عمي


حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 4852 - 2015 / 6 / 30 - 22:36
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     

عمي

لا أكتب عن هذا الرجل و بالأحرى عنه و عن زوجته – التي كنت أناديها خالتي رغم أن لا قرابة بيننا – لأنه قريبي لكن لأنني شديد الإعجاب بشخصية هذين الزوجين و أظن أنهما حملا رسالة للناس جميعا.

ولد عمي في مطلع القرن و يبدو أنه كان ضعيفا جدا و قيل لجدي أن الطفل لن يعيش طويلا – و كان لهذا أعظم الأثر علي حياته – و رغم ذلك مات و هو 75 سنة . و حينما بلغ 12 عاما أحب جدي أن يستمتع أبنه قبل وفاته بالدنيا كما يقال فزوجه من طفلة عمرها 9 سنوات هذه هي خالتي . و سمعت أن الطفلين في صباحية الزواج وجدا قد قضيا الليل يلعبان الحجلة سويا و ناما علي الأرض تاركين فراش الزوجية . كان جدي أيضا قد أهمل تعليم أبنه الأكبر طالما أنه سيموت و عاش طفولته يلعب بل و يدخن السجائر رغم أن أخوه الأصغر منه مباشرة تعلم حتي الدكتوراه . لم أري عمي كثيرا و لم أعرف كثيرا من تفاصيل حياته إلا شذرات جمعتها من هنا و هناك لذا سأكتفي بما رأيته بعيني عنه و لن أذكر أيا من القصص الكثيرة التي سمعتها عنه رغم أنها تسير في نفس السياق الذي أعرفه.
و حينما كان عمي 16 سنة صنع له جدي عربة بحصان-كان جدي شغوفا بصنع المعدات - فأخذها الشاب الصغير و طاف القري و المراكز وراء الغواني و السيطة و المداحين و حفظ عنهم سيرة أبو ذيد الهلالي و غيرها كثير من الأدب الشعبي الشائع كانت حياة لاهية لا مبالية . ثم استأجر جدي لأبنه المحبوب محل بقالة فجمع أصدقاءه فيه و ليأكلوا ما في المحل و يدخنون السجائر حتي أفلس !!

حينما كنت 15 سنة أرسلني أبي من الإسكندرية حيث نعيش للقرية التي جاء منها أبي و التي مازال يعيش فيها عمي و كانت المرة الأولي التي أزورها. وصلتها ليلا و بت في دار عمي الهائل – و هو دار بناه جدي – و قبل الفجر أيقظني عمي و وجدت خالتي قد سخنت الماء فتوضأنا و ذهبنا الجامع القريب لنصلي الفجر . و عدنا فقال لي عمي لنغفو قليلا . ذهبت للغرفة المخصصة لي و نمت و صحيت علي الشمس و صوت غلبه كبيرة . يجب هنا أن أتوقف لأصف بيت عمي هذا. هو بيت ضخم المساحة يتكون من ضلعين بهما غرف ضخمة جدا من طابقين ثم سور هائل يشكل ضلعين أخرين بحيث يكتمل المربع.و تفتح كل الغرف في الطابق الأسفل علي ساحة ضخمة ترابية و لهذا السور بوابة ضخمة جدا يمكن أن تمر من خلالها سيارة نقل. و حينما استيقظت وجدت هذه الساحة تعج بالرجال و النساء و الأطفال و البهائم . نزلت مدهوشا فوجدت خالتي تقف وسط الساحة و تستقبلني بابتسامتها الواسعة و وجهها الأبيض و عينيها الرائقة التي تنظر مباشرة في عينيك . سألتها ما الذي يجري يا خالتي ؟ قالت و قد تحولت الابتسامة لضحكة هؤلاء هم جيراننا و أهلنا . قلت و لما جاؤوا هنا قالت أنهم يأتون كي يسقوا بهائمهم من طلمبتنا سألتها أكثر أليس لديهم طلمبة؟ فضحكت أكثر و قالت طلمبتنا ماءها حلو و قد اعتادوا أن يأتوا في الصباح قبل الذهاب للغيط حتي تشرب البهائم . قلت ملحا لكن كيف فتحوا البوابة الضخمة قالت أنا فتحتها لهم . أحسست أنني في عالم جديد و حبت أن تخفف أثر الصدمة علي فقالت لي هيا كي أعد لكما الفطور عمك سيستيقظ قريبا .

قبل أن استرسل يستحسن أن أصف هذه القرية الكبيرة. قريتنا قرية كبيرة في عدد السكان و قد دخلتها الكهرباء منذ وقت مبكر بل كان فيها سينما عام 1935 أي قبل كثير من العواصم العربية . و هي مشهورة بالنخيل و حلاوة البلح . و حينما أمم عبد الناصر صناعة الغزل كان فيها 20 ألف مغزل فهي قرية نشيطة مجدة و التعليم فيها أمر أساسي للبنين و البنات .

