إسلام السلطان (٢٢) دعوة الإحياء الإسلامى


جمال البنا
الحوار المتمدن - العدد: 4009 - 2013 / 2 / 20 - 09:31
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


وخلال تلك المدة الطويلة، أى منذ بدأ الملك العضوض سنة ٤٠ هجرية حتى أنهى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة فى تركيا، وقد ساد الاستبداد وتفشت المظالم، وولى الحكم ولاة جهلة جعلوا هدفهم إثقال الشعب بالضرائب والاستحواذ على الثروات، ولم يهتموا بالتعليم أو إصلاح الزراعة والتجارة والصناعة، ولم يكن فى هذا الحكم الذى أطلق عليه خلافة شىء من الإسلام الحق، وكان الإسلام السائد هو إسلام السـلطان، وطوى تمامًا ــ حتى أُنسى ــ إسلام الإنسان.

ووجد الفقهاء أنفسهم وهم يعايشون عصور الظلم والاغتصاب وحكم الديلم والترك والسلاجقة والتتار والمماليك وغيرهم ممن لا يحسن العربية أو حمل معه قوانينه «السياسة» مضطرين لإصدار أحكام تتفق مع مقتضيات الحكم، ولم يكن من هذا بُـد، لأنهم لو حكموا بغير ذلك لتعرضوا للاضطهاد، أو القتل، وقد نال هذا الاضطهاد الأئمة الأربعة على جلال قدرهم، فما بالك بمن هم دونهم، ولو قارنا بين أحكام «إسلام السلطان» و«إسلام الإنسان» التى هى فى الحقيقة أحكام القرآن والرسول لوجدنا فرقاً شاسعًا يصل إلى حد التناقض، وحتى لا يكون هذا كلامًا مرسلاً، فيمكن أن نجرى مقارنة موجزة فى قضايا الإيمان بالله، حرية الاعتقاد، والعدل، والمرأة، والسرقة.

ففى عهد إسلام الإنسان نجد أحكام القرآن والرسول مطبقة.

فى الإيمان بالله نجد الإيمان بالله يقوم على ما وضعه القرآن من دليل الخلق، وأن هذا الكون العظيم له خالق هو الله، نجد أن الإيمان بالله يقوم على أربع كلمات جاء بها القرآن «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ»، فهنا الإيمان يقوم على منطق البداهة العقلية التى يفهمها كل واحد، ولم يتوقف المسلمون عند الآيات المتشابهات، وقالوا كما علمهم القرآن «آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا»، ولذلك فلم يخطر لهم ببال قضايا الصفات أو غيرها مما يلوث صفاء الإيمان.

فى مقابل هذا نجد الإيمان فى «إسلام السلطان» يقوم على علم يُدعى علم الكلام(!)، ويعتمد على فلسفة يونانية، ويثير قضايا الصفات بصورة تمزق الإيمان، وإيمان مثل هذا لا يقوم على عقل بديهى، وإنما على جدل منطقى، ولا يدفئ النفس أو يثير فيها الرضا والسلام.

فى موضوع حرية الاعتقاد نجد أن القرآن يؤكد حرية الاعتقاد ويفتح بابها على آخره:

«لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ».

«وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ».

«أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».

ويجعل الهداية والضلالة قضية شخصية لا يكون للنظام العام دخل فيه:

«فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا».

وتحدث القرآن عن الردة مرارًا ولم يرتب عليها عقوبة دنيوية، وارتد فى عهد الرسول عدد من المسلمين فلم يوقع عليهم عقوبة، ولكن قال: «لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ».

وفى غير مجال الاعتقاد نجد حديث معاذ عن الاجتهاد «أجتهد رأيى ولا آلو».

إذا قارنا هذا بما توصل إليه فقهاء السلطان فإنهم ادعوا وجود حديث «من بدل دينه فاقتلوه» (رواه عكرمة مولى ابن عباس)، ولم يؤثر عليهم أن الإمام مسلم رفض كل أحاديث عكرمة، وأن الحديث يخالف عمل الآيات، ويخالف الرسول، بل أكثر من هذا صعدوا الأمر فأبدعوا صيغة «من جحد معلومًا من الدين بالضرورة»، وهى صيغة تحتمل مائة تهمة، فيمكن مثلاً لأى واحد يعارض الحاكم أن يقال إنه جحد معلومًا من الدين، هو طاعة الحاكم طبقاً لما جاء فى القرآن «وأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنْكُمْ»، وقد اعتبر بعضهم أن رفض الحجاب بالنسبة للمرأة يدخل فى جحد معلوم من الدين بالضرورة.

أما الاجتهاد فقد أصبح صورة من القياس ثم أغلق بابه من القرن الخامس وأصبح الفكر الإسلامى أسير المذاهب المقررة.

فإذا انتقلنا إلى العدل فنحن نرى أن القرآن لا يندد بشىء كما يندد بالظلم، ورأى أن إمرة المترفين أذان بزوال العهد، وضرب المثل بفرعون وهامان، وأنه لم يمتدح شيئاً كما امتدح العدل وجعله أساس الحكم.. أما الرق الذى حاول الرسول أن يفرغه من أسوأ مضامينه فأوجب على من يصفع عبده أن يحرره، وأوجب قبول المكاتبة، وجعل «تحرير رقبة» كفارة لعدد كبير من الذنوب، ثم أخيرًا وضع القاعدة التى كان يمكن أن يصفى الرق عندما حصر مورد ومنبع الرق فى أسرى الحرب وجعل مصير هؤلاء، «فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً»، وقد طبق الرسول ذلك فى أسرى بدر وأسرى هوازن، ولكننا بعد هذا- فى إسلام السلطان- نجد الرقيق تجارة رائجة سواء من الذكور، الذين يدربون ليكونوا القوة العسكرية أو من الجوارى وكان يوجد منهن فى قصور الخلفاء المئات، بل نرى بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين لا يخجلون من القول «الرق مقرر لا يملك أحد رفعه».

وقد لا يقل أهمية عن هذا أننا لا نرى ذكرًا للزكاة من عهد معاوية بن أبى سفيان، ولا نعرف هل كانت تجمع؟ ولا كيف كانت تصرف؟ لقد أسدلت أستار كثيفة لأن الحكم لا يعنيه أن يؤخذ من الأغنياء ليعطى الفقراء، وإنما تهمه الضرائب ليبنى القصور ويشترى الجوارى ويجود على المتملقين والشعراء المداحين.

ومع تطاول الأمر وتباعد العهد أطبق ظلام الجهل، وَصَدِئ العقل، وغلب التقليد، وفى الوقت نفسه تضخمت المؤسسة الدينية وأصبحت أشبه بالكنيسة فى المسيحية، تحرم.. وتقيد، وتعنى أول ما تعنى بمصادرة كل فكر مجدد وملاحقة كل صوت يرتفع من غير زمرتها، واحتكروا تمثيل الإسلام والتحدث باسمه كأنما أخذوا بهذا من الله موثقاً.