خالد محمد جوشن
محامى= سياسى = كاتب
(Khalid Goshan)
الحوار المتمدن-العدد: 8571 - 2025 / 12 / 29 - 02:47
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
الفصل الثانى
الهة الطبيعة والمجتمع الانسانى
إله الشمس
مما هو جدير بالاهتمام ان نلاحظ ما صار اليه الجنس البشرى في مصرالتي كانت تعتبر جزيرة المنعمين في مدة خمسة الاف سنه ، وان نقتفي –كما هو في مقدورنا الان-اثاره .
وهو تطورخلال بضعة اجيال كان يستعمل فيها الالات والاسلحه الحجرية العتيقه الي استعمال الازميل النحاسي ، وبلوغه تللك الدقه البنائية العجيبة التي تتجلي لنا في الاهرام مع ضخامتها المدهشة ، وارتقائه من سكني الكوخ المصنوع من غصون الشجر، الي اقامة القصور الفاخرة الزاهية المجملة بالقشانى والمؤثثة بالرياش الفاخر والذهب المرصع.
ثم بعد ذلك ناخذ في تفاصيل تلك الخيوط التي حيكت منها حياته المتعددة النواحي التي صارت في النهاية تؤلف نسيجا متينا فخمامن المدنية ، واننا نحاول هنا اقتفاء اثرخيط واحد فقط من تلك الخيوط التي حيك منها هذا النسيج ، وذلك لانه يتعرج هنا وهناك بالتواءاته الدقيقة المعقده في كل جهاته .
والواقع انه لاتوجد قوة اثرت في حياة الانسان القديم مثل قوة –الدين
لان تاثيرها يشاهد واضحا في كل نواحي نشاطه –ولم يكن اثر هذه القوه في اقدم مراحلها الاولي الا محاولة بسيطة ساذجة يتعرف بها الانسان ماحوله في العالم ويخضعه ، بما فيه الالهة لسيطرته ، فصار وازع الدين هو المسيطر الاول عليه في كل حين.
فما يولده الدين من مخاوف هي شغله الشاغل وما يوحي به من امال هي ناصحه الدائم وما اوجده من اعياد هي تقويمه السنوي وشعائره برمتها- هي المربية له والدافعة له علي تنميته الفنون والاداب والعلوم .
علي ان الدين لم يمس حياته في جميع نواحيها فحسب بل الواقع ان الحياة والفكر والدين امتزجت عنده بعضها ببعض امتزاجا لا انفصام له يتكون منها كتلة واحدة تتداخل بعضها في بعض مؤلفة من المؤثرات الخارجية والقوى الانسانية الباطنة .
.
ولذلك كان طبعيا الايقف الدين جامدا من غير ان يتمشي من هذه العوامل الدائمة التطور من مرحلة الي مرحله . هكذا كان الحال منذ اقدم العصور التي وصل اليها.
وكل الاسباب تحملنا علي الاعتقاد بان الحال ستستمر كذلك: تطور وارتقاء . وسنري الان شيئا من هذا التطور الذي ظل فيه الكفاح قائما بين العالم الظاهرى المحيط بالانسان . والعالم الباطني الكائن في نفسه ,.
حتي تكون الدين وتحدد وافضي بالتدريج في نهاية الامر ظهور المبادئ الاخلاقية عند اقدم مجتمع بشري عظيم فى خلال تربو على ثلاثه الاف سنه .
وسيكون في قدرتنا تتبع سير هذا المنهج باظهار بيان ، اذا ابتدانا باستعراض ملخص تاريخي بسيط يكون بمثابة نظره عجلى علي مراحل تطور الرقي الاخلاقي عند المصريين الاقدامين .
وجدير بنا اذ وصلنا الي هذا المكان الا ننسي الحقيقة المتفق عليها الان وهي : ان الدين في طوره الاول لم يكن له علاقه بالاخلاق كما نفهمها الان , كما ان المبادئ الاخلاقية الاولى لم تكن سوي عادات شعبية قد لا تكون لها علاقة بالشعور بالالهة اوالدين.
وقد كانت مظاهر الطبيعة اول ما شعر المصري بوجود الالهة , مثله في ذلك مثل الشعوب الاخري القدامي . فكانت الاشجار والينابيع والاحجار , وقمم التلال , والطيور والحيوانات في نظره مخلوقات مثله او مخلوقات حلت فيها قوي طبعية غريبة لاسلطان له عليها .
ومن ثم كانت الطبيعة اول مؤثر مبكر فى عقل الانسان فوصف له العالم الظاهرى اولا بعبارات دينية رهيبة, وصارت مظاهر الالهية الاولي في نظره هي القوي المسيطرة علي العالم المادي .
فلم يكن في تصورات الانسان القديم بادئ امره معني لمملكة اجتماعية او سياسية , بل ولا معني لمملكة روحية تكون السيادة العليا فيها للالهة. وكان ابعد ما يتوهمه عتاد اله من هذه الالهة ان الههم يحمل نفسه فكرة الحق او الباطل .