بعد الفطور أخذني عمي لحديقته و هي جزء من الساحة الكبيرة مقتطع بسور و صغيرة المساحة بباب خشبي صغير . حديقة عمي هذه هي جنته و فيها حبه الثاني بعد حبه لخالتي و هو العنب . كانت الحديقة بها كثير من أشجار العنب . و أخذ عمي جردل ماء صغير و ليفه و أخذ يمسح علي جزوع العنب و أوراقها المتشابكة كما لو أننا في غابة عنب و أخذ يشرح لي هذا عنب بناتي و هذا أحمر و ذاك أسود ثم قال لي أن العنب يحب أن يستحم مثل الإنسان و أضاف بل يجب أن تتكلم مع العنب فهو يسمع لكلامك !! و في زاوية من حديقته توجد شجيرات للورد . و هذه الشجيرات لها دور هام و هو أن عمي يصنع من جزوعها مباسم لسجائره. و قد كانت له طريقة خاصة في التدخين لم أري أحدا يتبعها . كان يلف سيجارته ثم يقسمها نصفين يضع نصف في علبة الدخان و النصف الأخر في المبسم ثم يدخنه لا أدري لما كان يفعل ذلك . و بعدها بسنوات حينما علم أنني أدخن أشتري لي علبة سجائر (ماكينة) و قال لي لا تقل لأبوك !! أما القسم الثالث من حديقة عمي ففيه عدد من أشجار الفواكه حيث يجري عمي تجاربه هذا مشمش علي تفاح و ذاك مانجو علي برتقال – لا أتذكر ماذا عن ماذا – رغم أن عمي أخذ يشرح لي خصائص كل شجرة و لما يمكن تلقيح هذه من هذه .

عدنا عمي و أنا كان الجيران قد انصرفوا و جلسنا نشرب الشاي و أذا بخالتي تدخل علينا و تقول لعمي أن فلانة عيانة . فقام عمي فورا و سألها عن حالتها ثم فتح دولابه الضخم فاكتشفت أن به ربما مئات الأنواع من الأعشاب و التوابل في علب صغيرة . أعد عمي وصفة و أوصي خالتي بطريقة الاستعمال و أخذتها خالتي للمريضة. و في ميعاد الغذاء قال لي عمي أذهب لخالتك في المطبخ و قل لها أين الغذاء . ذهبت لمطبخ خالتي و هو غرفة أخري ضخمة جدا و لدهشتي وجدت 6 نساء هناك . و نسيت سؤال عمي و قلت لخالتي هل تحضير أكل لثلاث أشخاص – هي و عمي و أنا – يحتاج ل 6 نساء ؟. مرة ثانية ضحكت خالتي بصفاء – و لم أراها إلا ضاحكة و عاملة – و قالت النساء يحبون أن يعملوا معا و نحن نعد طعام لأناس كثيرين جدا لجيراننا – يبدو أن كان لديهم احتفال ما -

لنتكلم قليلا عن خالتي كانت قصيرة القد نحيفة بيضاء الوجه و لها عينين ثاقبتين . و كان كل الناس يحبونها . و قد سمعت من عدد من أقرابنا أنها جعلت نصف بنات و أبناء القرية أخوة من الرضاع . لأنها كانت ترضع أي طفل تراه جائعا فلا عجب أنها كانت محبوبة.

و في الليل جاء بعض شباب العائلة كلهم أكبر مني بكثير و منهم متخرجين في كلية الزراعة فأخذ عمي يسألهم عن أمور زراعية و يضحك من إجاباتهم و يشرح لهم ثم طلبنا منه أن يعيد علينا سيرة أبو ذيد الهلالي و فعل .

