المواطنة فى مجتمعات أوروبية وإسلامية (١-٣)


جمال البنا
الحوار المتمدن - العدد: 3890 - 2012 / 10 / 24 - 09:38
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


المواطنة لفظة مستحدثة فى التاريخ السياسى فى الدول الأوروبية ظهرت فى القرنين السادس عشر والسابع عشر نتيجة تفاعل عوامل عديدة «اجتماعية وسياسية واقتصادية»، أدت إلى هدم الحواجز والأسوار التى كانت تفصل المدن الأوروبية بعضها عن بعض لتكوين الدولة القومية التى يسكنها شعب واحد حتى وإن لم يكن من جنس واحد أو لغة واحدة أو دين واحد، لأن النقطة المهمة هى الملاصقة الجغرافية التى جعلتهم جميعاً يتخذون من الدولة وطناً لهم.

ونرجو أن تتسع هذه الدراسة لعرض نماذج منها، إذ لا يتسع المجال لغير ذلك، وفى الوقت نفسه لا يُفهم الموضوع تماماً دونها.

من باب إنعاش الذاكرة التاريخية:

عندما نذكر المواطنة تُذكر النماذج الثلاثة الرئيسية فى الفكر السياسى الأوروبى: نموذج أثينا - نموذج روما - نموذج الدولة الحديثة التى يفترض أن فكرة المواطنة استكملت فيها مقوماتها، فنلقى نظرة طائرة على هذه النماذج الثلاثة:

نموذج أثينا:

عُرفت أثينا بالديمقراطية المباشرة التى يجتمع فيها المواطنون لاتخاذ القرارات المهمة.

فهل كانت الحقيقة كذلك..؟

لدينا ثلاث شهادات عن ذلك، أولاها التى عرضها د. عصمت سيف الدولة نقلاً عن كبار منظرى السياسة الأوروبية حول صورة للديمقراطية الأثينية تختلف عما فى مفهوم الناس، فقال: «كان الحاكمون هم (القواد العشرة) الذين يعنون بشؤون الحرب وشؤون السياسة، ثم ضابطو المدينة (العشرة) الذين يحفظون النظام فى المدينة، وضابطو (العشرة) مجموعات كل منها خمسون شيخاً، ولم يكن العدد (عشرة) ضرورة فنية للحكم، بل كان تقسيماً (للمناصب) السيادية فيما بين حلف القبائل (العشر) التى كانت تملك أثينا فعلاً» (فوستيل دى كولانج: المدينة العتيقة)».

تحت كل هؤلاء جميعاً يأتى دور المواطنين الذين لهم حق الحضور فى الاجتماع الشعبى وهم قلة، فقد كان الذين لهم حق الاجتماع حوالى ٤٣٠٠٠ من جملة السكان وعددهم حوالى ٣١٥٠٠٠، ولم يكن يحضر الاجتماع فعلاً أكثر من ثلاثة آلاف، أما المستبعدون فلأنهم ليسوا مواطنين فكان من بينهم ١١٥٠٠٠ من الرقيق، وجميع النساء، وجميع العمال.

وكان مجلس الشيوخ ممثل القبائل العشر هو الذى يناقش ويدرس ويُعد مشروعات القرارات التى تعرض على الشعب، ولم يكن من حق الشعب مجتمعاً إلا أن يرفض أو يقبل ما يقدمه إليه مجلس الشيوخ، ولا يملك المناقشة فى أى موضوع آخر، كان على الشعب أن يقول «نعم» أو «لا» فقط!!!

وعندما يُدعى الشعب إلى الاجتماع، وما كان ليجتمع إلا بدعوة من القادة العشرة، فإن حق المناقشة لم يكن مُتاحاً لكل واحد من المواطنين الحاضرين، كان يشترط فيمن يصعد إلى منبر الخطابة ألا يكون مديناً للمدينة، وأن تكون أخلاقه طاهرة ومتزوجاً زواجاً شرعياً، ويمتلك عقاراً فى «أتيكا» (المنطقة الجغرافية التى تعيش فيها القبائل المتحالفة ومركزها أثينا)، وأن يكون قد أدى جميع واجباته نحو المدينة، واشترك فى جميع الحملات الحربية التى أُمر بالاشتراك فيها، وأنه لم يلق سلاحه ويفر من أى معركة.

ثم تبدأ المناقشة عن طريق الخطابة تحت رقابة حفظة القانون، وكان أولئك السبعة يراقبون «الشعب» فى اجتماعه وهم جلوس على مقاعد عالية، فإذا سمعوا خطيباً ينقد قانوناً سارياً أوقفوه ثم أمروا لا بأن يصعد غيره إلى المنبر، ولكن بفض اجتماع الشعب فوراً، فينفض اجتماع الشعب فوراً «باستيد: القانون الدستورى، ١٩٦٠». انتهى الاستشهاد.

ومما لا يذكره الكثيرون أن فلاسفة أثينا الكبار كانوا يضيقون بالديمقراطية الأثينية، وتصور هؤلاء الفلاسفة حكماً لا يقوم على الأشخاص ولا يعتمد على مشاعرهم واجتهاداتهم وعواطفهم ومصالحهم، ولكن على القانون..

