إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ


جمال البنا
الحوار المتمدن - العدد: 3918 - 2012 / 11 / 21 - 09:20
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


أجل إِنَّهَا إٍحْدَى الْكُبَرِ أن يخرس ذلك الصوت المدوى الذى كان ينقل إلى المصريين فى أمريكا وفى كندا وبعض دول آسيا وأفريقيا ليعرفهم بأخبار مصر ويشركهم فى همومها وآلامها وآمالها، الذى نقل إلى المشاهد المصرى فنوناً من التجديد فى السياسة والدين، وعرفهم على الآراء الجديدة والفهم الجديد للإسلام، الذى ينتشل المشاهدين من ظلمات الجهل والخرافة والغفلة إلى إعمال العقل ومناقشة المشاكل والقضايا العالقة والخاصة بشؤون مصر، وأن يسهروا مع البرامج الشيقة التى أبدعتها قنوات «دريم».

وقد كان صدقى باشا، غول الصحافة فى المرحلة الليبرالية فى مصر، لا يجرؤ على مصادرة صحيفة لمدة أسبوع، وكان قصارى جهده أن يصادر العدد الذى جاء به موضوع الشكوى، وكان الوطنيون يتفقون مع الصحفيين على العمل على إسقاط المؤامرات على البلاد ويفتحون أبواب العمل والخبرة فيكونون جيلاً جديداً من الصحفيين والكُتاب والإعلاميين. إن «دريم» بقنواتها المتعددة وبجهودها الدائمة الدائبة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من هيكل الثقافة المصرية الجديدة.

وقد ادعى المسؤولون عن الإعلام المصرى دعاوى إدارية ومالية، وسواء كانت دعاوى وزير الإعلام صحيحة أو كاذبة، فإن الأمر لا يتطلب قطع البث الذى هو بمثابة الموت بالنسبة للهيئات الاعتبارية، وما كان أسهل على وزير الإعلام، وقد كان صحفياً، أن يجلس مع المسؤولين عن إدارة «دريم» وتسوية المشاكل المتعلقة بما لا يفقد المؤسسة كيانها ونشاطها، وبما لا يحرم المشاهد، الذى عاقبه دون أى ذنب جناه، فضلاً عن هذا كله أدى إلى قطع أرزاق وتوقف عدد كبير من الذين يعملون فى «دريم»، ابتداء من السائقين والعاملين والفنيين حتى الكُتاب ومقدمى البرامج فى وقت شح فيه سوق العمل التى يعانى فيها الشعب المصرى من بطالة خانقة قد تؤدى إلى ثورة جياع.

إن هذه القضية تمس أمرين:

الأول: أمر دريم. والثانى حرية الفكر.

وقد أشرنا إلى الأمر الأول بما يكفى، لأنه يفتح الباب على المشاكل العديدة التى أثارها هذا القرار العجيب.

وعلى الرغم من تعنت وزير الإعلام مع قنوات «دريم» تعنتاً واضحاً يدل على تصفية حسابات سابقة، فإن «دريم» مدت له وللحكومة حبال الصبر، ولكنه عاند وأصدر أوامره بقطع الكابل عن القنوات دون سابق إنذار، مع أنه تجاهل تطبيق هذا القانون على قنوات أخرى تبث إرسالها من مصر طوال الـ٢٤ ساعة، مما يدل على أن المقصود بهذا العمل المشين هو مالك هذه القنوات، رجل الأعمال الدكتور أحمد بهجت، الذى يُعد من أعظم رجالات الأعمال أثراً فى الاقتصاد المصرى منذ أن قام بالاستثمار فى مصر، لكى يقيم مدينة كاملة ويوفر لقمة العيش لجيش من العاملين، ومنهم من يعمل فى هذه القنوات التى جعلت المواطن المصرى يستنشق الحرية ويعرف معناها من خلال البرامج الحوارية التى كانت تستضيف أعلام المفكرين.

