أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - سرديّة فتح الله صغيّر لألفونس دي لامارتين ج2















المزيد.....

سرديّة فتح الله صغيّر لألفونس دي لامارتين ج2


فتحي البوكاري
كاتب

(Boukari Fethi)


الحوار المتمدن-العدد: 8569 - 2025 / 12 / 27 - 13:18
المحور: الادب والفن
    


نقلها إلى العربية:فتحي البوكاري.
في الثامنة عشرة من عمري غادرتُ حلب، مسقط رأسي، ومعي رأس مالٍ من البضائع، قصد أن أستقرّ في قبرص. وقد حالفني بعض التوفيق في السنة الأولى من مضارباتي التجارية، فألفتُ هذه الحرفة، واستحوذت عليّ فكرةٌ كانت وبالًا عليّ، وهي أن أحمل إلى ترييسته شحنةً من منتجات الجزيرة. ولم تمضِ مدةٌ قصيرة حتى شُحنت البضائع، وكانت من القطن والحرير والنبيذ والإسفنج والحنظل. وفي الثامن عشر من مارس سنة 1809 أبحرت السفينة، وكان ربانها القبطان شيفاليناتي. وكنتُ آنذاك أُحصي أرباحي مقدّمًا، وأغتبط بما تخيّلته من عوائد جسيمة، فإذا بخبرٍ مشؤومٍ يهجم على أوهامي العذبة: فقد استولت سفينةٌ حربية إنكليزية على مركبنا، واقتادته إلى مالطة. وإزاء هذه الخسارة اضطررتُ إلى تصفية حسابي والاعتزال عن التجارة، فغادرتُ قبرص مفلسًا تمامًا، وعدتُ إلى حلب.
وبعد أيامٍ من عودتي، دُعيتُ إلى مأدبة عند أحد أصدقائي، وكان في المجلس جمعٌ من الناس، فيهم رجلٌ غريب الهيئة، سيّئ اللباس، غير أنّه كان يحظى بتقديرٍ ظاهر. وبعد الطعام عُزفت الموسيقى، وجلس الغريب إلى جانبي، فحادثني بلطفٍ بالغ، وتحدّثنا في شؤون الموسيقى، ثم طال بنا الحديث، فقمتُ في آخره أسأله عن اسمه، فعلمتُ أنه السيد لاسكاريس دي فنتيميليا، وأنه فارسٌ من فرسان مالطة.
وفي اليوم التالي قصدني إلى داري، وفي يده كمان. قال لي عند دخوله: «يا بنيّ، لقد لاحظتُ بالأمس مقدار حبّك للموسيقى، وأنا منذ الآن أعدّك كابني، وقد جئتُك بهذا الكمان، فاقبله منّي.»
فتلقّيتُ الآلة بسرورٍ عظيم، إذ كانت على هواي تمامًا، وشكرته شكرًا جزيلًا. ثم دار بيننا حديثٌ مستفيض في شتى الأمور، دام ساعتين، ثم انصرف. وفي اليوم التالي عاد، واستمرّ على هذه الزيارات خمسة عشر يومًا، ثم عرض عليّ أن أعلّمه العربية ساعةً كلّ يوم، لقاء مئة قرشٍ في الشهر. فقبلتُ هذا العرض المربح بطيب نفس، وبعد ستة أشهر صار يقرأ العربية ويتكلم بها على نحوٍ مقبول.
وذات يوم قال لي: «يا ابني العزيز»، وكان يخاطبني بهذا اللقب دائمًا، «إني أراك مولعًا بالتجارة، ولما كنتُ أرغب في الإقامة معك بعض الوقت، أحببتُ أن أستخدمك بما يوافق ميولك. ها هو المال، اشترِ بضائع رائجة في حمص وحماة وما جاورهما. سنتّجر في البلاد التي يقلّ ارتياد التجّار إليها، وسترى أننا نفلح.»
وقد حملني حبي للبقاء مع السيد لاسكاريس، واقتناعي بنجاح المشروع، على قبول عرضه دون تردّد. وشرعتُ، بحسب قائمة أرسلها إليّ، في شراء البضائع، وكانت: أقمشة حمراء، وعنبرًا، ومرجانًا منظومًا، ومناديل قطنية، ومناديل حريرية سوداء وحمراء، وقمصانًا سوداء، ودبابيس وإبرًا، وأمشاطًا من خشب الصندوق والقرن، وخواتم، ولُجُم خيل، وأساور من خرز الزجاج، وسائر حُلِيّ الزجاج، وأضفنا إلى ذلك بعض المنتجات الكيميائية والتوابل والعقاقير. وقد دفع السيد لاسكاريس ثمن هذه الأصناف أحد عشر ألف قرش، أي ألفي تاليري.
