بين الاستشراق و الشرق


مازن كم الماز
الحوار المتمدن - العدد: 6324 - 2019 / 8 / 18 - 11:38
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم     

في الاستشراق يتحدث سعيد عن نقطة واحدة فقط , أنه على الغرب أن يفهمنا بشكل صحيح و أن يتعاطف معنا بشكل إنساني .. لا يتحدث سعيد عنا أبدا , إلا طبعا كبشر نساوي سادة العالم في الغرب , دون أن يحتاج ليقدم أية حجة أو مبرر عن كل فرضياته تلك و لا حتى ليحتاج إلى القول بأن البشر هم سواء فعلا .. لكن , بالفعل , لماذا على الغرب أن يكون موضوعيا معنا بالذات , لماذا على الغرب أن يفهم الإسلام و يدرسه دراسة و فهما موضوعيين و يتيح المنابر فقط لأولئك الذين يعرفونه كما نريد نحن لهم أن يعرفوه لا لمن يتحدث باسم مصالحهم أو الذين قد يكرهوننا أو يحتقروننا , لماذا على البشر أن يكونوا موضوعيين تجاه بعضهم , بل تجاه أغراب عنهم … هل نحن , أو سعيد نفسه , موضوعيون تجاه الغرب أو تجاه كل البشر على هذه الأرض , تجاه الزنوج أنفسهم أو تجاه زنوجنا نحن : الأكراد و الأمازيغ و الأقباط , أو تجاه هنودنا الحمر : الأرمن و الآشوريون , البنغال و الهندوس بالنسبة لإخوتنا في باكستان و أهل تيمور الشرقية بالنسبة لإخوتنا الإندونيسيين , هذا ما لا يحتاج سعيد و لا أيا منا للإجابة عنه أو للالتزام به , إنه و نحن معه لا ننطق و لو بحرف عن أية موضوعية نفرضها على أنفسنا لا تجاه الغرب و لا تجاه أي بشر آخرين … مثلا عندما يطالب إخوتنا الفلسطينيين يهوديا أو أمريكيا أن يعترض على جرائم دولته أو جماعته ( قبيلته , عشيرته , قطيعه ) بحقهم هم يفترض أن يعني هذا أنهم هم أيضا سيعترضون على مثل ذلك إذا صدر عن واحد من قبيلتهم , جماعتهم , عشيرتهم بحق شعب أو جماعة أخرى .. عندما تسمع إخوتنا الفلسطينيين يهيء لك أنهم بمجرد أن يسمعوا عن احتلال جماعة من الغرباء لأرض ليست لهم و طردهم لأصحابها الأصليين فإنهم سينضمون فورا للدفاع عن هذه الأرض و عن أصحابها .. حقا , ترى ماذا قالوا يومها عن حلبجة , الأنفال , عفرين , حماة , النجف , كربلاء , تيمور الشرقية , جرائم الباكستانيين بحق البنغال .. عندما يلوم أحرار السنة في سوريا آدونيس مثلا على عدم وقوفه ضد طائفته العلوية و جرائمها ضد أهلهم السنة فهذا يفترض أن يعني أنهم هم أيضا مستعدون للاعتراض عن جرائم إخوتهم في عفرين و الساحل و عدرا و عن التهجير القسري في ادلب و رقة داعش .. للأسف نحن لا نكذب على الآخرين بقدر ما نكذب على أنفسنا , نحن في الواقع عراة أمام الآخرين كما أمام أنفسنا بالطبع , إن كلامنا مثير للسخرية أكثر مما هو مثير للشفقة , و عجزنا و عرينا مكشوفين أمام العالم , النخبة الليبرالية وحدها تستمع لنا و تصدق بعض ما نقول و تبتلع الباقي خوفا من تقدم أولئك الذين يزداد كرههم لنا يوما بعد يوم .. لم يناقش سعيد أبدا الفرضيات التي بنى عليها كتابه , التي هي في الواقع مقدمات غربية , غريبة عنا , جزء مما نرفضه و نسعى إلى تجريمه و تحريمه و القضاء عليه إن استطعنا إلى ذلك سبيلا .. إننا نحقد على الغرب و نحسده في نفس الوقت لأننا لا نستطيع أن نصير مثله , إننا ننفث الكراهية في كل دقيقة ضد سادتنا و عبيدنا في نفس الوقت , لا أعرف إلى أية درجة نحلم بإبادتهم جميعا لكن هذه الفانتازيا قد وجدت في إهلاسات محمد و تلامذته منذ زمن و يرددها أكثرنا كل يوم جمعة و آخرون كل دقيقة تقريبا و نجترها بأشكال مختلفة إسلاميين و ليبراليين و قوميين و ماركسيين , إن قصائدنا في الحقد و الكره ليست فقط قمة في البلاغة بل أيضا قمة في الانحطاط , كنا قد حملنا معنا طويلا حلم الأبوكاليبوس و هرمجدون و ذبح العجل المقدس و تعذيب كل خصومنا إلى الأبد دون أية رحمة أما اليوم فقد أصبحنا أنبياء هرمجدون الكبرى , الأبوكاليبوس , ليس فقط بسبب كآبة محمد أو عجز ابن تيمية الجنسي , بل لأننا أمام مهمة انتحارية في الواقع لا حل لها إلا بموت جماعي … لكن كي لا أفهم خطأ فإني لا أنتقد أحدا هنا و لا أرغب في تغيير أي شيء في هذا العالم أو أن أعيش في عالم آخر أو في زمان آخر و لا أتألم من كل هذا الهراء عن كراهية الآخر الممتزج بمازوخية الضحايا و لا من مشاهد الرؤوس المقطوعة أو الأشلاء المحترقة و لا هستيريا القطيع أو عربدة القتلة .. إن بارانويا الضحية و جنون كراهية الآخر و تكفير الإنسان و انتهاكه حتى ذبحه و سحله هي كالموسيقا العذبة على أذني , يا لها من فرجة بل يا لها من متعة , يا له من حظ استثنائي أن تشاهد كل ذلك , حتى أفخم استدويوهات هوليود أو ما كان قد يكون لم تكن لتنتج فيلم رعب رائع عن نهاية العالم كهذا .. يشعرني غثاء القطيع و عواء كلاب الرعاة بالنشوة و صرخات القتلة و القتلى الحقيقية أو المتخيلة تبعث في نفسي الفخر و سرورا لا يوصف , بل إنه الشيء الوحيد الذي يبعث على المتعة في هذا العالم بعد أن فقدنا كل أحلامنا أو أوهامنا و وقفنا عراة أمام أنفسنا و نحن في قمة فهمنا لحقيقة تفاهتنا و تفاهة أحلامنا و تفاهة وجودنا في هذا العالم , لا أجمل من هذا المنظر و من هذا الشعور , أنكم تسيرون مباشرة إلى هناك , حيث ينتظرنا عدم لا نهاية له , المجد للجنون , المجد للهستيريا , المجد للموت و تقطيع الأوصال , المجد للقتلة الذين لا يرحمون طفلا و لا شيخا و لا امرأة , إنها ليست قيامة جديدة للبرابرة , إنها ليست عاصفة جديدة من الدماء و الأشلاء و الصرخات المرعبة و صهيل خيول الغزاة التي تجتاح العالم , بل إنه على ما يبدو مشهد النهاية , و ما يهم إذا كانت النتيجة هي الموت أن يكون القتلة و ضحاياهم واعين بما يفعلونه أم لا , فغدا سيحصلون على حورياتهم و على لبنهم و عسلهم في قلب العدم , غدا سيمجد العدم وحده كل ما قدسه البشر , و هذه هي القداسة الحقيقية في هذا العالم الساخر حتى الثمالة , قداسة القبور التي طواها النسيان .. لن أنسى ما حييت ذاك اليوم في سورياهم الحرة , عندما تحدث مقاتلون أمامي عن كيف كانوا يعصبون أعين أسرى جنود النظام و يقولون لهم أنهم أمام حاجز لجيشهم الأسدي , فيركض هؤلاء تحت التهديد بإطلاق الرصاص و وسط ضحكات هستيرية طالما حاولت تخيلها , ليسقطوا في واد سحيق .. من يومها أدركت أننا جميعا نركض إلى هناك , أنها طريقتنا الوحيدة في القفز عاليا و الطيران في الهواء .. هيا أيها الأبطال , إذا كان علينا أن نموت فلنأخذ معنا العالم ..