من بلفور إلى ترامب: المواجهة هي الرد


حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 5734 - 2017 / 12 / 21 - 10:25
المحور: القضية الفلسطينية     



يشكّل اعتراف ترامب بالقدس عاصمة للكيان المحتل وطلبه نقل سفارة بلاده إليها، حدثاً سياسياً لا يمكن المرور عليه بسهولة. فالمسألة هنا، لا تستهدف طبيعة المدينة أو رمزيتها أو موقعها في الوجدان الإنساني بشكل عام والعربي بشكل خاص، وإنما يتعداه إلى القرار بطبيعته السياسية، وما هو مخطط لفلسطين وقضيتها. من دون أدنى شك، يستهدف القرار، وبالدرجة الأولى، شطب تاريخ كل الشعوب التي ناضلت من أجل الحرية والتحرر من الظلم والتبعية، وهذا مسار لطالما دأبت الولايات المتحدة العمل عليه منذ الانهيارات الكبرى في بداية التسعينيات، والتبدّل الذي حصل في طبيعة الصراعات ببعديها الفكري - السياسي وبأهدافها.

واستكمالاً، تؤكد الولايات المتحدة الأميركية المؤكد، بانحيازها إلى الكيان المحتل بطبيعته ووظيفته ودوره في المنطقة، والذي يشكل جزءاً أساسياً من تركيبة المشروع الاستعماري بشقّيه السياسي والاقتصادي الذي تقوده، سواء كان بالمباشر أو بواسطة أدواتها، من دول ومجموعات وكيانات طائفية ومذهبية، تستفيد منها موضوعياً وتوظّفها خدمةً لمشروعها في «وضع اليد» على العالم وقيادته وفق مصالحها وأهدافها. سلوك مارسته كل الإدارات الأميركية المتلاحقة، منذ ما قبل بداية القرن الحالي وإلى يومنا هذا.
كما يعكس القرار، حقيقة موقف الولايات المتحدة من قضية فلسطين، فهي في هذا المجال، ليست عدوة فلسطين وقضيتها وحسب، وإنما عدوة كل الشعوب الرافضة لمنطق الهيمنة وسلوكياته، التي ما انفكت «إمبراطورية الشر» تمارسه على مساحة الكرة الأرضية، مسخّرة كل الوسائل والإمكانيات المتاحة، بالإضافة إلى المؤسسات الدولية، لخدمة تنفيذ برنامج هيمنتها المطلقة على العالم وبكل مقدراته؛ بهذا المعنى، هي هنا «رأس الإرهاب العالمي»، الذي يُوجب على كل متضرر منه مقاومته، وبكل الوسائل المطلوبة لذلك. وتؤكد مرة جديدة في قرارها هذا، والذي يُعدّ بمثابة عدوان على كل الشعوب العربية، موقعها الدائم إلى جانب المعتدين، وهذا طبيعي فهي أول من رعى الإرهاب، وموّل الحروب، وسلب الخيرات وأفقر الشعوب، وضرب بعرض الحائط المواثيق الدولية والقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن وتسخيرها لمصالحها ومصالح الكثير من القوى الاستعمارية السابقة، لتصفية كل القضايا العادلة، وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية، وبتغطية من أنظمة لم تكف يوماً عن التفريط، ليس بمصالح شعوبها وثرواتها فحسب، وإنما بكل القضايا والقيم الانسانية، ومستفيدة أيضاً من أحادية عالمية واضحة نتيجة انهيار الاتحاد السوفياتي.
هذا الواقع يستوجب، من كل القوى الرافضة لأمر الواقع هذا، العمل لتغيير جذري في نمط ونوعية المقاربات الواجب اتخاذها والعمل بها. فالقضية الفلسطينية هي قضية جامعة بطبيعتها، وهي قضية تهمّ الجميع، أي تتعدى الكيانية الفلسطينية إلى الحالة العالمية، وبهذا المعنى أيضاً، هي أشمل، ويجب التعامل معها ومع مستجداتها على هذا الأساس. وعليه، لا يمكن مقاربة ما يتعلق بها ومناقشته - المرتبطان بالتطورات الأخيرة، أو ما سيليها مستقبلاً - لا حصرهما بالجانب الفلسطيني باعتباره صاحب حق حصري ومباشر، وإنما بكل القوى التي تناصب الإمبريالية والرجعية والاستعمار، العداء، باعتبارها صاحبة حق، ويجب عليهم الانخراط الجديّ في إنتاج برامج المواجهة وتنفيذها.
