العالم الجديد


حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 4931 - 2015 / 9 / 20 - 16:09
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

العالم الجديد


في المستقبل سيذكر التاريخ أن الاضطرابات التي شهدها العالم في العقد الأول من القرن الواحد و العشرين كان دافعها الرئيسي الأزمة المالية العالمية عام 2008 . الأزمة الرأسمالية التي أخذت طابع الكارثة الكونية. فمن الربيع العربي للانتفاضات الجماهيرية من البرازيل لكوريا الجنوبية و من الولايات المتحدة لأوكرانيا و من صعود كل من اليسار و الجماعات الفاشية و من هيمنة الإرهاب علي وسط العالم كلها تعود في النهاية لهذه الكارثة الكبري. كارثة الرأسمالية التي تبدو مثل كارثة طبيعية عصيه علي الفهم و التحليل و التنبؤ و المقاومة. و كما الكوارث الطبيعية التي تعيد تشكيل الكرة الأرضية فأن كارثة الرأسمالية ستعيد تشكيل العالم اجتماعيا و اقتصاديا و فكريا.نحن نري عالما جديدا يولد من قلب ذلك القديم المتهالك.

و قد مر العالم في القرن العشرين بمثل هذه الكوارث الرأسمالية. فالحرب العالمية الأولي خلقت العالم ثنائي القطب و أبرزت الاشتراكية كما أبرزت الفاشية و النازية و في الكارثة التالية التي كانت قمتها الحرب العالمية الثانية ولدت دولة الرفاهية و الأمم المتحدة و سيل من المنظومات الفكرية الجديدة و سرعان ما لحق بها حركة التحرر الوطني . ولدت عوالم جديدة من رحم تلك القديمة.

عالم الحرب العالمية الثانية شاخ و تهالك منذ السبعينات ثم مات تماما مع انهيار الاتحاد السوفييتي. و ليس أدل علي ذلك من النظر ل "حكومة العالم" الخمسة "الكبار" في مجلس الأمن الدولي. فالهند و اليابان خارج المجلس بينما هما أكبر من فرنسا و انجلترا داخل المجلس . و ألمانيا القوة المحركة في أوروبا أيضا خارجه. و دول الاوبيك التي تتحكم في مصادر الطاقة أيضا ليست فيه . فالأب الذي أعتاد أن يحكم البيت كبرت بناته و أبنائه و أصبحوا أكثرة قدرة و حركة منه. لكن للأسف لا يستطيع الأبناء الانتقال لبيت جديد فليس لدينا سوي كرة أرضية واحدة. لذا ظهرت حكومات عالمية موازية مجموعة ال 7 ثم ال 8 و مجموعة ال 20 و أخيرا مجموعة البريكس. فعالم الحرب العالمية الثانية لم ينهار مثل عالم الحرب العالمية الأولي بل تفسخ و تهالك دون أن تكون هناك طاقة كافية لإسقاطه تماما و بناء عالم جديد بفضل قوة القنبلة النووية. التي هي أيضا من مفردات عالم الحرب العالمية الثانية.

و العالم الجديد الذي ولد من الحربين العالميتين ولد في قلب الحضارة الإنسانية في أوروبا و أمريكا بينما عالمنا الجديد الذي يولد اليوم يخرج من أطراف الحضارة من الربيع العربي و جنوب أوروبا و جنوب شرق أسيا و أمريكا اللاتينية. لذا فولادته متعثرة و مرتبكة و تتقدم و تتراجع و يتشابك فيها عناصر من القديم الذي يوغل في القدم و الجديد المنفتح علي منتجات العلوم الحديثة. و الدولة القومية تتراجع أما لصالح العولمة الرأسمالية أو لصالح العشائرية و الطائفية مع قليل من العولمة الشعبية.

و علي مستوي العلوم الطبيعية شهدنا طوال القرن العشرين تطورا مضطردا و متوالية هندسية لأتساع العلم . و استطاع العلم دائما أن يقدم إجابات لاحتياجات الإنسان . ثم ظهرت ثورة الاتصالات التي كانت أساس العولمة الرأسمالية من حيث الأساس و لكن أيضا أساسا للعولمة الشعبية. لكن الأهم هو أنها فتحت الباب لانفجار علمي في كل المجالات فمن النانو تكنولوجي و تركيب مواد جديدة لم يعرفها البشر أبدا إلي التدخل الجزئي في بناء الخلايا و حتي "تصنيع" كائنات جديدة و اكتشافات مذهله في الفضاء فقد أصبح للإنسان وجودا دائما خارج الأرض و حتي تقديم نظرية موحدة للفيزياء "نظرية الأوتار" . كان التقدم العلمي – التكنولوجي دائما مقدمة ضرورية لذياده درجة حرية الإنسان. لكن ذياده الحرية الفعلية التي يفتح العلم لها الباب ترتكز علي تطوير البنيان الاجتماعي. فما يقدمه العلم لا يمكننا أن نحققه إلا في المجال الاجتماعي. و لذا فأننا اليوم أمام الانفجار العلمي نواجه بؤس بنياننا الاجتماعي فيما يماثل فضيحة اجتماعية عالمية.

