إسلام السلطان (١٢)


جمال البنا
الحوار المتمدن - العدد: 4002 - 2013 / 2 / 13 - 10:10
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


لابد أن نعترف أن إسلام الإنسان لم يبق طويلاً، لقد وقف عند سنة أربعين هجرية عندما حوَّل معاوية بن أبى سفيان الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض حفـل بكل ممارسات الإرهاب التى تقترن بحكم قيصــرى أو كسروى، وحدثت مع هذه النقلة فى الأساليب والحكم الانتقال من مكة والمدينة وهما صميم العرب إلى الشام التى حكمتها بيزنطــة لقرون طويلة، ثم إلى بغداد التى كانت قبلاً محل حكم الفرس، ولم يكن هذا العهد الإرهابى جديدًا عليهما فتقبلتاه، ومن هذا التاريخ ظهر إسلام السلطان بصور متفاوتة.

كان هناك أسباب عديدة أدت إلى هذا.

أولها: أن التطورات التى أدت إلى تكوين «دولة» المدينة أولاً تحت رئاسة الرسول، وثانياً تحت رئاسة الخلفاء الراشدين أدت إلى نوع من الخلط بين تحقيق الخطوط العريضة التى وضعها القرآن للدولة الرشيدة وبين إقامة «دولة إسلامية»، والعجز عن تميز الفروق الضخمة بين دولة المدينة فى عهد الرسول التى لا يمكن القياس عليها، وأى دولة «إسلامية» أخرى، فدولة المدينة انطلقت من جذر واصل هو سيادة الإنسان باعتباره خليفة الله على الأرض، فى حين أن كل الدول الأخرى بما فيها أى دولة إسلامية ستنطلق من سيادة الحكم، وقد كان الصحابة معذورين لأنهم لم يتبينوا أن الملابسات الواقعية هى التى دفعت الرسول لإقامة دولة المدينة، وليس الفرائض الدينية، وأن دولة الخلفاء الراشدين التى أعقبت دولة الرسول كانت استمرارًا لحكم الرسول بفعل ملابسات عملية أيضًا، ولما كان تأسيس دولة إسلامية لابد وأن يؤدى فى النهاية لاستغلال الدولة للدين، فإن هذا هو ما حدث سنة ٤٠ هجرية إذ تحولت الخلافة إلى ملك عضوض، ولم يكن من هذا مناص لأن السلطة ــ التى هى أبرز خصيصة الدولة وتتجلى فى الحكومة ــ تفسد الأيديولوجيا وما تقوم عليه من قيم، وكان هذا فى أصل الانحراف من إسلام الإنسان إلى إسلام السلطان.

لا يمكن أن نضائل من الوحشية التى مارستها الدولة الأموية، إن خطبة زياد البتراء كانت مانيفستو إرهاب يرهب كل الناس حتى يقولوا«انج سعد فقد هلك سعيد»، وتماثلها خطبة الحجاج التى قال فيها «إنى أرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها».. الخ، وما مارسه عبدالملك بن مروان ثم جاءت الدولة العباسية فكانت أسوأ من الأموية.

وكان فساد هذا الحكم هو أكبر عامل أفسد المجتمع الإسلامى وقضى عليه بالتأخر والتخلف وحال دون تقدمه وأنسى تماماً «إسلام الإنسان» ليصعد «إسلام السلطان».

ولا يشفع لهذه الخلافة، أموية أو عباسية، أنها فتحت الفتوح ونشرت الإسلام لأن هذا كان ممكناً بدونها ولما ازدهر من شعر أو أدب أو تخصصات إسلامية (حديث ــ فقه ــ تفسير)، لأن المهم هو كرامة الإنسان وخدمة الإنسان، وقد انحط الإنسان فى هذه العهود حتى كاد يفقد إنسانيته، فضلاً عن أن سوء الحكم أهدر ما وصل إليه المجتمع من تقدم.

وثانياً: إن زحف الإسلام السريع الذى لم يسبق له مثيل فى التاريخ «ربما يماثله شيئاً ما فتوحات الإسكندر» فسماحة الإسلام أدت إلى ضم الملايين من سكان الدول المفتوحة الذين أسلموا، وزاد عددهم عن عدد العرب، فضلاً عما كانوا يتمتعون به من مهارات بحكم حضاراتهم السابقة واستطاعوا بسرعة أن يهيمنوا على العلوم الشرعية من تفسير أو حديث أو لغة أو فقه، ومع أن هؤلاء أرادوا خدمة الإسلام، فإن وراثتهم الحضارية، فارسية، رومانية، هندية، بيزنطية، أثرت على طريقة معالجتهم للفنون الإسلامية، ويجب أن نعلم أن هناك بالإضافة إلى الوراثة البيولوجية التى تؤثر على الخصائص الجنسية للإنسان وراثة حضارية تؤثر على طريقة التفكير والتعامل، وأنهم بهذه الصفة الأخيرة أدخلوا مفاهيم غريبة على الفكر الإسلامى، كما كانوا مستعدين للمهادنة مع الحكم العضوض الذى ألفوه قروناً سابقة.

ثالثاً: إن حديث الكيد للإسلام يعود إلى أيام الرسول فإن اليهود ومشركى مكة أرادوا أن «يَلغوا فى القرآن» لأنه هو أصل الإسلام، «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ» (فصلت:٢٦)، ولكن القرآن كان مصوناً فى صدور الرجال مثبتاً على كل ما يصلح للكتابة فعجزوا عن أن يلغوا فيه بطريقة مباشرة، ولكنهم اصطنعوا أحاديث تشوه القرآن وتدخل فيه ما ليس فيه وتخرج منه آيات بحجة النسخ وتعيد أسباب النزول إلى «أسباب مضحكة مزرية»، وقد حدث هذا الكيد أيام الرسول، ولكن لم يظهر إلا عند تدوين السنة، وعندئذ اعتبر من الأحاديث التى يأخذ بها المحدثون لأن هؤلاء الكائدين وضعوا لها سندًا يرقى إلى عبدالله بن عمر بن الخطاب أو عبد الله بن عمرو بن العاص أو السيدة عائشة، ولم يكن المسلمون ينظرون فى السند حتى فتنة عثمان فجازت عليهم هذه الأحاديث، وكانت الأساس الأكبر فى إفساد فهم القرآن وفى تلويث معانيه وأحكامه وعليها اعتمد أعداء الإسلام فى الكيد له والتنديد به وعليها صدرت أحكام بعيدة كل البعد عن روح الإسلام الحق.

نتيجة لما دس على الإسلام من كيد لوث السُنة وأفسد الكثير منها، ولسوء الحكم انحرف الفكر الإسلامى، وبوجه خاص الفقه الإسلامى عن ممارسات وأفكار الفترة النبوية وخلافة أبى بكر وعمر، وخضع لضرورات العهد وبدأ مسيرة طويلة لم يكن فى حسابها الإنسان، ولكن التخصصات فى الفقه، والحديث والتفسير التى تضخمت وتعددت بحيث ارتؤى فى القرن الخامس الهجرى إغلاق باب الاجتهاد وسجن الفكر الإسلامى فيما جاءت به المذاهب الأربعة وأصبحت الكتابات الإسلامية اجترارًا وتكرارًا أو شرحًا لما جاء به أئمة المذاهب، وأطبق هذا الفكر السلفى على الفكر الإسلامى إطباقاً حال دون أن يرى شيئاً آخر غيره.