الإسلام القياسى (2-3)


جمال البنا
الحوار المتمدن - العدد: 3953 - 2012 / 12 / 26 - 02:01
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

«السُـنة»

للوهلة الأولى يبدو لنا أنه لا توجد قضية خاصة بالسُـنة، لأن الله تعالى فى العقيدة الإسلامية هو الخالق المبدع لهذا الكون من البداية حتى النهاية، ولا يمكن ولا يتصور أن توجد قوة أخرى بجانبه ولا أن يوجد له شريك فى الحكم، وهو أمر أكده وأقره الفقهاء، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية «إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها فى دنياهم» فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التى أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع. وأما العادات فهى ما اعتاده الناس فى دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيها عدم الحظر، فلا يحظر منها إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن الأمر والنهى هما شرع الله، والعبادة لابد أن تكون مأموراً بها، فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور؟

ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون إن الأصل فى العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله، وإلا دخلنا فى معنى قوله تعالى «لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ»، والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه الله، وإلا دخلنا فى معنى قوله تعالى «قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً».

وأكد الرسول نفسه «أن الحلال ما أحله الله فى كتابه والحرام ما حرم الله فى كتابه وبينهما عفو فاقبلوا من الله عافيته».

وقال الرسول «ذرونى ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشىء فخذوا منه ما استطعتم» ومرة ثالثة «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وصمت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها» فإذا كان الأمر كله لله فلا يبقى للسُـنة ما ترعاه وإنما أرسل الله الرسل لمجرد تبليغ لمجرد التعريف بالله والدعوة إلى الأديان لأن الله تعالى لا يمكن أن يظهر للناس كفاحاً ولا أن يكلمهم صراحة ولا هم يعرفون شيئاً عن طبيعته أو كنهه، فاقتضى ذلك أن يرسل رسلاً ليوكل إليهم رسالته ويبلغهم من غير زيادة أو نقصان وإذا تم هذا يكون الرسول أدى مهمته. وحتى يصبح ما لله كله خالصاً لله وليس للرسول شىء فيه إلا التبليغ فإن الله رفض أن يرفق الدعوة للإسلام بمعجزة تجعلهم يصدقونه وعندما ألح عليه المشركون فى ذلك قال «قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً» (الإسراء:93).

وعملياً فما إن قام الرسول بدعوته حتى هبت على السُـنة عواصف كادت تقتلعها، فما إن حدثت الفتنة الكبرى بتعبير شوقى أولاً ثم طه حسين ثانياً حتى تزلزلت منزلة السُـنة، فظهر الخوارج الذين رفضوا شهادة كل من حضر التحكيم، ورفضوا حديث الأئمة من قريش الذى أقامت عليه السُـنة قضية الحكم، ورفضوا قتل الزانى المحصن لأنه لم يرد فى القرآن، وفى مقابل الخوارج ظهرت الشيعة الذين لا يؤمنون إلا بخلافة علىِّ بن أبى طالب وأولاده من فاطمة الزهراء، ويرفضون شهادة كل رواة الحديث فى السُـنة باستثناء بضعة منهم، وفى مرحلة تالية من التاريخ الإسلامى ظهر المعتزلة الذين يأخذون بأصولية العقــل فى الإسلام، وأن الحديث الذى يؤخذ به هو من كان مجمعاً علي، كما قال واصل بن عطاء، وبهذا لا يؤخذ بأحاديث الآحاد فأنت ترى أن العواصف التى هبت على السُـنة منذ أيام الفتنة الكبرى حتى المعتزلة كادت تزلزل السُـنة فإذا وضعتها بجانب ما أشرنا إليه من تأكيد القرآن أن الأنبياء ليس لهم أى شىء إلا التبليغ فكان يفترض ألا تكون هناك قضية للسُـنة.

ولكن الواقع جاء عكس ذلك فقد ظهرت السُـنة وتضخمت، وأصبح الحديث هو حصن الإسلام، وكثرت الأحاديث المتداولة حتى زادت من خمسمائة حديث كانت متداولة فى المدينة أيام أبى بكر وعمر إلى مئات الآلاف التى يحفظها كل محدِّث على حدة، وبلغ نفوذها أن قال قائلهم إن القرآن أحوج إلى السُـنة من السُـنة إلى القرآن.