وكان أهل حلب، إذ رأوني أشتري تلك البضائع، يقولون إن السيد لاسكاريس قد اختلّ عقله. والحقّ أن هيئته وسلوكه كانا يجعلان الناس يحسبونه مجنونًا: فقد كان يطلق لحيته غير ممشّطة، ويلبس عمامةً بيضاء شديدة الاتساخ، وجُبّة بالية أو قمبازًا، وتحتها صديري، ويشدّ وسطه بحزامٍ جلدي، وينتعل خفّين أحمرين بلا جوارب. وإذا كُلّم تظاهر بعدم الفهم. وكان يقضي أكثر نهاره في المقهى، ويتناول طعامه في السوق، وهو أمرٌ لا يفعله علية القوم. وقد كان لهذا السلوك غرضٌ عرفتُه فيما بعد، أما من جهلوا سببه فظنّوا به الخلل. أمّا أنا، فقد وجدته مملوءًا عقلًا وحكمة، بل رجلًا فذًّا.
وفي يومٍ كانت فيه البضائع قد أُعدّت جميعًا، دعاني إليه وسألني عمّا يُقال عنه في حلب.
فقلتُ: «يقولون إنك مجنون.»
فقال: «وأنت، ما رأيك؟»
قلتُ: «أراك مليئًا عقلًا ومعرفة.»
فقال: «آمل أن أُثبت لك ذلك مع الزمن، غير أنّ لي عليك شرطًا: أن تلتزم تنفيذ كل ما آمرك به من غير اعتراض ولا سؤال عن السبب، وأن تطيعني في كل شيء طاعةً عمياء، ولن تندم.»
ثم أمرني أن أحضر له بعض الزئبق، فأطعته في الحال. فمزجه بدهنٍ وعقارين آخرين لم أعرفهما، وقال لي إن خيطًا قطنيًّا يُغمس في هذا المزيج ويُعلّق في العنق يقي من لدغ الحشرات. فقلت في نفسي: ليست في حمص ولا في حماة حشراتٌ تستدعي مثل هذه الوقاية، فلا بدّ أنه معدّ لبلادٍ أخرى. غير أنني، وقد نهاني عن كل تعليق، اكتفيتُ بسؤاله عن يوم الرحيل لأستأجر المكارية.
فقال: «أمهلك ثلاثين يومًا للتنزّه، وصندوقي بين يديك، تمتع، وأنفق ما شئت، ولا تقتّر.»
فقلت في نفسي: لعلّه يريد مني وداع الدنيا! غير أنّ تعلقي به خنق هذه الخاطرة، فلم أفكر إلا في الحاضر، واستمتعتُ بالمهلة التي منحني إياها. ولكن، وا أسفاه! ما أسرع انقضاء أيام اللهو! فقد انتهت سريعًا، وألحّ عليّ السيد لاسكاريس بالرحيل. فامتثلتُ لأمره، واستفدنا من قافلةٍ متجهة إلى حماة، وغادرنا حلب يوم الخميس الثامن عشر من فيفري سنة 1810، ووصلنا بعد مسيرة اثنتي عشرة ساعة إلى قرية سرمين.
وفي اليوم التالي توجّهنا إلى مَعَرَّةُ النُّعْمان، وهي بلدة صغيرة جميلة تبعد ست ساعات، مشهورة بنقاء هوائها وعذوبة مياهها، وهي مسقط رأس الشاعر العربي الشهير أبي العلاء المعري، الذي كان أعمى منذ ولادته. وقد تعلّم الكتابة بطريقة عجيبة، إذ كان يُدخَل إلى الحمّام، ويُرسَم على ظهره شكل الحروف العربية بماءٍ مثلّج. وتُروى عنه طرائف في الذكاء، منها أنه كان في بغداد عند أحد الخلفاء، وكان كثيرًا ما يمتدح هواء بلده وماءها، فاستحضر الخليفة ماءً من نهر معرة النعمان، وقدّمه إليه من غير إعلام. فما إن ذاقه الشاعر حتى قال: «هذا ماؤها الصافي، فأين هواؤها النقي؟»
نعود إلى القافلة: فقد أقامت يومين في المعرّة لحضور سوقٍ يُقام هناك أيام الأحد. خرجنا نتجوّل، وفي الزحام غاب عني السيد لاسكاريس. وبعد بحثٍ طويل وجدته في مكانٍ منعزل يتحادث مع بدويٍّ رثّ الهيئة. فسألته متعجبًا أيّ لذّة يجد في محادثة رجلٍ لا يحسن العربية، ولا يستطيع هو أن يفهمه.
فقال: «إن اليوم الذي حظيتُ فيه بشرف الحديث مع بدويّ هو من أسعد أيام حياتي.»
فقلتُ له: «إذن ستبلغ ذروة السعادة مرارًا، لأننا سنلقى هذا الصنف من الناس على الدوام.»