او انه يرغب في وضع هذة المطالب علي كاهل عباده الذين كانوا يرون من جانبهم ان غاية مايطلبه الههم هو تقديمهم القرابين زلفي له، كما كانوا يفعلون لرئيسهم المحلي سواء بسوا ء..
علي ان امثال هذه الالهة كانت في جملتها الهة محلية كل منها معروف لدي منطقة معينه فقط , ولكن كثيرا ما كان يمتد الاعتقاد في اله ما الي جهات بعيده في العالم القديم بسبب الهجرة او انتشار السكان.
وفي العهد الذي جاء بعد سنه4000ق.م. بدات الحكومة , اي النظام السياسي الذي كانت البلاد تحكم به في عهد الاتحادين المتعاقبين , تحور مكانه في اذهان القوم بجانب ما حازته دنيا المظاهر الطبيعية.
وهذان الاتحادان اللذان يعدان اقدم ماعرف من الانظمة القومية العظيمة في تاريخ الانسان قد وضعا امام اعين الناس صورا خلابة لمظاهر الحكومة, فكان لذلك على مر الزمان اعمق اثر فى الدين ، ومن ثم بدأت المظاهر الحكومية تنتقل الى عالم الالهية حتى صار الاله العظيم يسمى فى بعض الاحيان ملكا .
وفى الوقت نفسه كانت علاقات الحياة الاجتماعية تؤثر تأثيرها فى الدين من زمن بعيد ايضا .
فوصلت دائرة حياة الاسرة الى درجة سامية من الرقى تزينها العواطف الرقيقة التى اوشكت على التعبير عن مظاهر الرضى او السخط ، وافضت الى تصورات عن السلوك الحميد والسلوك المعيب .
وبذلك بات المشاعر الباطنية " للضمير " تسمع صوتها للانسان . ولاول مرة صار الانسان يدرك القيم الاخلاقية كما نعرفها نحن الان .
وعلى ذلك اصبحت قوة الانسان الظاهرة المنظمة ، وقوة الوازع الخلقى الباطنة فيه ، تؤلفان قوتين مبكرتين فى تشكيل الديانة المصرية القديمة .
وتدل المصادر التى وصلت الينا على ان الوازع الخلقى قد شعر به المصريون الاقدمون قبل ان يوجد الشعور به فى اى صقع اخر ، فان اقدم بحث عرف عن " الحق والباطل " فى تاريخ الانسان عثر عليه فى ثنايا مسرحية " منفية " تشيد بعظمة مدينة " منف " وسيادتها ، ويرجع تاريخها الى منتصف الالف الرابع قبل الميلاد .
ويدل شكل المسرحية بداهة على انها بحث فى اصول العالم ما بين دينى وفلسفى ، وهى من تأليف طائفة مفكرة من الكهنة فى المعابد المصرية ، غير ان موضوعها لم يتناول ما كانت عليه حياة الشعب المصرى باسره فى ذلك الحين .
وسنرى كذلك كيف ان عامة الشعب اخذت بدورها فيما بعد تشعر بالوازع الخلقى الذى يصرفها فى حياتها .
وعلى ذلك يكون الشعور الخلقى قد انحدر تدريجيا من طبقة أشراف رجال البلاط الملكى وطائفة كهنة المعابد الى اشراف رجال الاقاليم اولا ثم الى عامة افراد الشعب ثانيا .
وقد ظهرت اقدم فكرة عن النظام الخلقى تجرى على قواعد راسخة فى عهد الاتحاد الثانى تحت سيطرة حكومة ثابتة ، وهذا النظام كان يعبر عنه فى اللغة المصرية القديمة بكلمة مصرية واحدة جامعة لها خطرها عى كلمة " ماعت " ويراد بها الحق او العدالة او الصدق .
وقد مكث هذا النظام راسخا مدة الف سنة من القرن الخامس والثلاثين الى القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد .
وقد كان لهذا النظام الاثر العميق فى العقل البشرى ، فلما سقط هذا النظام فى نهاية الالف سنة المذكورة حلت بالبشرية كارثة تشبه الكارثة التى حلت بالمدينة الخالدة باوربا (1) وغيرت نظرة بنى البشر نحو الحياة ، اذ فى فترة الضعف السياسى التى جاءت عقب سقوط هذا النظام بدأت القيم الخلقية التى لايمكن محوها ، تدرك من جديد بحالة اكثر وضوحا من ذى قبل .
ففى القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد كتب احد مولوك " اهناس " ( وهو مجهول الشخصية فيما عدا ذلك ) لابنه وخلفه كتابا يذكر فيه ما للقيمة الخلقية من سمو المنزلة .
