الدعوة لتطبيق الشريعة «١ - ٣» ..هل هى نكسة أم نهضة؟


جمال البنا
الحوار المتمدن - العدد: 3911 - 2012 / 11 / 14 - 10:01
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

كان يجب أن يكون هذا المقال عن «تدمير الحركة النقابية تحت جنح الظلام»، ننبه فيها الأذهان إلى المؤامرة التى تقوم بها وزارة العمل لمد حكم القيادات النقابية من الفلول، وذلك بإجراء تعديل القانون ٣٥ لسنة ١٩٧٦م يقضى بذلك، ولكن ثورة إخواننا السلفيين لم تدع لنا مجالاً، وإذا كان الشارع المصرى والحارة المصرية والقرية المصرية كلها تؤيد تطبيق الشريعة، وتعنى بهذا على وجه التحقيق قطع يد السارق ورجم الزانى مع تطبيق أحكام المرأة، التى لم يرد بها قرآن ولا سُـنة، فإن هناك وجهة نظر أخرى ترى أن الاتجاه لدعوة تطبيق الشريعة إنما قام به فى الماضى الحكام دون الفقهاء ليشددوا بها قبضتهم على الناس وينقلونهم من سماحة الشريعة إلى بطش السلطان، وأن هذه المحاولات بدأت من عهد عمر بن عبدالعزيز ولم يقدر لها البقاء لوفاته، وعادت مرة أخرى مع أبوجعفر المنصور الذى كان يريد أن يجعل من «الموطأ» للإمام مالك، المرجع التشريعى الوحيد، وكان أول من رفض ذلك هو الإمام مالك نفسه، الذى أوضح له أن فى الأمصار المختلفة فقهًا ومن الصعب تحويل الناس عنه، وهذا الموقف المستكن من فقهاء الشريعة ينم عن ناحية لم يتنبه لها أحد، تلك الناحية هى أن القانون الجنائى فى الشريعة لا يمثل الحدود فيه إلا العشر تقريبًا وبقية العقوبات «تعازير» أى عقوبات يضعها القاضى بوحى تكييفه للتهمة، وأنه فى هذه الحالة كان القانون والقضاء شيئاً واحدًا،

وقد يطلقون عليه قضاء الحالات السابقة، ويدعم ذلك أيضًا أن القياس وهو الحكم فى حالة حديثة تماثل حالة قديمة صدر فيها الحكم فإن هذا الحكم يسرى على الحالة الحديثة قياسًا من الحديثة على القديمة، وهذا الإحساس المستكن عند الفقهاء عن أنهم العنصر القاضى فى الحكم كان يحول دون أن يتحول نظرة الناس إلى الشريعة إلى قانون يخضع له الناس بمقتضى الإذعان بينما كانوا يتقبلون الحكم من الفقيه القاضى بحلاوة الإيمان، وأن الشريعة تفقد شيئاً فشيئاً نفسها عندما تتحول إلى قانون وتفقد قداستها وما يصطحب معه من الإيمان بالله والقربى إليه وتصبح مجرد قانون تصدره الدولة وتشرف سلطاتها على تطبيقه.

فهل فكر دعاة تطبيق الشريعة فى هذه الاحتمالات والتطورات التى ينتهى إليها التطبيق المنشود؟

إن بعض الذين وضعوا هذه الاحتمالات نصُب أعينهم وجدوا أنفسهم وهم يعارضون تطبيق الشريعة فعندهم أن من الأفضل أن تكون الشريعة فكرًا بين الناس يؤثر فيهم ويتفاعل معهم بحكم أفضليته ومنزلته من أن يكون قانوناً مفروضًا عليهم من الدولة.

«وخلاصة القول أن شعار تطبيق الشريعة يقود إلى نتائج تتناقض مع أهداف الذين يطرحونه، فهو يحتم تدوين الفقه فى صورة تقنين قانونى، وهو يقلل من شأن الشريعة، ووظيفتها الاجتماعية عندما يضعها فى مرتبة القانون القامع».

وهذا هو المأزق الذى يتطلب اجتهادًا جديدًا حتى تخلص الشريعة منه، وهو ما تحاول «دعوة الإحياء الإسلامى» أن توفره.

■ ■ ■

على أن هذه الإشكالات كلها تصغر أمام الإشكاليات التى تظهر مع محاولات تقنين المذاهب الإسلامية المتعددة ولا يمكن الحكم على أساس مذهب دون المذاهب الأخرى، كما لا يمكن الأخذ بمزايا كل مذاهب وإدماجها عند وضع القانون الجديد، لأن أصول أخذ الأحكام فى كل مذهب تختلف عنها فى المذاهب الأخرى، فلا يمكن «التلفيق كما يقولون».

وعمليًا فى المرة الوحيدة التى طبق فيها تقنين الشريعة تم ذلك على أساس المذهب الحنفى، لأن فقهاء هذا المذهب كانوا فى العراق، وهى قاعدة الحكم الإسلامى وقتئذ، فلم توجد مقاومة على عكس ما حدث عندما أراد الصفويون أن يطبقوا المذهب الشيعى الاثنى عشرى فى إيران إذ قاومت ذلك بقية العناصر، أى المذاهب الأخرى، ولم يتم إلا بعد قتل الألوف من البشر.

ويتعرض دعاة تطبيق الشريعة لمشكلة أخرى هى الاختلاف حول طريقة استخراج الأحكام من الأدلة، وهذه الأدلة هى الكتاب والسُـنة والقياس والإجماع إلى أدلة أخرى أقل شأناً، فهناك خلاف محتدم يستغرق أكوامًا من الكتب فى تحقيق كل مصدر من هذه المصادر من القرآن حتى الإجماع ولم يحسم الأسلاف هذه القضية حتى الآن، ويعجز علماؤنا أن يحسموا فيها إلا بعد استغراق عشرات السنين.

ولكى أضرب مثالاً لهذا أقول إن على فقهاء اليوم أن يحسموا القول فى قضايا مثل التفاسير التى هى نوع من التطفل على القرآن والقول بالرأى فيه، ثم هى بعد ذلك محشوة بالإسرائيليات والأحاديث الضعيفة، وما كان ساريًا من أقوال أقرب إلى الخرافة، ولقد قال ابن كثير «لا يفسر القرآن إلا القرآن»، وقال الشيخ الشعراوى «إنه لا يقدم تفسيرًا ولكن خواطر حول القرآن»، ومعنى هذا أنه لا يؤخذ بالتفاسير أصلاً من الطبرى حتى سيد قطب، ومن فروع ذلك أن يرفض ما يسمونه النسخ الذى يأخذ به المحدثون مثل حديث عكرمة عن قتل المرتد.

وكذلك استبعاد فكرة أسباب النزول، لأن القرآن لا يقدم قصصًا، ولكنه يضع مبادئ لا علاقة لها بالتفاصيل.

وإذ انتقلنا إلى السُـنة وهى المرجع الثانى بعد القرآن لرأينا أن السُـنة قد أفسدت من الأيام الأولى، وأن الكتب التى يقال عنها الصحاح، وأهمها صحيح البخارى ومسلم يوجد فيها مئات الأحاديث التى بها من المآخذ ما يرجح عدم العمل بها.

وأوجه الأنظار إلى أحد المحققين فى تخريج الأحاديث وهو الشيخ متولى إبراهيم، الذى لم يرزق حقه من الشهرة، كتب «مقدمة عن قصور قواعد المحدثين من صحة الأخبار»، وذهب أنهم فى التوثيق مختلفون، وفى الاتصال مختلفون، وفى التدليس مختلفون وفى الإرسال مختلفون وفى شروط الصحة مختلفون، وهم يشترطون ألا يكون الراوى مجهولاً ثم يصححون رواية المجهولين أو ألا يكون مجروحًا ويصححون روايات المجروحين، وهم يدعون إلى التصريح بوجود الضعيف فى البخارى ومسلم، يؤدى إلى الجرأة على الآثار وتمهيد الذرائع إلى الشك فيها، والشيخ متولى يرى أنه لن يحسم الخلاف فى السُـنة إلا بعد توفير موسوعتين:

الأولى: موسوعة رواة تميز بين من وثقهم معاصروهم توثيقاً حقيقيًا بالشهادة عمن وثقهم غير معاصريهم توثيقاً مجازيًا بالسبر.

الثانية: موسوعة آثار بشواهد المتون ومذيعات الأسانيد وبترتيب يسهل كشف الطرق والسماعات والشواهد والمتابعات.

وحتى يحقق الله تعالى ما أراد من هاتين الموسوعتين فإنه قد قدم بما لديه من وسائل، خلاصة دراسة عن حديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» من خلال موسوعة خاصة على حاسوب به نحو ٢٦٥ ألف طريق، فضلاً عن المتلقى من أمهات مطبوعة وانتهى البحث، إلا أن الرواة جميعًا فيهم كلام ولا تسلم رواية واحدة من شكوك، وبالتالى فلا يمكن الأخذ بهذا الحديث الذى اعتبر حجة فى قتل المرتد.