احتمالات النهوض الجماهيري اليوم


مازن كم الماز
الحوار المتمدن - العدد: 7604 - 2023 / 5 / 7 - 22:11
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية     

بعد انفجار 2010 - 2011 ثم 2018 - 2019 نشهد اليوم ليس فقط انحسارًا هائلًا للنضالات الجماهيرية بل استسلامًا يكاد يكون كاملًا لقوى الأمر الواقع المهيمنة ، لسنا أمام تراجعات عادية ، إننا أمام أزمة جدية ، أزمة متعددة الوجوه ، لا تبدأ بالشارع و لا تنتهي بالنخب "الثورية" … رغم كل الأوضاع البائسة لا تبدي "الجماهير" في لبنان و العراق ، و لا في مصر و سوريا الخ ، أية بادرة للحراك أو للمقاومة ، إذا كان هذا مفهومًا في سوريا حيث استحالت الثورة السورية منذ وقت طويل إلى نزاع مسلح سرعان ما توقف لصالح تقاسم السيطرة على الأرض فرضته التوازنات و التدخلات الإقليمية و الدولية ، أو في العراق و مصر حيث القمع العنيف كان نصيب الحراكات الشبابية لكن الوضع في لبنان يختلف حيث يوجد سقف أعلى للحريات بفضل ديموقراطية برجوازية أعرق و أكثر استقرارًا ، مع ذلك فإن الحراك الواعد في السنوات الماضية قد انحسر تمامًا على الرغم من التدهور المتسارع في ظروف حياة الملايين ، لا يواجه النظام الذي تسبب بكل هذا الانهيار أية مقاومة جدية اليوم … من جهةٍ أخرى فإن النخب التي تعتبر ذاتها ثورية ، مصرة على أن هذه الثورات ما تزال مستمرة ، بينما تحول معظم من تبقى من ثوار 2010 - 2011 إلى "ناشطين" مرتبطين بمنظمات غير حكومية ممولة غربيًا أو أنهم انتقلوا للعيش في الغرب أو يعيشون اعتمادًا على ما يصلهم من بترودولار … ما تبقى من ثوار سوريين يعتبرون اليوم بأن الجماهير السورية قد قامت بكل ما هو مطلوب منها و أن الدور الآن على "المجتمع الدولي" ليحقق أهداف هذه الجماهير و حتى ليقدم لها المأوى و الطعام و المسكن الخ … تستمر الثورة السورية بالنسبة لهؤلاء و إن بدون وجود أي نضال ثوري جماهيري ، تستطيع النخبة الثورية السورية تصور هذا الاستمرار و أن تنظر و تروج له عند القوى المهيمنة عالميًا و إقليميًا مصرة على أن "تضع العالم بأسره أمام مسؤولياته" دون أن تضطر للحديث و لا حتى بكلمة عن دورها المباشر في هزيمة الحراك الجماهيري في الشارع أو حتى أن تتعهد بمناقشة و نقد فسادها و عجزها علنًا … منذ وقت ليس بالقصير حلت هذه النخبة بنشاطها التنظيري و الدبلوماسي مع مراكز القرار و الفعل في العالم و المنطقة محل الجماهير السورية ، لقد تحولت ثورة الجماهير السورية المهزومة أو المجهضة إلى ثورة النخبة الثورية المستمرة بينما الجماهير السورية غارقة إلى أذنيها في مشاكلها اليومية التي تعتقد النخبة الثورية السورية أنها تملك الحل الذهبي أو السحري لها : صندوق الانتخابات أو باختصار : سلطتها "الديمقراطية" … و في سياق "نضالها" الفوقي تحالفت النخبة الثورية السورية مع أنظمة لا تقل بؤسًا و استبدادًا عن نظام الأسد من مملكة آل سعود إلى إمارة آل ثاني و هي اليوم تدفع جزئيًا ثمن هذا الارتباط على الرغم من كل شكاويها اليوم … و شاهدنا مثل هذا الدور في لبنان أيضًا عندما ساهمت النخبة الثورية اللبنانية بانقساماتها و عجزها في تمكين النظام الذي يفترض أنها تعارضه من استعادة السيطرة على الشارع رغم جرائمه التي لا توصف بدءًا بجريمة المرفأ حتى الانهيار الاقتصادي و الاجتماعي الشامل … قد يكون هذا البحث في انحسار النضالات الجماهيرية و عن احتمالاتها و أشكالها في المستقبل و عن غياب أية بوادر للمقاومة اليوم على الرغم من مأساوية أوضاع الجماهير جزءً من أسئلة أكبر عن تأثير السوشيال ميديا على العلاقات بين البشر و على تنظيماتهم و فعلهم المشترك إلى غلبة البحث عن الخلاص الفردي في ما صار يسمى بزوارق الموت أو الحراقات عدا عن الأزمة العالمية التي تضرب المؤسسات السياسية و الايديولوجية سواء الموجودة في السلطة أو في المعارضة و تراجع شعبية هذه القوى و تآكل شرعيتها تحت وطأة عجزها و فسادها مقابل صعود قوى تعبر إلى حد كبير عن نقمة الطبقات الوسطى و الأدنى على الاستلابلشمينت القائمة مما يجعلها أقرب إلى أقصى اليمين بينما اليسار بما في ذلك الجذري منشغل بسياسات الهوية التي تحاول نقل مهمة مقاومة النظام الرأسمالي القائم من الطبقات المستغلة بفتح الغين إلى مجموعات هوياتية مهمشة بالفعل أو حتى محاولة اختراعها حسب الضرورة و الإمكان … لا أعتقد أن عصر الثورات قد انتهى و إن كنت أعتقد أنها لن تكون نسخة مكررة عن ثورات القرنين التاسع عشر و العشرين أو حتى عن ثورات العقد الماضي لكننا بالتأكيد قد دخلنا فترة كمون طويلة و أن المتاح ، الممكن و المطلوب اليوم هو البحث الجاد و الجريء و النقد الذي لا يهادن بما في ذلك نقد الذات ، للحراك الثوري في العقد الماضي و دراسة أشكال المقاومة الحالية و احتمالاتها و أشكالها المتوقعة في المستقبل انطلاقًا من دراسة أزمة الأنظمة القائمة و معارضاتها و التحولات التي تطرأ على الاقتصاد و الاجتماع البشري اليوم و في المستقبل المنظور