عندما تكون -الحقيقة- مؤدلجة و مسيسة


مازن كم الماز
الحوار المتمدن - العدد: 6161 - 2019 / 3 / 2 - 01:54
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

شهد الأسبوع الماضي نقاشات "حادة" حول ما يسميه البعض "حقيقة" و "عدالة" , نقاش حول الشبان الذي أعدمتهم محاكم السيسي و نقاش آخر أضيق بين "الثوار" "السوريين" حول اثنين من ضباط مخابرات الأسد السابقين الذين ألقي القبض عليهم في ألمانيا بتهمة ارتكاب جرائم ضد "الإنسانية" و نقاش آخر ثوري جدا حول مسلسل عن حياة تروتسكي أزعج الرفاق التروتسكيين .. النقاشات الثلاثة بكل حدتها تشير إلى ظاهرة غريبة : كم هو صعب الاتفاق على حقيقة ما يحدث أمام أعيننا .. و بينما نتحدث جميعا عن العدالة و "نبحث" عنها , فإن من الصعب جدا إن لم يكن من المستحيل الاتفاق على ما تعنيه .. لنبدأ بمن ماتوا الأسبوع الفائت في السجون المصرية : خلافا للمنظمات الحقوقية التي تحدثت عن اعترافات تحت التعذيب و محاكمات افتقرت إلى أبسط معايير العدالة فإن كل الذين خاضوا في قضية الشباب الذين أعدموا لم يحتاجوا لأي براهين أو أدلة , كانوا شهداء بالنسبة للبعض و مجرمين بالنسبة للبعض الآخر .. و خلافا للمنظمات الحقوقية لم يطالب أي منهم بإعادة محاكمة هؤلاء الشبان وسط ضمانات حقيقية .. لا يحتاج المؤمنون ببراءة المتهمين لأية محاكم , براءتهم لا تحتاج لإثبات أساسا .. أو جرائمهم عند البعض الآخر .. إن تحقيق العدالة لا يحتاج لمحكمة أصلا لأن الحكم النهائي يتعلق بأشياء لا تحتاج لبراهين أو أدلة و لا دفاع أو اتهام .. قد يبدو هذا "الخلاف" مفهوما على الأقل خلافا للخلاف بين "المعارضين" السوريين على براءة أو جريمة اثنين من ضباط مخابرات الأسد لأن كل هؤلاء المعارضين ينتمون تقريبا لنفس الاتجاه السياسي و حتى الفكري إن شئتم طالما كان الاختلاف شيء ما زالت معارضاتنا و شعوبنا بحاجة لتعلمه , و لأنهم متشابهون لهذه الدرجة كان يفترض أن تكون معايير العدالة و الحقيقة واحدة عندهم .. الشيء الوحيد الذي يثير الاستغراب هنا هو أن أحدا من كل هؤلاء لم يجرؤ على إدانة كل ضباط المخابرات في كل زمان و مكان حتى أكثر الليبراليين السوريين تطرفا , اقتصر الجدال الحاد حول بعض الحالات الفردية , قتل سجين هنا أو إنقاذ آخر هناك , الشيء الوحيد الذي اتفق عليه المعارضون هو ترك المسألة للمحكمة الألمانية لتحسمه .. أما كيف فسرت أنا كل هذا الجدال : أن هناك شيء واحد فقط مقبول بالنسبة للجميع : وحدهم ضباط المخابرات أبرياء حتى يثبت العكس .. إلى غضب رفاقنا التروتسكيين من المسلسل الذي عرض حياة تروتسكي "كإنسان" لا "كنبي" أو "قديس" .. الاعتراضات التي يقدمها الرفاق التروتسكيين تكاد تكون طفولية و ساذجة مثل سذاجة تصورهم و دفاعهم عن تروتسكي عندما يصرون على تصويره كرجل زاهد جنسيا و رب أسرة مثالي في نفس الوقت و ينكروا عليه أن يختار امرأة فائقة الجمال لتكون خليلته و أنه كان في نفس الوقت قائدا عسكريا فذا و سياسيا مخلصا إلى غير ذلك من السذاجات .. إذا تحدثنا عن الحقيقة فلا يمكننا فعلا تحديد من يشهر أكثر بتروتسكي : منتجو هذا المسلسل أم المحتجون عليه .. يأخذنا بحثنا عن الحقيقة و العدالة إلى رغبة بعض الدواعش بالعودة إلى "بلدانهم الأصلية" طلبا "للعدالة" .. قد يبرر هذا شعور بعض الليبراليين بالسعادة لهذا لأن هذا قد يعني أن العدالة هناك بخير في دول الكفار و الاستكبار , على الأقل مقارنة ببلادنا , حتى بالنسبة لقتلة و جزارين كالدواعش .. هنا أيضا من الصعب أن نحدد أيهما أكثر إثارة للرعب و الإحباط في نفس الوقت : أن يجد الدواعش ما يبرر لهم ذبحنا أو الرغبة بذبحنا جميعا أم مطالبتهم بالعدالة عندما يعجزون عن جلد العصاة و جز رؤوس الكفار و المرتدين .. من الواضح أن فكرة العدالة و الحقيقة مسيسة حتى العظم , مؤدلجة , أنت لا تدافع عن حقيقة الآخرين و لا عن العدالة للجميع , بل عن "حقيقتك" و "عدالتك" الخاصة .. فجأة أتذكر حنا أرندت و أدولف إيخمان و كيف برأته أرندت التي فقدت كثيرا من أفراد عائلتها على يد إيخمان و أمثاله من كل التهم عدا تهمة الغباء , التفاهة , و السمع و الطاعة , تلك الجريمة الحقيقية التي جعلت من إيخمان جزارا لا يعرف الرحمة .. و أتساءل : هل هذه هي التهمة الحقيقية التي يجب أن نحاسب عليها الدواعش , شباب الإخوان , القضاة , ضباط المخابرات , السيسي , التروتسكيين الخ , الخ .. المرعب في كل هذا حقا هو أننا نجتنب أن نحاكم أيا من هؤلاء على هذه الجريمة بل إننا لا نعتبرها جريمة أساسا , ربما هنا بالذات تكمن جريمتنا الأشنع , إن لم نقل "حقيقتنا" و "عدالتنا"