استراليا. لكن إسرائيل لم و لن يمكنها إبادة الفلسطينيين مهما فعلت و حرب غزة الآن أحد الادلة. فجوهر حربها علي غزة هو الابادة كما توصلت لذلك تقريبا محكمة العدل الدولية و المقاومة و الصمود و الدعم العربي و العالمي بما فيه الدعم العسكري يحول بينها و بين ذلك. بل أن في السبعينات ظهرت فكرة القنبلة الديموغرافية أي العدد الفلسطيني. بالاضافة أن عوامل مقاومة الابادة فلسطين تمتلك ناصية التاريخ لانها تسير في سياق التحرر الانساني و بالتالي تحكم طوق مأزق إسرائيل الاستراتيجي أكثر و أكثر.
نبحث مفهوم إشكالي أخر مفهوم القومية العربية و يتفرع منه أن الفلسطينين عربا مثلنا الخ. هذا مفهوم إشكالي جدا خاصة بالنسبة لفلسطين. الواقع هو وجود عددا كبيرا من القوميات العربية بتعدد الدول العربية. كان من المحتمل تاريخيا أن تظهر قومية واحدة تجمع كل هذة الشعوب أو قوميتين الشرق العربي و الغرب العربي. مثل هذا التطور المحتمل تاريخيا منذ كانت بغداد عاصمة الامبراطورية العربية الاسلامية. الاحتلال التركي العثماني المستند لدولة اقطاعية قطع الطريق علي هذا الاحتمال ثم الاستعمار الانجلو فرنسي رغم أن هذة المنطقة عرفت القومية منذ الاف السنين فيما بين الرافدين و مصر. علي كل حال نشأت قوميات متعددة من المغرب للسعودية مع تفاوت في النضج القومي. لكن هذة القوميات ترتبط معا بوشائج قومية لا تخطئها العين. أقرب مثال هو أوروبا في القرن ال 16 حينها كان الاوروبيين يعتبرون أنفسهم بشكل ما يشكلون وحدة واحدة حتي أن مارتن لوثر حينما بدأ ما سيصبح البروتستنتية لم ينشر احتجاجاته علي الكاثوليكية في بلده المانيا بل في هولاندا و بلده هذة نفسها كانت تفتقر لوحدة قومية وقتها. أما فلسطين فتحتفظ بوضع خاص في هذا الموزيك فلم تعتبر دولة الاحتلال العثماني فلسطين ولاية مستقلة بل تابعة مباشرة للصدر الاعظم نظرا لاهميتها الدينية و بذلك فقدت فلسطين فرصة التكون القومي المستقل. ثم لم يسمح مستوي التطور الاجتماعي لفلسطين بأن تتحول لقومية مستقلة حينما حانت الفرصة خاصة في ثورة 1936-1939. اليوم و فلسطين و نحن معها تواجه العدو الصهيوني نريد أن نركز علي فلسطينية فلسطين و ليس عروبتها. و الإسرائيلين يسمون الفلسطينيين عربا. و يقولون و بما هم كذلك و ارضهم شاسعة تمتد من المحيط للخليج فلما يزاحموننا في أرض الميعاد. و في هذا السياق لابد من ذكر القومية الاسلامية و "العالم الاسلامي" فنجد أن قومية عريقة -الفارسية- تختار الاسلامية كعنوان لها – لاسباب تتعلق بتطورات الثورة الايرانية 1979 - بل تصبح إيران المحرك الاكبر وراء كل أشكال المواجهات مع العدو الإسرائيلي-الامريكي !!. كما ان الدول الاسلامية متعاطفة مع غزة غير أن التباينات الكثيرة بين هذة الدول تمنع اطلاق مفهوم القومية الاسلامية الاهم أن القومية العربية لعبت حقا دورا تاريخيا تحرريا و تقدميا. و رغم تراجع القومية العربية منذ الستينات تظل مشروع ممكنا تاريخيا لكن ليس مع البرجوازيات العربية التابعة الحالية بل حتي قيام اتحاد عربي علي غرار الاتحاد الاوروبي غير ممكن. لكن لا يمكن استبعاد ذلك في سياق نهضة شعبية شاملة.
يتضح من التناول السابق أن هناك عنصر مضمر في كل مفهوم و هو الزمن. و الديناميكية تعني التغير في الزمن. و المظلة الاكبر في التحول عبر الزمن هي تراجع الوزن الامريكي عالميا و إنتهاء حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية و بروز قوي جديدة قديمة عالميا و أقليميا. من يصدق أن حركة حماس كانت مدعومة من إسرائيل عام 1987 في مواجهة فتح و الانتفاضة الاولي. بل من يصدق إنها كانت داعم "اكناف بيت المقدس" التي أصبحت ولاية سيناء الداعشية. اليوم تعرف حماس نفسها بأنها حركة تحرر وطني و هي كذلك بالفعل. هذا التغير الدراماتيكي و الذي جري ايضا مع جماعات عراقية يعني امرا واحدا و هو ان المقاومة هي حاجة شعبية اجتماعية ضاغطة تطوع كل نظام الحكم مثل الدين تماما.
و علي المستوي العسكري حدث تطور بالغ التأثير. انتشرت الصواريخ و الطائرات بدون طيار "المسيرات" بحيث أصبحت مجموعات افراد صغيرة يمكن أن يكون لها تأثير بعيد المدي. و من سخرية التاريخ أن إسرائيل كانت أول من طور أستخدام الطائرات دون طيار للاغراض العسكرية في السبعينات. و من سخرية التاريخ أيضا أن كوريا الشمالية طورت سلاحها الصاروخي انطلاقا من صاروخ سكود السوفييتي او ار-7 الذي تلقته من مصر عقب حرب 73 ثم عاونت إيران عقب الثورة في تطوير سلاحها الصاروخي الذي ظهر في حرب إيران – العراق و من ثم لايدي حزب الله و حماس و غيرهما. التطور علي المستوي العسكري جاء لصالح الانتفاضة المسلحة علي الاقل في جانب منه. لكن الديناميكية لها جانب سلبي أساسي فتحول كثير من الدول العربية للتطبيع و التنازل عن استقلال السوق المحلي و الاندماج في السوق العالمي الخ كلها علامات سلبية و رغم ذلك فهذا نفسه له معني ايجابي اي انفصال البرجوازية عن الكتلة الشعبية يبقي أن تقوم هذة القوي الشعبية المتعددة ببناء أممية عربية جديدة و لا شك أن الكفاح و الانتصار في غزة دافعا لمثل هذا التطور. لذا كنت أقول دائما أن قضية فلسطين هي قضية العرب المركزية بقدر ما أن التحرر العربي هو قضية فلسطين المركزية.