إن إغفال القضية الفلسطينية طويلاً وغيابها عن الساحة كقضية جامعة، منذ اتفاقات أوسلو حتى اليوم، وتشريع حالة الانقسام على الساحة الفلسطينية ساهمت بشكل كبير في وضع «عدالة» تلك القضية وأحقيتها وشموليتها في إطار المحدودية الفئوية، من القوى الفلسطينية بالأساس، ومن قوى «المواجهة» استكمالاً. لقد تجسّد الغياب الكلي للقضية في السنوات السبع المنصرمة، وضاعت ما بين خنادق الحروب المتكاثرة في «بلدان الطوق»، والنقاش العقيم في شرعية «سلطة» تقوم على جغرافيا منفصلة ومجزأة، ومحاطة بكيان الاحتلال وإجراءاته العدوانية-العنصرية.
اليوم، وإن بدت بعض قوى محور «الطوق» بفلسطين تشعر ببداية انتصاراتها في الحرب ضد سوريا والعراق، واستكمالاً فلسطين، فعليها أن تتابع وتضع استراتيجية مواجهة جديدة: فإذا كانت كل تلك الحروب التي خيضت ضد سوريا والعراق هي صنيعة الامبريالية والصهيونية والرجعية ومدعومة منها، وحيث أن حدود المواجهة اليوم، أصبحت بجزء كبير منها متاخمةً لحدود فلسطين المحتلة، فلتُستكمل تلك المواجهة ولتفتح الجبهات؛ هي فرصة تاريخية، يمكن أن تجمع قوى عديدة ومتنوعة في طبيعتها ومقارباتها، وهي فرصة أيضاً لإنهاء مفاعيل العدوان الغربي، الذي بدأ منذ قرن مع «وعد بلفور» المشؤوم، ويستمر اليوم مع «وعد ترامب». هي مئة عام من الضياع والانقسام والدماء والضحايا والشهداء والتشريد واللجوء عاشتها شعوبنا العربية، وبالتحديد في فلسطين ولبنان وسوريا والأردن، على أمل التحرير والعودة، لكن كلما بعدت السنين بَعُد حلم فلسطين أكثر. هذا الواقع يستوجب إعادة النظر في ماهية وكيفية المواجهة للعودة بالقضية إلى أساسها كقضية تحرر وطني.
المواجهة الشاملة لا تعني المعركة المتماثلة، وإنما تعني بجوهرها، العمل في كل الساحات وحول كل القضايا، وإن اختلفت الوسائل. فلتكن قضية الأساس - فلسطين، سبباً لإعادة بوصلة الصراع إلى مكانه وطبيعته الاصلية: قضية فلسطين، ليست قضية أرض انتُزعت من أصحابها أو شعب شُرّد في بقاع الأرض فقط، هي قبل كل هذا وذاك، قضية مشروع استعماري بدأ منذ قرن، هدفه السيطرة والهيمنة على المنطقة وقهر شعوبها، وما الكيان المصطنع في فلسطين اليوم بوظيفته، إلّا شكلاً متقدماً من الفاشية العنصرية وموقعاً متقدماً للعدوان. على هذا الأساس تصبح مقاومتُه مقاوَمَة نمط الهيمنة بذاته والذي ما انفكت الولايات المتحدة تمارسه، وبأبشع صوره ووسائله. وهذا يدفع باتجاه أن تتعدى موجبات مواجهته وتتنوع لتشمل كل من يؤمن بالعدالة والحرية والتقدم في المنطقة والعالم.
إن هذه المرحلة تتطلب التأسيس على المستجدات الحالية بكل تجلياتها، السلبية منها والإيجابية، لإنتاج «مشروع مواجهة»، تستطيع من خلاله قوى المقاومة، الفلسطينية والعربية، إعادة تصويب الصراع وردّه إلى ساحة فلسطين، حيث الوجهة واضحة والعدو محدد، من خلال تأكيده على:
ــ إن القدس عربية، وهي عاصمة دولة فلسطين، وعاصمة كل ثوار العالم، وواجب تحريرها وكل فلسطين هي مهمة مطلوبة وضرورية، ولا يمكن شطب التاريخ والجغرافيا بقلم «بلفور العصر» وسياساته الرعناء. وأن لا فرق بين مدينة ومدينة في فلسطين المحتلة، فسواء كانت عاصمة الكيان المحتل هي تل الربيع أو غزة أو رام الله أو القدس، فالوضع سيان؛ فكل فلسطين تحت الاحتلال، وأي تبديل، في طبيعة المدن ووظيفتها، يقوم به الاحتلال، هو واحد والنتيجة واحدة.