ثم صراع الأجيال. عالم الحرب العالمية الأولي بني علي أساس فكري و اجتماعي طويل سابق عليها. و لذا فأن من استخرجوا هذا العالم من العالم السابق عليه كانوا شبابا تدربوا فيما قبل الحرب . و هكذا فأن عالم الحرب العالمية الثانية تدرب قادته فيما سبقه . بينما أحد مظاهر تفسخ عالمنا الحالي أن شبابه و هم يتمردون عليه لا يملكون خبره فكرية تنظيمية تسمح لهم بتصدر المشهد بينما شيوخه كبروا في ظل التفسخ فلم يمكنهم أن يقدموا رؤية جديدة. لذا يبدو كما لو أننا نواجه صراع محتدم بين الشباب و الشيوخ. صراع يبلغ من الحده أن هؤلاء الشباب لا يتكلمون لغة الشيوخ و العكس . و هي بالمناسبة ليست ظاهرة قاصرة علي اللغات العربية.

و نظم الحكم كذلك تفسخت . فالبرلمانية التمثيلية التي رفعت لمستوي القاعدة أتضحت حقيقتها المزيفة أمام شعوب العالم حتي أن حركة احتلوا وول ستريت كان شعارها نريد الديمقراطية. فالتمثيلية في ظل إنقسام المجتمع بين من يملكون و من لا يملكون أتضحت حقيقتها كغطاء لديكتاتورية الأسياد و العبيد. و لكن في نفس الوقت فأن ما يسمي الديمقراطية التشاركية ما تزال دون معالم محددة رغم ما تعد به . أما الاشتراكية فما تزال لم تحل قضية كيفية الحفاظ علي سيطرة الطبقات الكادحة و في نفس الوقت ضمان التعددية السياسية. و من ناحية أخري فأن الأحزاب السياسية فقدت مكانتها و أصبحت مؤسسات ضمن نفس نظام الدولة التي يجب التمرد عليها بينما الحركات لم تنضج بعد شكلا و تنظيما و فكرا كي تمثل بديلا لها.

يحمل العالم الجديد قضايا أصبحت محورية بينما لم تكن أبدا علي هذا المستوي من قبل . فالتدهور البيئي الشاهد علي الفوضي الرأسمالية أصبح خطرا يهدد البشر و الكوكب ككل. و ارتفاع درجات الحرارة و ذوان القطب و ارتفاع مستوي مياه البحر و ما يرافقها من ظواهر طبيعية عملاقة و تبدل الدورات الاعتيادية للمناخ كلها تهدد العالم ككل و لا يمكن مواجهتها إلا بمواقف عالمية بينما نحن أمام انقسام عالمي غير مسبوق.

أما اليسار في العالم فهو وسط هذه الدوامة. فبينما تفتح له الأزمة طريقا جديدا نراه خصوصا في الانتخابات فأنه يبدو كمن يسير في حقل ألغام. فراية الاشتراكية لم تكن أبدا غائمة كما هي اليوم فالاشتراكية اختلطت بالاستبداد السياسي و كانت قناع لرأسمالية الدولة . ناهيك عن أن اليسار أبعد ما يكون عن أن يمتلك تحالفا قويا يمكنه أن يغير المجتمع تغييرا جذريا و لا يمكننا أن نفترض أن عالم الرأسمالية المتهاوي سيترك أي تجربة اشتراكية لحالها . و في هذه الشروط فاليسار يفتقد لتعريف واضح حول معاني الإصلاحية و الثورة التي طالما كانت موجها للرواد السابقين. و دعوة اليسار لكل من الديمقراطية التشاركية و الديمقراطية الشعبية كتعويض عن عدم القدرة علي طرح الاشتراكية صراحة هي دعوة ليست واضحة المعالم هي الأخري . و علي مستوي التنظيم و العمل الجماهيري الذين كانا المجالات التي برع فيها اليسار نري إشكاليات جديدة خصوصا تجاه ما يسمي منظمات المجتمع المدني و التمويل الأجنبي الخ.

أننا في خضم ميلاد لعالم جديد و لكنه ميلاد متعثر وسط رائحة الموت للعالم القديم الذي تعفن.