وننتقل الآن إلى الشق الثانى من القضية، ويبدو أن الحزب الحاكم لا يعرف أن هناك شيئاً اسمه الحرية، وأن هذه الحرية هى أعظم ما فى الوجود بالنسبة للمجتمع الإنسانى، لأنها كالهواء بالنسبة للإنسان، كما أن الهواء ضرورى للجسم فإذا امتنع مات الجسم، فإن الحرية ضرورية للمجتمع فإذا انعدمت شل المجتمع، والحرية منحة منحها الله تعالى لعباده لكل الجنس البشرى كى لا يستبد به الحكام المطلقون ولا الرهبان المحرمون والمحللون، كما كان الحال فى مجتمعات سابقة تفرض الحكم المطلق من الملوك المتعاونين مع الكهنة والكنيسة، فجاء الإخوان المسلمون وبالذات حزب يسمى «الحرية والعدالة» ليضرب بالحرية عرض الحائط، وهى المقدسة فى كل المواثيق الدولية، وفى بعض الوثائق يقولون حق الحرية الذى لا يمس، لأنهم يرون أنه من الحقوق الطبيعية ويشيرون بذلك على طريقتهم أنها من الله وأنه لا يجوز أن يمس إنسان الحرية التى منحها الله تعالى، وقد كانت الحرية فى أصل تقدم الأمم، فحيثما تكن الحرية توجد العزة والكرامة والاستقلال، وحيثما يقض على الحرية يحل الجهل والفقر والمهانة والأمراض، وتنحط الحياة وكرامة الإنسان.

إن حرية الفكر ليست ملكاً لرئيس الوزراء ولا لرئيس الجمهوية، إنها هبة من الله تعالى منحها لبنى الإنسان جميعاً مقابل المساواة فى المساءلة عما يقترف من ذنوب، وهذا لا يتأتى إلا إذا كان لهم الحرية الكاملة فى الممارسة، وقد قبل الله تعالى وهو خالق كل شىء هذا، فلا يجوز لأحد أن يمس هذه الحرية، وفى هذا السبيل أصدر الآيات الصادعة بحرية الفكر فى القرآن الكريم مثل: «وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، «لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ»، «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ»، ومن هنا فإنها تكون أكبر وأعظم من أى حرية أخرى.

وقد قلنا فى بعض كتاباتنا: إن الحرية فى الحضارة الأوروبية تنبع من الإنسان، ولكنها فى الإسلام تنبع من الحق، ومع هذا فهناك فصيلة من الحرية لا وصاية للحق عليها، لأنها هى السبيل لتوضيح الحق من الباطل، وقد ارتضى الله تعالى هذا بالنسبة للدين، فالمفروض أن يتقبله البشر بالدعم والتأييد والاتباع والطاعة، وقد وجه القرآن الكريم الرسل ليكونوا مجرد دعاة ليس لهم من الأمر شىء، ولا يستطيع أحدهم أن يهدى من يشاء، ولكن الله يهدى من يشاء، عن طريق عملية بيّنها ووضحها، وهذا واضح من توجيه القرآن للرسول، وأنهم بشر مثل الناس يمشون فى الأسواق ويأكلون الطعام ويدعون إلى الله دون أن تكون لهم أى سلطة على الناس، فالرسول ليس جباراً ولا مسيطراً، ولا حتى وكيلاً، وكل دوره هو أن يبلغ الناس كلمات الله، فمن آمن بها فقد انتهى دور النبى بالنسبة له، ومن لم يؤمن فحسابه على الله، وليس أدل على ذلك من أن القرآن لم يسن عقوبة على الردة عن الدين وعن الذين جعلوا دورهم الكيد للإسلام والنفاق معه، وقال: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً».

ولام الرسول لوماً شديداً عندما ألحّ على بعض سراة قريش فى الدعوة إلى الإيمان، ولم يرد على سؤال فقير أعمى، وقال له بصريح العبارة: «وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى»، فهذه الآيات كلها والوقائع من أن الرسول لم يوقع على الذين مسوا الإسلام ونصبوا أنفسهم لمقاومته والكيد به، رغم أن الآية صرحت بكفرهم. من هذا نعلم أن الإسلام يقدس حرية الفكر أكثر مما جاء به أى دين آخر، لأنه يجعلها حقاً إلهياً لا يجوز المساس به.