«وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً»


جمال البنا
الحوار المتمدن - العدد: 3939 - 2012 / 12 / 12 - 09:16
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

فى سنة ١٩٥٦م عندما تآمرت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر، فيما سُمى بالعدوان الثلاثى، وزحفت جيوش إسرائيل على سينا، بينما هاجم الأسطول البريطانى بورسعيد، لم يجد جمال عبدالناصر منبراً يُسمع المصريين صوت مصر إلا منبر الجامع الأزهر.. ومن منبر الأزهر أعلنها مدوية «حنحارب».

ترى لو كان السيد وزير الأوقاف موجوداً وقتئذ.. هل كان يمكن أن يقول لعبد الناصر: إن المساجد لها حرمة ودورها أداء الشعائر.. لا إعلان الحرب؟

لقد كانت «دور العبادة» من مساجد وكنائس هى المهد الذى حوى الأديان الناشئة، كانت أشبه بالرحم الذى يضم الجنين ويحميه، ومع تقدم الدعوة الدينية أصبح المهد هو «المنتدى» و«البرلمان» للدعوة، فيه تناقش الأمور، وفيه تعرض القرارات، كانت الصيحة «الصلاة جامعة».. دعوة للمسلمين لكى يهرعوا للمسجد لا ليؤدوا صلاة، ولكن ليسمعوا أخبار أنباء الانتصارات، وليحضروا قسمة الغنيمة، وقبل الانتصارات كان المسجد هو مركز الدفاع عن الإسلام شعراً، والرد على هجاء المشركين، وأقام الرسول لحسان بن ثابت منبراً لينشد، وفيه جاء الذين أسلموا من قريش ليعلنوا إسلامهم، وأنشد الشاعر قصيدته: «بانت سعاد فقلبى اليوم متبول»، ولم يصده أن كان فى المسجد - وأن الأمر دفاع عن الإسلام والرسول - أن يتغزل فى محبوبته، كما كان دأب الشعراء وتقبل الرسول ذلك ومنحه بردته، وخصص الرسول جانباً من المسجد يطلق عليه «الصُـفة» لفقراء المسلمين ممن ليس له قبيلة أو مأوى يعيشون فيها، وكان منهم أكبر المحدثين «أبو هريرة»، بينما خصص عمر ساحة للشعراء.

وفى المسجد عقدت البيعة للخلفاء الراشدين.

كان الجامع فى الإسلام هو أداة لتحقيق الديمقراطية وإعلان رأى الجماهير ومراقبة الحكام ومتابعة تصرفاتهم، وفيه وقفت امرأة ترد على أمير المؤمنين المطاع - عمر بن الخطاب - لأنه أراد أن يحد من قيمة المهور التى تغالى فيها الناس، فقالت: «ليس ذلك لك يا عمر.. وسألها الخليفة: لم؟ فقالت: لأن الله تعالى يقول: «وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً» (النساء: ٢٠)، فقال عمر: «أصابت امرأة وأخطأ عمر».

وعندما توسع المجتمع الإسلامى، وانتشر الإسلام كانت المساجد هى ساحات العلم والثقافة والمعرفة، وداخلها نشأت المذاهب الإسلامية المقررة، بل تطورت أساليب ممارسة المعرفة بحيث وضعت أصول الدراسات الجامعية التى تطبقها حتى الآن أعرق الجامعات البريطانية من حرية الدراسة ومن العلاقة الوثيقة بين الدارس والأستاذ، ومن استبعاد القيود والشروط.. إلخ، بل إن كلمة «جامعة» إنما اشتقت من التعبير الإسلامى «جامع»، وقد ظل الأزهر يحمل اسم «الجامع» الأزهر قبل أن يجعلوه «الجامعة الأزهرية».

ومن مائتى سنة كان شيوخ الأزهر هم القادة الطبيعيين لشعب مصر، وهم الذين كانوا يقودون الجماهير للانتصاف فى ظلم المماليك، وأعظم من هذا أنهم هم الذين جعلوا من محمد على حاكماً وألبسوه خلعة الولاية، وأعلنوا الحرب على الحاكم الذى أرسله الخليفة التركى من الآستانة، وحاصروه حتى اضطر الخليفة أن يستقدمه، وقد ولى الشيوخ «محمد على» الحكم سنة ١٨٠٥م واشترطوا عليه أن يحكم بالعدل وإلا أقالوه، فهل هناك صورة من سيادة الشعب أوضح من هذه الديمقراطية الطبيعية المباشرة.

وقد أكد صفوت الشريف فى أيامه الخالية: إنه التزاماً من الدولة من منطلق مسؤوليتها فى الحفاظ على حرمة أماكن العبادة لتحقيق رسالتها الإيمانية على الوجه الأكمل، واحتراماً لقيم ومشاعر الساعين للعبادة الخالصة لله تعالى، واستكمالاً لإجراءات تنظيم كل ما يوفر احترام وهيبة أى نشاط فى بيوت الله جاء هذا المشروع للحفاظ على حرمة أماكن العبادة. وأوضح أن الدستور أقر نصوصاً قاطعة حول حرية الاعتقاد وحرية ممارسة الشعائر الدينية، ولكن حرية ممارسة هذه الشعائر لا تبيح استخدام دور العبادة لأمر غير ذى صلة بممارسة الطقوس، أو أن تكون دور العبادة ساحة للجدل فى قضايا بعيدة عن الدين والاعتقاد، وعلى نحو يخل بحرمتها ويدنس قداستها وقدرها وسمو رسالتها، ولهذا جاء مشروع القانون، مانعاً لممارسة أى شكل من أشكال التظاهر داخل دور العبادة وساحاتها كما نص على معاقبة كل محرض على التظاهر.

نقول هذا كلام معسول يراد به تكميم الأئمة والخطباء عن أن يتحدثوا إلا كما تريد لهم الحكومة، كما أن الغالبية العظمى من دول العالم لا يوجد بها تشريعات تحرم التظاهر داخل دور العبادة.

فكيف تحرم المساجد من هذا الحق؟

وأين يمكن أن يمارس إذا لم يمارس فى المساجد ورسالتها الأولى هى «تجميع» المؤمنين وتوصيل رسالة الإسلام إليهم؟

ولماذا تقبلون أن يدعى للحاكم من على منبر المسجد إذا كانت المساجد لمجرد الصلاة فحسب؟

نقول للذين سنوا هذا القانون: «ارفعوا أيديكم عن المساجد».

دعوا المساجد مفتوحة حتى عندما ينتقد الخطباء الأخطاء التى يقع فيها مسؤولون كبار أو صغار.

وإذا كان بعض الخطباء يستغلونها لإعلان آراء مسرفة، أو خاطئة أو غير ذلك، فليست هذه إلا ردود فعل سيئة لأفعال سيئة، وستظل قائمة فى المساجد وفى غيرها، حتى يُصَحَّح الفعل فينتهى رد الفعل.

أذكر أننى سنة ١٩٨٣م كنت فى الولايات المتحدة، عندما ثارت مجموعة من المسلمين المتشنجين فطردوا الإمام المصرى للمسجد، واعتصموا فيه احتجاجاً على رفع العلم الإسرائيلى فى مصر بعد معاهدة كامب ديفيد، فلما طلب السفير المصرى من الأمن أن يتدخل اعتذر بأنه لا يستطيع ذلك لأنه مكان عبادة، ولا يمكن لهم أن يمسوه.

فهل يكونون أشد تقديراً لقداسة المسجد من المسلمين أنفسهم؟

مرة أخرى: «ارفعوا أيديكم عن المساجد».