واستخدم أفلاطون الكلمة كمضاد صريح للديمقراطية وليس كمرادف لها، كما تُعد الفقرات التى جاءت فى «السياسة» لأرسطو خلال مناقشته أنواع الديمقراطية دفاعاً عن حكم القانون، وليس عن الديمقراطية، الأمر الذى يدل عليه قوله: «من الأفضل أن يحكم القانون عن أن يحكم المواطنون»، و«أن يُعين الأشخاص الذين يتقلدون المناصب العليا كحماة وخدم للقانون»، وكذلك إدانته الحكومة التى «يحكم فيها الشعب وليس القانون.. وحيث يحدد كل شىء بأغلبية الأصوات وليس القانون»، ومثل هذه الحكومة لا تُعد فى نظره حكومة دولة حرة لأنه «حيث لا تكون الحكومة فى يد القوانين، فليس هناك دولة حرة، لأن القانون يجب أن يكون أسمى من كل الأشياء الأخرى»، بل إنه ذهب إلى أن تركيز القوى فى أصوات الشعب لا يمكن أن يسمى ديمقراطية لأن مدى قراراتها لا تكون عامة، وفى كتاب «البلاغة» قال: «إنه لمن أعظم الأمور أهمية أن تحدد القوانين السليمة نفسها كل النقط، ولا تدع إلا أقل ما يمكن للقضاة». (من محاضرة ألقاها البروفيسور F.A. Hayek بعنوان «المثال السياسى للحكم بالقانون»، عندما دعاه البنك الأهلى المصرى للاحتفال بالذكرى الخمسينية لتأسيسه سنة ١٩٥٥م).

نموذج روما:

كان القانون الرومانى القديم يحرم الأجانب الذين لا تربطهم بروما معاهدة من أى حقوق، ويبيح لأى قادم أن يستحوذ عليهم، كما يتملك شيئاً لا صاحب له «كما جاء فى: أساس العدالة فى القانون الرومانى، للدكتور على حافظ»، وهو الذى سننقل عنه الفقرات التالية:

«جاوز التمييز بين ما هو رومانى وما هو غير رومانى الإنسان إلى الحيوان، فلم يعتبر الجمل والفيل من حيوان الزراعة الرومانية لأنها لم تعش على أرض روما، وبالتالى لا تدخل فى الملكية الزراعية، وإنما تدخل فى عداد الوحوش!

وإذا نزعت روما من أمة حقوقها ذهبت عنها إلى الغالب، ويستطرد مؤلف «أساس العدالة فى القانون الرومانى»، ونرى ظاهرة عجيبة لا نكاد نعقلها: «للغالب وحده القانون، وليس للمغلوب شىء، فيتزوج المغلوب ولا يُعد زواجه شيئاً، ولا يحل له أن يمتلك شيئاً، ولا يحل له أن يُصاهر الغالب، ولا أن يُساهم فى سياسة المدينة، ولا أن يسمو إلى درجة من درجات الشرف، واستأثر الغالبون بذلك جميعاً، ويعيش المغلوب فى حكم الواقع، وإن تعامل كانت معاملته واقعية تؤتى آثارها بمعزل عن القانون، وإذا توالت فى العمل فلا يحميها سوى العرف البشرى من معاملة الإنسان للإنسان، وهيهات أن تحميها قوة من النظام إلا من استجار بالغالب ودخل فى ولايته، فيحميه قانون الغالبين.

وطبقاً لهذا كان زواج المغلوبين زواجاً عُرفياً لا يمتد إليه القانون، ولا يُعد الغالبون ذلك زواجاً، وما مثله عندهم إلا كمثل تعاشر الوحوش، وليس للمغلوبين أسر، وليس للأب سلطة على ولده، وليس هناك موانع خاصة بالنسب تمنع زواج الأب من ابنته أو الأخ من أخته، ولا يُعد الغالبون ذلك زواجاً، وما عندهم إلا كمثل تعاشر الوحوش».

فى أوروبا الحديثة «مونتسيكو»:

إن جعل القيمة المعنوية والأدبية التى يقوم عليها المجتمع الأوروبى الحديث هى فكرة «الواجب» و«الضمير الفردى» أدى إلى جعل المعنويات الأوروبية «ذاتية».. «عنصرية» لا تمتد إلى ما وراء المجتمع الأوروبى الذى يتمسك بفكرة الواجب، وهو ما يوضح كيف أن هذا الضمير يقبل معاملة الأجناس الملونة معاملة مهينة ــ لمجرد اللون ــ وهناك فقرة حاول مفكر من أكبر المفكرين الأوروبيين هو «مونتسيكو» أن يبرر بها استغلال الأجناس الأوروبية، وجاءت فى كتابه الشهير «روح القوانين»: «إذا طلب منى أن أدافع عن حقنا المكتسب فى اتخاذ الزنوج عبيداً فإنى أقول إن شعوب أوروبا بعد أن أفنت سكان أمريكا الأصليين لم تر بُداً من أن تستعبد شعوب أفريقيا لكى تستخدمها فى استغلال كل هذه الأقطار الفسيحة، والشعوب المذكورة ما هى إلا جماعات سوداء البشرة من أخمص القدم إلى قمة الرأس، وأنفها أفطس فطساً شنيعاً، بحيث يكاد يكون من المستحيل أن ترثى لها، ولا يمكن للمرء أن يتصور أن الله سبحانه وتعالى - وهو ذو الحكمة السامية - قد وضع روحاً.. وعلى الأخص روحاً طيبة - فى جسم حالك السواد».