نحن و العالم بين سيد قطب و نيتشه : محاولة قتل ديونيسيوس بعد موت الآلهة


مازن كم الماز
الحوار المتمدن - العدد: 6273 - 2019 / 6 / 27 - 10:04
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم     

"لهذه الطليعة المرجوة المرتقبة كتبت معالم في الطريق" , لم يخاطب سيد قطب العامة بل خاصة الخاصة .. نيتشه أيضا كتب لقلة من الناس فقط , "ربما لم يولد أحد منهم بعد" .. هناك شعور هائل بمسؤولية تاريخية خاصة عند سيد قطب و نيتشه و احتقار بلا حدود للواقع المنحط , فالاثنان يعيشان عزلة شعورية عما حولهما , داخل أفكارهما أو في المستقبل ( أو في مكان ما في الماضي عند قطب ) .. و وسط كل ذلك لا يوجد أي تواضع مزعوم بل ثقة مطلقة و كبرياء جريح , و خلف كل ذلك جملة من الإحباطات الحياتية و العاطفية و سلسلة أطول من الآلام الجسدية و النفسية .. من الجسد المحطم و الآمال المنهارة يصدر شيء ما , جامح , ثائر , سيرسم تاريخ حقبة تالية للناس الذين اكتفوا ذات يوم بمراقبة تلك الآمال و الآلام بصمت و لا مبالاة .. لحظة يلامس فيها التاريخ الفعلي حدود الأسطورة , يتناغم فيها التماثل و التناقض في صورة حية مثيرة , ليس فقط بين نيتشه و قطب , بل بين عالمين يقفان في مواجهة بعضهما .. استثنائية هي أيضا الأوصاف التي أطلقها خصوم الرجلين و مريدوهما عليهما : إرهابي , نازي , منظر الإرهاب المعاصر , أبو النازية , عدمي , متشائم , مجنون , الخ .. لكن على الرغم من تلك التشابهات هناك فروق أو تناقضات كبرى تضع الرجلين في مواجهة أزلية .. بينما يتحدث قطب عن الرجوع إلى النبع الخالص , النص القرآني المقدس , العودة إلى الماضي , عن مستقبل يوجد بالكامل في ماض سحيق يجب إعادة إنتاجه بحذافيره دون أي تعديل , عن استسلام مطلق ينأى عن أي نقد أو تفكير أو أي وجود مستقل للذات التي عليها أن تفنى نهائيا في النص المقدس , "إخلاص العبودية لله" , ليس الإنسان إلا عبدا و الاعتراف بهذه العبودية و ممارستها هي أرقى درجات الوجود الإنساني , لا يجب فقط تذكير الإنسان بذلك بل يجب أن تفرض عبودية الإله المطلقة على الجميع , و في هذا خلاصنا الوحيد ... على الجهة الأخرى : ثورة على كل شيء , تحطيم لكل الأصنام , اعتراف حزين بموت الإله , و دعوة متشائمة مرحة إلى مواصلة الحياة في عالم ما بعد الزلزال , إلى اكتشاف السوبرمان داخلنا بديلا عن الآلهة التي ماتت , شخص يصر أنه ليس نبيا و لا قديسا و لا معلما , بل فوق كل ذلك : شخص لا يعد بتحسين البشرية , "هذه ليست موعظة و ليس مطلوبا منكم أي إيمان" , إنه يرفض حتى الإيمان به , "إنني يا مريدي أمضي وحيدا ! و أنتم أيضا انطلقوا وحيدين" .. أدرك الاثنان ( قطب و نيتشه ) جيدا أن "الله قد مات" , "نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم , كل ما حولنا جاهلية" ( معالم في الطريق - سيد قطب ) .. ليس هذا فقط , بل إن قطب ينبهنا إلى أن الإسلام السائد قد تلوث هو الآخر و انحط إلى جاهلية محض .. يعترف قطب أيضا أن زمن المعجزات قد ولى و أن الدين قد قفد سحره في العالم المعاصر ( 1 ) , هو يرى أن الله قادر "طبعا" على تغيير هذا كله لكنه - سبحانه - شاء أن يتحقق منهجه الإلهي عن طريق الجهد البشري و في حدود الطاقة البشرية لحكمة يعلمها هو وحده , و بالنسبة له لا مكان هنا لسؤال "لماذا" , لكنه في نفس الوقت ينفي تماما أن الإنسان مستقل عن قدرة الله و تدبيره ... لقد جاء جواباهما على موت الإله متباينا لدرجة التناقض , لدرجة الصدام العنيف .. خلافا للاعتقاد السائد بيننا ( أقصد كعرب و كمسلمين ) , لم يقتل نيتشه الإله بل لقد نعاه و حزن لموته مثل الآخرين ( "لم يكن نيتشه ملحدا لكن إلهه مات" - كارل يونغ ) و لامنا بقوة نحن القتلة على جريمتنا الشنعاء , لكن نيتشه قبل على مضض دفن الآلهة التي قضت و قرر البدء من جديد بتشاؤم مرح في عالم لا مركز فيه و لا ثوابت .. أما قطب فقد أصر , و نحن معه , ليس فقط على تحنيط جثة