#فتحي_البوكاري (هاشتاغ)       Boukari_Fethi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سرديّة إقامةِ فَطح الله الصغِير بين العربِ الرُّحَّلِ في الص ...
- من روائع الأدب المجري: السيّدة كاراشني، لإرنيو سيب
- رسائل من الميّت الحيّ
- باغ وبهار:حكايات الدراويش الأربعة لأمير خُسرو الدِّهلَوي -ج2
- باغ وبهار:حكايات الدراويش الأربعة لأمير خُسرو الدِّهلَوي -ج1 ...
- ليلة عاصفة، الفصل الأول من رواية -فتاة البحّار- لإيما ليزلي
- الإبحار الأخير للقارب -الدولفين-
- أطلقوا قارب النجاة! (ج1)
- حوار مع الفنان التشكيلي عمّار بوكيل: حين يتكلم الجدار بلغة ا ...
- ميراث البحر
- الفصل الأول من رواية ماري جونستون -1492-
- بئر السّاراسين
- تحطُّم منارة وينستانلي
- منارة إدستون: تاريخ هندسي ومغامرة بشرية
- في حضرة السرد وسحر الحكاية: قراءة في الخصال الأدبيّة لمحسن ب ...
- كنز القراصنة، مذكرات طبيب سفينة هولندي، لجورج غارتنر ج2
- كنز القراصنة، مذكرات طبيب سفينة هولندي، لجورج غارتنر - ج1
- وما زال الصوت يصرخ عاليا
- التعبير عن المقاومة الثقافيّة والبيئيّة في شعر محمد العروسي ...
- الشعبويّة في السلطة: تهديد أم تصحيح للديمقراطية؟


المزيد.....




- قضية صور ريهام عبد الغفور.. نقابة المهن التمثيلية تتدخل وتتخ ...
- إعلان بيع وطن
- أفلام من توقيع مخرجات عربيات في سباق الأوسكار
- «محكمة جنح قصر النيل تنظر دعوى السيناريست عماد النشار ضد رئي ...
- منتدى الدوحة 2025: قادة العالم يحثون على ضرورة ترجمة الحوار ...
- بدا كأنه فيلم -وحيد في المنزل-.. شاهد كيف تمكن طفل من الإيقا ...
- -رؤى جديدة-.. فن فلسطيني يُلهم روح النضال والصمود
- رسائل فيلم ردع العدوان
- وفاة محمد بكري، الممثل والمخرج الفلسطيني المثير للجدل
- استشهاد فلسطينيين اثنين برصاص الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة


المزيد.....

- دراسة تفكيك العوالم الدرامية في ثلاثية نواف يونس / السيد حافظ
- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - سرديّة فتح الله صغيّر لألفونس دي لامارتين ج2