اللغط حول الدستور


جمال البنا
الحوار المتمدن - العدد: 3688 - 2012 / 4 / 4 - 10:00
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     

هذا اللغط حول الدستور، والأخذ والرد، والقبول والرفض، وتكوين اللجان والطعن فيها، والشكوك التى أصبحت تحوم حول كل إجراء، والانسحاب والاتهامات - تظهر أن الذين قاموا بها لا عهد لهم بدستور ولا يعرفون شيئاً عن الدساتير، فى حين أن مصر لها علاقة بها منذ سنة ١٨٦٦ عندما كوَّن محمد على مجلساً للمشورة تُعرض عليه الأعمال، ورعاه وطوره المصريون فى عهد سعيد وإسماعيل باشا، ولما قام «عرابى» باستعراضه الثورى للجيش أمام الخديو توفيق فى سبتمبر سنة ١٨٨١ انتزع منه الحق فى تكوين دستور، وضعه «شريف باشا» أبوالدستور، وكان يرجى العمل به لولا أن الاحتلال البريطانى حال دون ذلك، وكوَّن جمعية تشريعية هزيلة.

ولما ثار الشعب عام ١٩١٩ كان الابن البكر للثورة هو دستور ٢٣، الذى تولى عبدالخالق ثروت، رئيس الوزارة، مسؤولية وضعه فاختار لجنة من ثلاثين شخصاً من المعروفين بالوطنية والإخلاص والمعرفة بالدستور، كما دعا شيخ الإسلام وبطريرك الأقباط إليها.

وقامت اللجنة بعملها خير قيام رغم الظروف الصعبة التى كانت تحيط بها، فقد كان الاحتلال البريطانى جاثماً على البلاد ينشر ثمانين ألف جندى فى مدن مصر، وأولاها القاهرة التى كان يقيم فيها معسكرى القلعة وميدان التحرير وغيرهما، وواجهت اللجنة معارضة من حزب الوفد وعلى رأسه سعد زغلول الزعيم الكبير للبلاد، فضلاً عن مواجهة محاولات الملك فؤاد لانتزاع سلطات أكبر للقصر، كما كان حزب الوفد وزعيمه الكبير سعد زغلول يقاومها ويطلق عليها «لجنة الأشقياء».

وأخيراً واجهت اللجنة أطماع الملك فؤاد، ونجحت فى إصدار دستورها الذى حقق لمصر أعظم أمجادها «شوقى وحافظ وعبد الوهاب وأم كلثوم والجامعة العربية» وتلك الكوكبة الباهرة من الرجال أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل وأحمد أمين وقاسم أمين، وظهر نجوم المسرح والغناء والموسيقى و«صالون مى» الذى لم - ولن - يتكرر، وفى ظل هذا الدستور وحمايته تكونت الأحزاب والهيئات بما فيها جماعة الإخوان المسلمين.

فى ظل هذا الدستور الذى وضع مادة الدين الإسلامى دين الدولة، واللغة العربية لغتها، كان يوجد بغاء مقنن، وكانت الخمور تباع لدى البقالين.

ولكن دستور ٢٣ لم يستمر طويلاً، فعندما حدث الانقلاب الناصرى كان أول شىء قامت به قيادة الثورة حل الدستور، فأثبتت بذلك غباءً مركباً، وقد كان من الممكن أن تُبقى على الدستور، وتظهر حامية للحرية وتؤسس فى الوقت نفسه حزباً يدخل الانتخابات التى كانت ستجرى عليه فى حميا نشاط الجماهير وحماستهم للثورة.

وبعد محاولات متخبطة أعلن أنه سيؤسس دستوراً وتكونت لجنة وضع الدستور من خمسين شخصاً وفيهم ثلاثة من الإخوان المسلمين من أفضل الإخوان فى القانون الدستورى، فوضعوا دستور ٥٤ الذى ما إن رآه جمال عبدالناصر حتى اشتعل غضباً لأنه كان يعطى الشعب سلطة فوق السلطة التنفيذية وألقاه فى سلة المهملات، ومن هنا جاءت التسمية «دستور فى صندوق الزبالة».

وقد أصدرت الصحف نص دستور ٢٣ ونص دستور ٥٤، وأصدرت إحدى هيئات المجتمع المدنى كتاباً من تأليف الأستاذ الكبير صلاح عيسى.

من هذا الاستعراض يتضح أن وضع الدستور كان عملية تمت فى عهود سابقة وما عليهم إلا أن يراجعوها ويحدثوا من التعديلات ما يريدون.

ومن الأخطاء السارية فكرة تكوين المجلس لجنة الدستور من مائة عضو لإصدار دستور توافقى، فى حين أن هذه الفكرة ليست هى الفكرة السليمة، فالفكرة السليمة هى تكوين لجنة وضع الدستور من أعضاء فنيين يطبقون ما يريده مجلس الشعب والأمة.