الإله بل على فرض عبادتها على الجميع .. لكن هذا لا يكفيه , إنه يحلم بالانتقام من كل الذين قتلوه أو جاهروا بموته .. هذا لا يجعل قطب و نحن معه مثل ذلك الناسك المنعزل الذي لم يسمع بعد بموت الإله ... لقد شاهد قطب بأم عينيه العالم و هو يعيش و يتطور و يمضي في طريقه دون إله , بل بأفضل بما لا يقاس مع الأوقات التي كنا فيها نعيش في ظل إله ما و نعبده .. لم يقتل البشر آلهتهم فحسب , بل اقتربوا كثيرا هم أنفسهم من مصاف الآلهة .. بالنسبة لقطب لا يعد فقدان الأمل و المعنى في عالم ماتت آلهته عقوبة كافية لنا البشر على اقتحامنا عوالم كانت فيما مضى مقصورة على الأرواح الشريرة و الخيرة و الغاضبة , يجب أن تكون عقوبتنا أقسى , أشنع .. تؤكد الأسطورة الدارجة أن الظاهرة القطبية قد اكتملت في أمريكا , و هناك أعدنا إنتاجها مرات و مرات .. في كتاب قطب عن أمريكا لا نجد أي شيء مختلف عن الصورة النمطية السائدة بيننا عن الغرب , هجاء مرير لمادية الغرب و لا أخلاقيته بعد أن قتل إلهه .. ليس الغرب اليوم كما وصفه قطب و كما نراه إلا حفلة ماجنة من احتفالات ديونيسيوس , إله الخمر .. يكفي أن يحل ديونيسيوس هذا في أي مكان ليصاب الجميع بالجنون و يبدؤوا بالتصرف دون ضوابط , كي تراق الخمور و الدماء و تنتهك كل "الحرمات" , بقدر ما أصبح الغرب ديونيسيوسيا بقدر ما نراه مثيرا للتقزز و الكراهية .. لكن ما هو سبب ذلك الغضب الهائل الذي ينتابنا من ديونيسيوس , لماذا نرفض الحياة بعد أن اتضح أن كل الآمال فيما وراءها هي مجرد أوهام ؟ و من هو الإله الذي ندافع عن جثته بهذه الشراسة .. نحن لسنا أبولونيون ( أبولو إله العقل عدو ديونيسيوس حسب نيتشه ) , إلهنا ( إله سيد قطب ) يرفض العقل بنفس الدرجة التي ينكر فيها الجسد , أي إله إذن نريد للجميع أن يخشعوا له صاغرين ؟ هل ندعو الناس لعبادة إله الموت , إله العالم السفلي , أم إله الحرب , أم ماذا .. ما هي الشريعة التي نريد فرضها على الجميع كما على أنفسنا : شريعة الغاب باسم الرب أم شريعة الغاب باسم الإنسان في مقابل شريعة الغاب باسم العدم , أم ماذا .. إذا كان راسكولنيكوف يقتل لأنه يعتقد أنه متفوق فإننا نريد أن نقتل كل من تجاسر على أن يعيش في عصر ذابت فيه الحدود بين البشر و الآلهة لأننا نعتقد أننا مجرد عبيد و أن هذا من حقنا بالتحديد لأننا عبيد جيدون .. هل انتقامنا من ديونيسيوس يعود إلى أنه قد سرق مجد إلهنا و تركه جيفة بينما واصل هو سيره العشوائي نحو القمم ؟ هل السبب في ذكورتنا , في تقديسنا للأب و رعبنا من الإقرار برغبتنا في قتله , هل هو الخوف من النظر في المتاهة , أم هو كما نحب أن نردد : الكبرياء الجريح لامبراطورية غربت شمسها و تفسر موتها على أنه موت البشرية بأسرها أم أنه الروح الكئيبة لدين يعارض الحياة بما بعد الحياة أم أنها الصدفة المحضة عندما رفض عبد الناصر تعيين قطب وزيرا للمعارف ثم عندما نبع النفط في الصحارى الكئيبة و أصبح من المتاح لبعض الأمراء أن يتسلوا بتحديد ما نسمع و نقرأ و نرى و نعتقد .. لماذا نرفض الإنسان الأعلى لصالح القطيع , أخلاق السادة لصالح أخلاق العبيد .. ألم يعبد أجدادنا باخوس ذات يوم , ديونيسيوس الشرق , ألم تعبده كثرة من الفرق الباطنية لعقود بل لقرون .. ماذا نريد فعلا ؟ أن ننضم إلى قطيع الإنسان الأخير كما سماه نيتشه , العاجز حتى عن احتقار نفسه , التواق إلى الحياة السهلة , أن نكون أكثر نسخ هذا الإنسان الأخير بلادة و تفاهة و غباءا و كسلا أم نطمح إلى هرمجدون أخيرة على طريقة شمشون , هل نريد ابتزاز الإمبراطورية أم تهديمها .. بماذا نحلم في عالم ماتت آلهته و ضاعت بوصلته .. أن نعيد عقارب الساعة إلى ما قبل ألف و خمسمائة عام , أن نوقفها , أن ندفعها بعنف إلى الأمام بطريقة غير مسبوقة , أم ماذا .. لقد ثار سبارتاكوس ضد عبوديته , فهل نثور نحن ضد حريتنا , أو ضد حرية الآخرين .. هل الحرية التي نتوق إليها هي حرية عبادة جيفة ميتة ..... أم ماذا