في طريق عودتي بالقطار أخذت أفكر في كلمة عمي أن عليك أن تكلم العنب . كنت رغم صغر سني لا أتقبل الميتافيزيقا . لكنني قلت لنفسي أنت لم تزرع حتي بصلة و عمك زرع الأف من أشجار العنب فلا شك أن هناك تفسير علمي لما يقول لا تعرفه أنت و ربما و لا هو.ثم قلت لنفسي ما الذي يفعله عمي كيف يكسب قوته . صحيح أن حياته متواضعة جدا اقرب للفقر لكن لأبد له من مصدر للدخل فهو ليس فلاحا و لا يمتلك إلا قطعة تافهه من الأرض يؤجرها و لا غير .و لم أجد إجابة علي هذا السؤال. ثم سألت نفسي كيف تحول عمي من شاب لأهي غير مبالي لمثل هذه الشخصية و متي حدث تحول في حياته . للأسف أيضا لا أعرف جوابا . لكن هناك قصة أنه حينما كان عمي شابا انكسرت نخلة وسط ساحة الدار فأصر عمي علي علاجها . و بالفعل أقامها ثانية بجبيرة و وضع طمي حول الجزء المكسور و أخذ يراعيها حتي استعادت حيويتها و قد رأيت هذه النخلة و العقدة في منتصفها من أثار الكسر القديم بل و أكلت – بعد كل تلك السنوات – من بلحها. تصورت أن حبه للنباتات – و علي رأسها العنب – هو سبب تحوله و بعد ذلك بسنوات بدأت أفهم عمي فهو لا يفعل إلا ما يحب و لا يعيش إلا مع من يحب و لا يخضع لأي أغراء أو ربح فقط ما يحبه . و خالتي كانت هي حبه الأكبر و هو أيضا كان حبها الأكبر رغم العقود الطويلة التي أمضوها سويا.و أذكر أنه كان يرفض بشدة حينما يأتي ألينا وحيدا أن يبات – رغم إلحاحنا - و يضحك يقول لا أبات إلا مع خالتكم .و لم يكن عمي مع ذلك إنسانا مثاليا بل كان أحيانا يغضب و ينفعل و لا يستطيع أحد أن يزحزحه عن رأيه.

و بعد ذلك بسنوات أشتري أبي مزرعة و بني فيها بيتا و طلب من عمي أن يزرع له شجرة عنب – كان كل أهل العائلة يفعلون ذلك – و بالفعل زرع عمي شجرة عنب بجوار جدار البيت . و في العام التالي قالت لي أمي أننا نريد لشجرة العنب أن تصعد للدور الثاني و نبني تكعيبة كي تظللها و تكون مكانا لطيفا في الصيف . ذهبت بكل همة و اشتريت أخشاب و بنيت تكعيبة كبيرة و فردت عليها فروع العنب . و بعد شهر أو شهرين سألت أمي فخورا هل أعجبتك التكعيبة . قالت لقد سقطت . ذهبت فوجدت كمية هائلة من الفروع و الأوراق قد كسرت أخشابي و غطت كل شيء . في العام التالي حاولت مرة أخري لكن عنبه عمي غلبتني مرة أخري ساعتها قلت لنفسي كان يجب أن أكلمها و أقول لها أن ترأف بي لكنني لم أفعل .

و بعد سنوات في يوم رن التليفون في منزلنا و قيل أن عمكم مات . كان للخبر وقع الصاعقة علي الجميع و أسرعنا للقرية. حيث وجدنا المئات في الدار الضخم . و وجدنا مفاجأة سارة و هي أن عمي لم يمت . و مفاجأة كئيبة و هي أنه سيموت بعد أسبوعين كان في حالة أغماء – و قد ظنوه مات - لكن مرض السرطان أستشري في جسده و قدر الطبيب له أسبوع أو أثنين . مكث أقارب عمي و أصحابة معه في الأيام الأخيرة له علي الأرض . و بعضهم كان يذهب للعمل و يعود ثانية .أمضي عمي أخر أسبوعين من حياته وسط أصدقاءه و أقاربه و محبية و أذكر أنه الوحيد الذي كان يضحك وقتها . ذهبت لغرفة خالتي وجدتها جالسة علي فراشها و حولها النساء يبكين بصمت و لأول مرة أرها لا تفعل شيئا و لا تبتسم بل ربما لم تشعر بي و أنا أقبل رأسها . و عدت لغرفة عمي فوجدت أبنه الأكبر في زاوية يبكي وحدة – و هو صديق عزيز – ذهبت له لأواسيه فقال أنني لا أبكي عليه أنني أبكي عليها . و مات عمي وسط أهله و الناس الذين أحبهم . و بعد 3 شهور لحقت به خالتي.

و اليوم أفهم ما الذي كان يفعله عمي .كان نوعا من خبير زراعي شعبي ينصح الفلاحين بما يفعلون في أرضهم متي يزرعون و الماء و يساعدهم في الأمور المعقدة و هم يمدونه بما تيسر. حول عمي و خالتي الدار الكبيرة لمركز لخدمة القرية لذا فلا عجب أن أحبهما الناس كل هذا الحب
و منذ كنت شابا صغيرا و أنا أشتراكي . و حينما أفكر في عمي و خالتي أجد أنهما كانا اشتراكيين أيضا و أن لم يعرفا ذلك و لم يقولاه كانا اشتراكيين بالسليقة و قد عرفت كثيرين من الاشتراكيين و كثيرا منهم ليس فيهم نصف اشتراكيتهم.
حسن خليل
30 يونيو 2015