الأصول الأربعة (٣-٤)


جمال البنا
الحوار المتمدن - العدد: 3792 - 2012 / 7 / 18 - 09:17
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

فى مثل هذه الأيام منذ مائتى عام كان المصريون يخوضون المعارك تحت لواء محمد على على أرض مصر جنوباً حتى يبلغ بها منابع النيل، ويضم إليها تلك الممالك التى كانت حولها، ثم يصعد إلى أعلى، فيدخل بلاد العرب ويسيطر على نجد أولاً ويهزم الدعوة الوهابية الناشئة، ثم يسير حتى يسيطر على بقية بلاد العرب بما فيها الحرمان، ويسير يميناً حتى يبلغ الشام، وتلك المنطقة التى تمتد من حدود مصر حتى الجبال التى تبدأ منها حدود تركيا، وفى هذا العهد كانت مصر تمتلك أمراء جيوش وقادة بحريين ومديرين لمصانع الأسلحة والسفن.

باختصار بلغت مصر أقصى نمو وامتداد لها قبل أن تأتى معركة نفارين البحرية المشؤومة سنة ١٨٢٧م، التى كانت بداية النهاية حيث تجمعت أساطيل أوروبا لتهزم أسطول مصر ولتعيد الأمور إلى ما كانت عليه، وليخرج محمد على من هذه الصفقة بولاية مصر الممتدة جنوباً إلى منابع النيل.

وقد مرت مائة عام قبل أن تفيق مصر من آثار هذه الصدمة المروعة، لتجد نفسها فى حدودها التاريخية التى كانت عليها أيام عهد الملك مينا من الإسكندرية حتى أسوان، واحة هادئة تمثل بداية مصر الليبرالية، التى انتهت إليها مع بدايات القرن الثانى من الهزيمة المؤلمة.

فى هذا العهد كانت مصر بلداً هادئاً وديعاً يعمل أهله بكل قوة ليعوضوا المجد العسكرى الزائل بأمجاد أدبية وفنية، فقد ظهرت الفنون والآداب وكبار الكتاب مثل «رفاعة الطهطاوى وجمال الأفغانى ومحمد عبده وطه حسين وأحمد أمين وتوفيق الحكيم ومصطفى مشرفة وأحمد شوقى وحافظ إبراهيم والعقاد والمازنى ومحمد مختار».. إلخ، من الدين صنعوا مجد مصر المعاصرة.

كان لابد من ذكر هذه المقدمة لتاريخ مصر الحضارى، ونحن نجتاز فترة عصيبة تهدد باغتيال حلم النهضة الذى تصبو إليه مصر، الذى يتماثل مع تمثال نهضة مصر.

وفى الأيام الحالية ومع انتصار الإخوان المسلمين، قد يوجد ما يهدد بمحو هذا العصر وإيجاد بدائل أخرى من خلال التاريخ العربى الإسلامى.

نريد أن نقول لهؤلاء إن النهضة المصرية التى كادت أن تتم قرناً من الزمان قد أوجدت مجموعات من الشعب تؤمن بها وتعمل لها، وهى تستلهم أفضل ما فى الحياة الحديثة، وتعمل بالمشاركة مع القوى الدولية العالمية بما يحقق الخير حتى تأمن من عواقب العثرات والتجارب الفاشلة، خاصة أننا لم نستطع أن نتوصل إلى حماة ودعاة يحمون تلك النهضة بقوة ويواصلون السير والمسيرة، وهم مؤمنون بأن النصر يكون فى تقدم الأمم، والله تعالى جعل للإنسان عينين فى مقدمة الرأس، لينظر بهما للأمام وليس إلى الخلف.

إننا فى سياقنا التاريخى مع قيام ثورة ٢٥ يناير بدأنا المسيرة للأسف الشديد بالمقلوب، حيث وضعنا العربة أمام الحصان، وانغمسنا فى محاولات ومجادلات عقيمة قبل أن نضع الدستور، وهو بوصلة العمل السليم، فكانت النتيجة انتكاسات متوالية، فهل يريد البعض منا انتكاسات أخرى فى مجال الفنون والآداب، ونتنكر لها ونبحث عن بدائل لها، ولن يزيدنا هذا الأمر إلا خبالاً؟

أريد أن أقول للإخوان المسلمين: سيروا مع إخوانكم حيث انتهى الركب، وإذا كانت هناك شوائب فى ممارسة بعض الفنون والآداب، فليس العلاج هو اقتلاعها، ولكن التخلص من العناصر غير المفيدة، وثقوا فى أن الجيل الحاضر مازال محتاجاً إلى أن يتأدب على أيام طه حسين، وشوقيات شوقى، وذكريات العقاد، وتربية سلامة موسى، وتعادلية توفيق الحكيم، ونظرية مشرفة فى الذرة.. إلى آخر هذا الجيل الذى كافح كفاحاً طويلاً حتى حقق ما وصل إليه.

وأذكر الإخوان المسلمين بأنهم فى ثلاثينيات القرن الماضى استطاعوا أن يكوِّنوا مسرحاً إسلامياً بدأه الشقيق الأستاذ عبدالرحمن البنا الملقب بـ«الساعاتى»، وهو أديب وداعية، وكانت غيرته على الإسلام ونبيه، صلى الله عليه وسلم، هى الدافع إلى التفكير فى إنشاء مسرح إسلامى ليرد هجوم أعداء الإسلام بمثل أسلوبهم وعن طريق المسرح، فليكن للإسلام مسرح يرد الكيد، وقد بدأ بمسرحية «جميل بثينة»، وهى مسرحية شعرية قام بإخراجها الأستاذ زكى طليمات ومثلتها فرقة اتحاد الممثلين وقام بتمثيلها عمالقة التمثيل فى ذلك الوقت «جورج أبيض وأحمد علام وعباس فارس وعبدالعزيز خليل وحسن البارودى وفتوح نشاطى»، وقامت بالبطولة فيها «عزيزة أمير وفاطمة رشدى وأمينة رزق»، ونجحت المسرحية وقوبلت بالإعجاب والاستحسان، ونالت تقدير لجنة تشجيع التمثيل بوزارة المعارف العمومية، وقد عرضت على دار الأوبرا الملكية بالقاهرة سنة ١٩٣٤م، وتوالت بعد ذلك المسرحيات وكانت تعرض فى الوجهين البحرى والقبلى، وقد نالت تلك العروض الإسلامية النجاح والتوفيق، وكانت مجالاً خصباً لنشر الدعوة، وقد أذيع معظمها فى محطة الإذاعة اللاسلكية المصرية.

إذا كان للإخوان هذا التراث مع المسرح، فلا أرى ما يؤدى إلى خلاف فى المستقبل، بل يمكن البدء من حيث انتهت التجربة.

■ سألنى سائل عن المادة الثانية، فقلت: إن الصيغة الخاصة بها هى أفضل الصيغ، لأنها تستلهم مبادئ الشريعة فى جوهرها وقلبها، فى حين أن كلمة «أحكام»، التى طالب بها البعض، إنما تمثل بضعة من الحلول ستغرقنا فى الجدل العقيم تبعاً للمذاهب والملل والشيع، لأن الأحكام تتأثر بالعوامل العارضة التى يظهر المستقبل فشلها.

■ وسألونى عن وثيقة الأزهر فرأيت فيها خيراً كثيراً، وتطبيقاً لما طلبنا من أن يكون الأزهر حراً غير مقيد بسياسة الدولة التى تنفق عليه من مالها.

ولكننى لم أفهم أن يكون الأزهر هو مرجعية الدولة فى كل ما يتعلق بالإسلام، فهذا ليس من الإسلام فى شىء، إنه «بابوية» تضع العمائم، إن الأزهر ليس هو الإسلام.. والإسلام ليس هو الأزهر، وهل نريد محكمة تفرض حكمها على باقى الأحكام؟ إن من مزايا الإسلام أنه ليست فيه بابوية ولا محاكم، ولأن هذه الفكرة تناقض مبدأ الاجتهاد الذى يجب أن يمنح لكل من يرى فى نفسه الاستطاعة و«حسب ما آلوا» كما قال معاذ وأقره الرسول، فضلاً عن حديث الرسول «استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك».