لا وجود لحداثة عربية


مازن كم الماز
الحوار المتمدن - العدد: 6187 - 2019 / 3 / 30 - 02:41
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

هذا أسوأ تزييف نعيشه .. نحن لم نعرف شيئا اسمه حداثة بالمعنى الحقيقي .. لم تكن "الحداثة" بالنسبة لنا سوى وسيلة لا غاية , وسيلة "للحاق" بالغرب , كي نصبح أقوى عسكريا و سياسيا و أحيانا اقتصاديا , لننافس الغرب أو نتحرر منه في أضعف الأحوال , بهذا المعنى لم نعرف بالفعل أية حداثة فكرية أو اجتماعية .. يكفي نظرة واحدة لنكتشف من هم حداثيونا ؟ جنرالات , عسكر , وزراء , أبناء الطبقة الأرستقراطية و الإقطاعية و البيروقراطية و الإكليروس الديني , الذين سافروا إلى الخارج بغرض التعلم للإعداد لتولي مناصب آبائهم .. لم تكن حداثتنا نتاج صراع بين الفكر الباحث عن الحرية و الجسد الباحث عن الإشباع مع قيود المؤسسات القائمة و لا نتاج النضال ضد الحكم المطلق و السلطة المطلقة للدين بالعكس كان ملوكنا و رجال ديننا هم أوائل الحداثيين , و لم تكن حداثتنا موجهة ضد هذه المؤسسات القمعية ( العسكرية , الدينية ) بل كانت موجهة أساسا ضد الآخر , الغرب الأقوى المستعمر , المختلف , الآخر الذي لا يكتفي بعدم اعتناق ما آمن به أجدادنا بل يجرؤ على انتقاد مقدساتنا و مقدسات أجدادنا و الذي تناقض علومه كل ما نؤمن به و ما آمن به أجدادنا .. حداثتنا هي مجرد خطوة تقنية لا أكثر لهذا لم ير حداثيونا أية حاجة لنقد أفكارنا الماضوية التي أصروا على منحها عصمة لم تتمتع بها حتى عندما وضعها أجدادنا أو حكامهم و ساداتهم .. بالعكس كانت هذه الأفكار و الأساطير هي شغلنا الشاغل .. أثبت بعضنا أنه لا يوجد تناقض حقيقي بين أساطير أجدادنا و بين الحداثة أما البعض الآخر فقد اكتشف في النصوص التي آمن بها أجدادنا كل ما أنتجته الحداثة .. لا يوجد فارق حقيقي بين تياراتنا السياسية و الفكرية , جميعنا حداثيون بالمعنى التقني و ماضويون بالمعنى الفكري و الاجتماعي و السياسي , لا فرق هنا بين يمين و يسار .. و هذا ما يتضح اليوم فيما نقدمه للعالم .. ما نفترض أننا نقدمه للعالم الحداثي أو ما بعد الحداثي .. دعونا نقارن ما نقترحه على العالم اليوم مع ما قدمته البرجوازية عندما أرادت إغراء الفلاحين و البروليتاريين الأوائل للثورة على الملوك و الكنيسة , وعدتهم بالحرية التي سمتها ديمقراطية و بالتقدم و الرخاء الذي سيأتي بهما العلم المتحرر من الخرافة .. و عندما أراد ماركس و بعض المثقفين إغراء العمال للثورة وعدوهم بالعدالة المفقودة و بالمزيد من الرخاء و حتى ببعض الحرية في وقت لاحق .. ماذا نقدمه نحن اليوم لهذا العالم ؟ من حسن البنا حتى ادوار سعيد : الحجاب , وعد بجنة بعد الموت و وفرة و رخاء سحريين سنبلغها بأداء الصلوات الخمس و الاعتقاد بشخصيات اسطورية عاشت قبل مئات السنين و برجم الزناة و رمي المثليين جنسيا الخ .. المصيبة هو أن هذه بالنسبة للغرب بضاعة قديمة , مارسها الغرب من قبل و نحن هنا نطالبه فقط بالعودة إلى ماضيه الذي فعل المستحيل للتخلص منه .. أما حداثاتنا "الأكثر جدية" و "جذرية" التي مارسها جلادون مثل أتاتورك و شاه إيران "المقبور" فلم تكن هي الأخرى شيئا جديدا أو حديثا في تاريخنا و مجتمعاتنا , كانت أشبه باستيلاء أتباع دين جديد على المنطقة و فرضه بالقوة , بالترهيب و الترغيب على البشر تماما كما جرى في كل تغيير جذري طرأ على العقيدة السائدة في المنطقة , مع كل دين جديد جاء و استوطن بلادنا و عقولنا .. لم يكتشف أحد الإنسان بعد في الشرق .. لا نوجد ككائنات قائمة بذاتها , مستقلة , قادرة على التفكير بذاتها و لذاتها , نحن مجرد أعداد لا حصر لها و لا قيمة لها مكررة من نفس الشيء .. نكرر نفس الشيء , نؤمن بنفس الشيء , فنحن نؤمن لا نفكر , بالأحرى نجتر ما يلقى إلينا من أفكار , ما نلقنه من أفكار , و إذا لم تكن كلمات نبي آت من ماض سحيق أو قائد ملهم نعامله كإله أو نصف إله فإنه كلام فيلسوف ما نحتمي به كي نتفلسف و نفكر في الهوامش , خلافا لصرخة أرسطو بضرورة تجاوز معلمينا و دعوة ديكارت للشك و نداء نيتشه لتحطيم الأصنام .. نحن في الواقع متخلفون جدا عن المستوى الفكري و العقلي لمن نزعم أنهم أجدادنا .. لا يوجد اليوم من يشبه المعتزلة ناهيك عن المعري أو ابن الراوندي و الرازي و ابن سينا ... حتى "أكثرنا ثورية" و "حرية" يجد نفسه مضطرا ليختبأ خلف تصنيفات و أفكار مسبقة , محددة و نهائية و ناجزة مطلقة أو نصف مطلقة , يخشى من أن يفكر أو أن يمارس الحياة دون الاستناد إلى إيديولوجيا سائدة ... أحد أفظع النكت الرائجة اليوم هو أحاديثنا الشائعة عن ما بعد الحداثة و عالم ما بعد الحداثة عندما ننصب أنفسنا حتى أكثرنا "رجعية" و هوسا بكل الخرافات الماضوية قضاة باسم الحداثة , كأننا ننتمي للحداثة أو كأننا قبلنا بها أو مارسناها أصلا .. كلمة أخيرة عن الهستيريا الأخلاقية التي تجتاح مجتمعاتنا عن أن انتشار "الفجور" و "التهتك" بالمعنى "الأخلاقي " السلبي هو ظاهرة جديدة علينا و نتاج لحداثتنا المزعومة ... إن تهتك و فجور الطبقة الحاكمة قديم جدا و يعود إلى بدايات ظهورها في صدر الإسلام و تهتك الطبقة المثقفة هو الآخر قديم و قد عاش الاثنان في عالمهما الخاص الزاخر بالجواري و الغلمان و الخمر و الأغاني الماجنة جنبا إلى جنب مع أغلبية مغرقة في المحافظة و سلطة مطلقة للمؤسسة الدينية على العقل الجمعي .. المتوكل الذي يكال له المديح من أكثر رجال الدين تشددا "لإطفائه فتنة خلق القرآن" كان مدمنا للخمر و لاهثا وراء ما يسميه رجال الدين أنفسهم بالشهوات و الملذات .. نحن نشبه المتوكل , حداثيون عندما يتعلق الأمر بالجيوش و أسلحة القتل و الدمار الشامل , ماضويون عندما يتعلق الأمر بحرية التفكير , نبيح كل شيء ما دام لا يخدش الحياء العام , و لا شيء يخدش الحياء العام عندنا مثل القول بخلق القرآن أو القول بما لم يقل به أجدادنا أو التصرف و التفكير و كأننا بشر نملك عقولا أو يمكننا أن نمارس الحياة بحرية