ولما اصبحت الاخلاق منبوذة اثر سقوط النظام الخلقى ، وتدهورت الفضيلة نفسها " ماعت" حتى صارت لاتدرك الا بشعور خلقى اكثر حساسية عن زى قبل .
ظهر المجتمع الفاسد الاخلاق المنحل النظام الذى جاء بعد عصر الاهرام بشكل لا امل فى اصلاحه فى نظر بعض فلاسفة الاجتماع الذين هالهم ما رأوه من تداعى ذلك النظام الخلقى القديم ، ثم ظهر على أثر ذلك لاول مرة فى التاريخ عصر التشاؤم وزوال الوهم فان رسل الاجتماع فى ذلك الوقت رسموا لنا صورة بشعة عما كان موجودا من الفساد والفوضى فى ذلك العهد .
فاظهروها بعبارات مملوءة بالتهديد والوعيد ، وبالغوا فى وصف ذلك ايما مبالغة ، حتى انهم فى احدى الحالات وجهوا تلك التهديدات لشخصية الملك نفسه .
غير انه على الرغم من ذلك كان لايزال هناك نفر من بين هؤلاء الحكماء المصريين ممن لم يفقدوا الامل فى الاصلاح ، فقاموا باول جهاد مقدس لانقاذ العدالة الاجتماعية .
ومن المدهش حقا ان كان المثل الاعلى لحكماء الاجتماع هؤلاء اخذا شكل رسالة التبشير بقدوم المخلص التى جاءت فيما بعد ، وهى الاعتقاد بمجىء حاكم عادل يكون فاتحة عصر ذهبى لاقامة العدالة بين جميع بنى البشر ، وقد ورث عنهم العبرانيون هذا الاعتقاد فيما بعد .
وفى العهد الذى عادت فيه الحكومة المنظمة للبلاد وتقدم المجتمع الاقليمى فى العهد الاقطاعى الذى ابتدأ قبل حلول عام 2000 قبل الميلاد .
ظهر تاثير هذا الجهاد المقدس فى شكل المطالبة بالعدالة الاجتماعية ، وتمثل ذلك فى تصور نظام ملكى سمح ابوى رحيم يحمى المثل العليا للعدالة الاجتماعية .
ولما كان عالم الالهة لايزال على اتصال وثيق بشؤون الامة السياسية ، فانها لم تلبث ان احست بهذا التاثير الجديد ، فانتقلت صفات العدالة الاجتماعية من وصفها للحكومة الملكية الفاضلة الى صفات اله الدولة ، فازدادت بذلك المزايا الخلقية التى كانت تنسب الى حد ما للاله طوال مدة تربو على الف سنة .
فقد كان الاله فى نظر اتباعه من زمن بعيد يعبر " ملكا " فاصبح الان زيادة على ذلك " ملكا فاضلا " بالمعنى الاجتماعى ، يريد من اتباعه ايضا ان يعيشوا عيشة فاضلة .
واننا نجد الاعتقاد بوجود اله يهب الحياة للطيب ويقدر الموت للخبيث ، واردا فى المسرحية المنفية التى كتبت فى منتصف الالف الرابع قبل الميلاد ، اما فكرة المحاكمة فى " الحياة الاخرة " وقد اخذت تتحدد بوضوح مطرد امتد الى ما بعد عام 3000 قبل الميلاد .
فلم تكن الفكرة فى اقدم اشكالها تفترض حضور جميع الناس امام المحكمة ، وانما افترضت محكمة عدالة كالتى توجد على وجه الارض يحضر امامها الافراد لاصلاح الخطأ ، فكان فى اول الامر لزاما على الشخص المتهم فقط ان يحضر امام المحكمة فى " الحياة الاخرة " ليظهر براءة نفسه .
على ان فكرة المحاكمة العامة نشأت فى باكورة العهد الاقطاعى قبل عام الفين قبل الميلاد ، ثم اصبحت المحاكمة فيما بعد فى اوائل عهد الدولة الحديثة ( حوالى 1600قبل الميلاد ) لا تقتصر على حصر تفصيلى لكل المخالفات الخلقية ، وانما صارت امتحانا خلقيا قاسيا ، بل معيارا شاملا للقيمة الخلقية لحياة كل لاانسان .
وقد اصبح الشعور بمثل هذه المحاكمة وازعا خلقيا كما اراده اولئك الحكماء الذين خلقوه ، غير ان سلطان تلك المحاكمة مالبث ان مسخ مبكرا بالعوامل السحرية التى جاءت فى كتاب الموتى الذى الفه كهنة المعابد للكسب منه ، اذ زعموا فيه انه هناك وسيلة تساعد الميت على التخلص من العقوبة بمخادعة وتضليل ذلك القاضى الرهيب .
( 1 ) يقصد بالمدينة الخالدة روما
والى تتمة الفصل الثانى فى مقال قادم
#خالد_محمد_جوشن (هاشتاغ)
Khalid_Goshan#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