ــ إن التصرف الأميركي بهذه الطريقة، أي بإعطاء نفسه الحق بنزع الشرعية عن هذا أو ذاك، أو بتثبيت حقيقة أو إسباغ صبغة رسمية لهذا الكيان، يُعتبر بمثابة اعتداء سافر، فلا شرعية تُعطى لاحتلال مهما كان ومهما علا شأن من يعطيها. هذه ثابتة، وكل ما عداها هو في إطار التعدي على التاريخ والجغرافيا، والمطلوب مواجهتها، ليس بالتمنيات وبيانات الاستنكار والشجب بل بالمقاومة، وبمختلف أنواعها ووسائلها.
ــ آن الأوان لوقف «البلطجة» التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية وأدواتها في العالم، وهي مهمة آنية وضرورية، ما يستوجب من كل قوى اليسار العالمي التحرك في هذا الاتجاه، مع كل المتضررين، سواء كانوا دولاً أو أحزاباً...
على الحركة الوطنية الفلسطينية التركيز على خيار المقاومة كأساس للوحدة الوطنية الفلسطينية - وليس المشاركة في الحلول الجزئية التي لا تلبي إلّا المطالب الإسرائيلية - وإلى تصعيد الكفاح المسلح الفعال بمشاركة كل القوى المؤمنة بهذا الخيار، وإلى هبة شعبية رافضة تعمّ كل فلسطين التاريخية وكل ساحات العالم العربي، لتشكل أساساً لمقاومة شعبية تعبّر عن مشروعها ورؤيتها بالتصدي للمشاريع الأميركية والصهيونية والرجعية العربية في وجه سلطة الاحتلال، تأكيداً لإقامة الدولة الفلسطينية العلمانية على كامل التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها القدس.
ــ دعوة كل القوى اليسارية والوطنية والقومية العربية والقوى الحريصة إلى أوسع تحرك رفضاً للسياسة الأميركية الجائرة والمستبدة، وإلى الضغط على الحكومات لقطع العلاقات الدبلوماسية وإغلاق سفارات دولة الإرهاب الأولى في العالم وطرد سفرائها من كل العواصم العربية، وإلى التظاهر والتحرك الشعبي أمام السفارات والمصالح الأميركية في كل مكان.
ــ الطلب من السلطة الفلسطينية بالخروج من اتفاقيات أوسلو، والتي لم تجن منها إلّا التنازلات. ووقف كل أشكال التعاون مع سلطات الاحتلال وتحديداً التعاون الأمني.
ــ الطلب من الدولة اللبنانية تطوير الموقف الرسمي الذي عُبّر عنه في اجتماع جامعة الدول العربية واستكماله بوقف كل برامج التعاون مع الولايات المتحدة الأميركية، وتحديداً مع الجيش اللبناني.
ــ التأكيد على «راهنية» شعار المقاومة الشاملة بالسياسة والاقتصاد والاجتماع وبالكفاح المسلح خياراً وحيداً، لا يفهم الكيان الصهيوني وراعيته الولايات المتحدة الأميركية وأنظمة الخيانة إلّا به، ولتصويب بوصلة الصراع في المنطقة بالاتجاه الصحيح، بعد فشل كل الاتفاقات المنفردة، وانكشاف مشاريع صوغ شرق أوسط جديد، على حساب مصالح شعوبنا العربية، ما يستوجب الدعوة لتوحيد كل القوى الوطنية العربية بجميع فصائلها حول ذلك الخيار.
هي دعوة، فهل يخرج الوعي العربي من تموضعاته المختلفة ليسير في موكب فلسطين انتصاراً لها ولقضيتها؟ سؤال ستتكفل الساحات العربية بالجواب عنه.

* عضو المكتب السياسي ومسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني