إسلام الإنسان «1-3»


جمال البنا
الحوار المتمدن - العدد: 3988 - 2013 / 1 / 30 - 09:24
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

القضية المحورية فى الإسلام، والتى يكون منها المنطلق هى أن الله تعالى أراد أن يجعل الإنسان خليفة له على الأرض، ووضع العوامل التى تحقق هذه المشيئة أفضل تحقيق سواء كان ذلك بالنسبة للزمان والمكان، أى الوقت الذى يأتى بعد اليهودية والمسيحية ويكون بمثابة النهاية لمسيرة البشرية، كما أراد للإسلام أن يظهر فى صحراء العرب على وجه التعيين، وجعل الطبيعة الإنسانية وطبيعة الإسلام تتلاقيان فى الوقت والمكان المعينين، وبالتالى فإن كل الخيوط تتلاقى فى العوامل وتتفاعل لتحقيق المشيئة الإلهية التى تتبلور فى «إسلام الإنسان» الذى مَثـَّـل الأساس النظرى والكيان العملى لخلافة الإنسان «إسلام الإنسان».

جاء الإسلام بعد أن مضت ستة قرون على المسيحية، وبعد أن طال الجدل حول طبيعة الأقانيم الثلاثة وعلاقتها ببعضها، وبعد أن توصلت الكنيسة إلى وجود قوى وبارز دون أن تحل المشكلة اللاهوتية للأقانيم، وما كان يمكن لهذه الافتراضات اللاهوتية أن تحل إلا بظهور الإسلام الذى يقدم رؤيته عن «الله».

وظهر الإسلام فى شبه جزيرة العرب حيث تنبسط الصحراء كالبحـر وتنطلق الرياح كالعواصف، وبين أقوام لم يكدحوا بأيديهم فى الأرض، ولم يحملوا على ظهورهم الحجر، مما شغل حياة الناس فى العهود القديمة، كانوا أحراراً يعيشون عيشة البداوة وتحكمهم الفطرة أو العرف، ويعيشون فى خيام يذهبون بها حيث الرعى أو فى بيوت ساذجة ويتحملون الحر اللافح نهارًا والبرد القارص ليلاً، ويعبدون آلهة من صنعهم فما كانت تملك تحريمًا أو تحليلاً أو تفرض قداسة أو «تابو»، ولم يكن لديهم ميثولوجيا.

وكان البساط الأصفر المترامى للصحراء، والرياح المنطلقة دون ما يصدها من جبال شاهقة تمثل أبرز خصيصتين لهذا المجتمع: المساواة والحرية، فلم يعرف المجتمع العربى القديم النظم الطبقية، ولا الألقاب الوراثية، ولا الحواجز ما بين الطبقة العليا والطبقة الدنيا.

كيف تصور الإسلام الطبيعة البشرية؟

إن القرآن الكريم عندما عالج قضية الخلق، لم يسلك مسلك التوراة فيتحدث عما خلقه فى كل يوم من الأيام الستة حتى جاء اليوم السابع فيعطيه إجازة وراحة، إنه عندما أشار إلى خلق السموات والأرض تحدث عنها باعتبارها دليلاً على وجود الله والإيمان به، ولأنها على روعتها فهناك ما هو أكثر روعة هو الإنسان الذى بعد أن تحدث عن طريقة خلقه ــ كما سنشير إليها لاحقاً ــ تابع الحديث عنه فى كل صفحات المصحف بحيث يمكن القول إن القرآن كتاب يتحدث عن الإنسان فى شبابه وشيخوخته، فى غناه وفقره، فى أمله ويأسه، فى صحته ومرضه، فى استشرافه للهدى واستسلامه للشهوة، فهو فى حقيقته كتاب عن الإنسان.

وعندما أشار إلى خلق آدم اختلفت رواية القرآن عن رواية التوراة، فقد خلقه الله من طين لازب فأعطاه الطبيعة الأرضية ونفخ فيه من روحه فأعطاه العقل، والضمير، والوعى، والإرادة، ثم علمه الأسماء، وهو لا يسلك مسلك التوراة فى تحديد الأشياء وأسمائها لآدم، ولكن يقول «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا» باعتبار أنها مفاتيح المعرفة، بعد هذا قرر أن يجعل الإنسان خليفة له فى الأرض، ولما أعربت الملائكة عن دهشتها، أجرى بين آدم وبين الملائكة مناظرة، تميز فيها آدم على الملائكة بفضل معرفته الأسماء، وأمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا «إبليس» وهو الشخصية التى يرمز بها الإسلام للشر ولإغواء آدم، وتكريم للإنسان فى دين يقوم على التوحيد لله يكون أعظم تكريم يقدمه هو أن يوجد خليفة لله.

ولكن الطبيعة البشرية معقدة ومركبة، تتلاقى فيها الأضداد، فقد ورثت عن أصلها الطينى غرائز مادية، وأنانية تجعلها تميل للشهوات من مال أو جاه أو نساء أو نفوذ أو سلطان، كما ورثت من نفخة الله الضمير والوعى والإرادة، كما أنها بفضل تهيئة الله تعالى عندما «علمها الأسماء كلها» أى وضع فى يدها مفاتيح المعرفة بحيث يمكن أن ترتاد عالم العلم العجيب وما يتيحه لها من إمكانيات.

وأراد الله تعالى أن يختبرها فسلط عليها الشيطان، وأعطى هذا الشيطان «شيك على بياض» لخداع الإنسان وتضليله وصرح له باستخدام كل قدراته الفائقة التى يتميز بها عن الإنسان، وأن يستمر فى أداء دوره حتى يوم الساعة.

ولكن الطبيعة البشرية رغم هذا، وبحكم النفخة الإلهية فيها توق للإيمان وإحساس مبهم بوجود الله، وقدرة ما على التمييز ما بين الخير والشر، والإسلام يطلق على هذه الملكة «الفطرة» التى يولد بها كل الأطفال حتى يتولى الأبوان توجيه هذه النزعة الإيمانية إلى الدين السائد «يهودية، أو مسيحية، أو بوذية»..إلخ.

كان على طبيعة الإسلام هذه أن تتلاءم مع مقتضيات ممارسة مسؤولية الخلافة خاصة وقد هيأ الله تعالى الزمان والمكان والطبيعة البشرية لتقبل ذلك، وبقى أن تأتى طبيعة الإسلام سائرة فى الاتجاه نفسه.

ونتيجة لأن الإسلام دين الفطرة، فلم يجد الإسلام حاجة لإجراء يثبت به «إسلامية» الإنسان، ومن هذا المنطلق – منطلق الفطرة – لم يتقبل الإسلام كدين فكرة «الرهبنة» والابتعاد عن عالم الحياة الدنيا، والتخلص من الثروة والالتزام بالعفة، أى عدم المخالطة الجنسية حتى لو كانت بين الزوجين، وقال الرسـول «لا رهبانية فى الإسلام»، ورأى أن رهبانية الإسلام هى الجهاد لمقاومة الاستسلام للشهوات الجامحة وليس مقاومة الالتزام بما توحى به الفطرة والطبيعة البشرية التى لا يمكن أن تتنكر أو تتجاهل أقوى الغرائز - الغريزة الجنسية ــ ومن ثم جاء حرصه على الزواج الذى يكفل قضاء ما تتطلبه حياة الإنسان، وقد رفض الرسول مسلك مجموعة ارتأت أن تقوم الليل، وتصوم النهار، ولا تقرب النساء، ورأى أن هذا يخالف الفطرة، ولا يعد من سُـنة النبى الذى كان يصوم ويفطر، وينام ويصلى، ويتزوج، ويقر الملكية.