فكيف إذن حدثت هذه المفارقة الكبرى.. حدثت لوقوع عامل مهم لم يكن متصوراً فى أذهان المسلمين أيام الرسول وأبى بكر وعمر، هذا العامل هو تطور الدعوة الإسلامية من دعوة ساذجة على مستوى المدينة إلى مستوى الإمبراطورية ذات العواصم العديدة فى العالم الإسلامى، وفوجئ المسلمون ذات يوم بوجود قضايا ومشاكل ومسائل لم تكن معروفة فى عهد الرسول عندما كان الإسلام مقصوراً على المدينة ومكة، وإنما حدثت هذه القضايا والمسائل لأن مدن الإسلام حفلت بالأسرى والأجانب من الأجناس الأخرى الذين جذبهم الإسلام إليه وفى دولة إسلامية لابد لكل قانون أن يعتمد على حكم من القرآن أو من السُـنة الثابتة.

وعندما فوجئ الفقهاء بعدم وجود أحاديث تجيب عن هذه المشاكل التى لم تكن موجودة فى عهد الرسول، وبالتالى فلم ترد فى السُـنة ولا فى القرآن، نقول وجد هؤلاء الفقهاء أنفسهم فى وضع لا يحمدون عليه، فمن ناحية كان لابد من سند من القرآن أو السُـنة، ومن ناحية أخرى فإن السُـنة كما كانت أيام أبى بكر وعمر لم يكن فيها ما يحقق إرادتهم، وبعد فترة من الحيرة انتهى الفقهاء إلى خيار صعب هو وضع الأحاديث، وكان عذرهم فى هذا أنهم لو لم يفعلوه ويبتغوا به أقرب الأسباب إلى السُـنة والقرآن فعلاً فإن الحاكم سيحكم بهواه وبما هو أسوأ مما يمكن أن يخطر لهم فوجدوا أنفسهم بين بدائل كلها أسوأ مما انتهوا إليه، وهكذا وضعوا على بركة الله الأحاديث بقدر ما وسعتهم المعرفة والحكمة، وكانت النتيجة أن أصبحت الأحاديث النبوية أروج سلعة فى أسواق الإمبراطورية، ووجد من يحفظ مائتى ألف حديث ويوجد من يحفظ ستمائة ألف حديث، حتى قيل إن الإمام أحمد بن حنبل كان يلم بمليون حديث.

ويجب أن يدرك القارئ أننا لم نبالغ أبداً، وأن هذه الحالة أزعجت المحدثين المتقين وألفوا عشرات الكتب عن الوضاعين للأحاديث، وزادت مهمتهم صعوبة بعد أن ظهرت فئة تضع الأحاديث لا خوفاً من حاكم أو رغبة لكسب رضائه، وذلك أنهم وجدوا أن الناس انصرفوا إلى فقه أبى حنيفة ومالك والشافعى وانقطعوا عن القرآن فوضعوا أحاديث فى ثواب كل من يقرأ أو يحفظ سورة، فمن قرأ سورة كذا بنى الله له بيتاً فى الجنة، ومن حفظ سورة كذا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ولما قيل لهم: ويلكم.. أتكذبون على رسول الله؟.. قالوا: بل نحن نكذب لحساب رسول الله (حاجة تجنن)، وفيما نرى فإن فى الأحاديث الخمسمائة التى كانت موجودة أيام الرسول وأبى بكر وعمر ومتداولة ما يكفى لأن تؤدى السُـنة دورها، لأن العملية ليست بالعدد ولا يمكن أن تلاحق بالعدد أفعال العباد، فهى متجددة دائماً، وسنحتاج إلى أنسكلوبيديا، وهناك حديث واحد مثل (إنما الأعمال بالنيات) وهو من رواية عمر بن الخطاب وحده، ومثل حديث (المؤمنون عدول يسعى بذمتهم أدناهم)، وحديث (لا ضرر ولا ضرار)، وأمثال هذه الدرر، لأن المفروض أن تحدد مصادر الأحكام المبادئ وليس الأفعال التى لا تنتهى.