أما الدستور فإنه الجهاز التنظيمى لعمل الدولة وهو الذى يقسمها إلى ثلاث سلطات «السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية»، ويحدد اختصاص كل منها، ويحول دون الخلط بينها بقاعدة الفصل بين السلطات.

من هنا فإن فكرة تكوينه من المجلس وتحديد العدد بمائة مما لم يكن له داع قط، فإن لجنة مثل لجنة ٢٣ هى من ٣٠، أو لجنة ٥٤ «كانت من خمسين»، وسيحدد ممثلو الشعب للجنة الدستور الاتجاهات الرئيسية لما يكون عليه الدستور، وتحقيق هذا كله ليس عسيراً بفضل التجارب السابقة.

لم تكن هناك حالة «دربكة»، على أن هناك نقطة تمثل أهم ما فى الدساتير، ولم نلمس اهتماماً بها هى أن الدستور هو رمز حرية الشعب وحكمه لنفسه، وهو الحاجر ضد أى تصرف مستبد للحاكم.

ومن هنا فيجب أن تكتب المواد الخاصة بحرية الفكر فى ظل عدم وجود ما يوقفها أو يعرقلها مادامت فى حدود، ما لم يكن فيها قذف أو ابتزاز.

فلا يجوز مصادرة كتاب لأنه نقد نصاً دينياً، أو أنه تحدث عن أحد الصحابة حديثاً يسىء إليه، وأهمية ذلك أن هذا النقد لن ينال من الدين لأنه يثير الرد ويوجد نشاطات فى إثارة الفكر الإسلامى، وعلى القضاة أن يفهموا أن الإسلام هو «القرآن»، أما ما يتعلق من سُـنة غير منضبطة، وكلام الفقهاء فى مذاهبهم فهذا ما ليس حصانة القرآن، والنص على هذا هو ما حرص عليه القرآن نفسه وفى العديد من آياته، ولكن الفقهاء رفضوها وأخذوا بحديث مسلم «من بدل دينه فاقتلوه».

أما الإساءة إلى المرأة فتعود إلى كم رهيب من الأحاديث الموضوعة التى تحط من منزلة المرأة أو تلزمها الحجاب أو النقاب وتحول دون انطلاقها فى الحياة العامة.

وقد آن للهيئات الإسلامية أن تتحرر من هذا الفهم السقيم، فلا يوجد نص على ذلك، خاصة أن هذا سيعد مخالفة للحرية التى يجب أن تعم المواثيق جميعاً.

وأهم المواد التى يجب أن تتوفر فى مواد الدستور هى ما يتعلق بالحريات؛ لأن الشعوب تنظر إلى الدستور باعتباره حامياً لحريتها واستقلالها، ويمكن للجنة المسؤولة أن تستفيد مما جاء فى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان والوثائق الدولية العديدة.

وهذه الحريات هى أعظم ما يفخر به دستور، وأعظم ما يوجب على الشعب رعايته واحترامه والدفاع عنه، ذلك أن الحرية هى التى توجد الإنسان القوى العزيز وأبواب الإبداع الحر الذى يأمن من الذل ولا يضعف أمام الإغراءات، ولأن حرية الفكر ستُفتح للإنتاج، كما أن حرية المعارضة السياسية ستكشف الأخطاء أولاً بأول وستجعل الشعب شريكاً فى الحكم أو على الأقل عارفاً به، ولأن حرية النقابات ستحمى العمال من استفحال الرأسمالية وشأفتهم فى حياتهم.

وفى الهيئات الإسلامية العامة اتجاه قوى ضد المرأة وضد حرية الفكر، وكذلك ضد قضية المرأة.

إن حرية الفكر أمر يجب ألا يمس ولو بذريعة الدين باعتبار أنه أمر مقدس، ولا يجوز الاقتراب منه، ولابد لكل دستور من الاعتراف به، ولابد أن تكون صياغة المواد التى تتعلق بأمر حرية الفكر صياغة صريحة لا التواء فيها ولا أن يذكر فى آخرها «فى حدود القانون».

كذلك فإن لدى الهيئات الإسلامية فكرة سيئة عن المرأة، وهناك كم من الأحاديث الموضوعة التى تحط من منزلة المرأة، أو تلزمها الحجاب أو حتى النقاب الذى هو وصمة عار، وقد آن للهيئات الإسلامية أن تتخلص من هذا الفهم السقيم الذى لا يتفق أبداً مع الإسلام ولا مع حرية المرأة واعتبارها إنساناً ولها نفس حقوق الإنسان.

بهذا كله تتقدم الأوطان.