فتحي البوكاري
كاتب
(Boukari Fethi)
الحوار المتمدن-العدد: 8418 - 2025 / 7 / 29 - 16:11
المحور:
الادب والفن
حاوره: فتحي البوكاري
في زغوان، المدينة التي تمشي على معالم التاريخ وتستحمّ بنسائم الأعشاب البرية، والمياه العذبة الزلالية، لا تنفصل الجغرافيا عن الذاكرة، ولا يبقى الجدار مجرد سطح صامت، بل يتحوّل إلى وسيط حيّ يُدوّن ما أهمله الكلام.
من هذا التداخل العميق بين المكان والروح، ينبثق فنّ عمّار بوكيل، الفنان التشكيلي والخطّاط، الذي لا يُمارس الرسم كتزيينٍ سطحي، بل كفعل استعادة للهوية، وكشف عما طمره الواقع المعيش تحت غبار النسيان.
ليست جدارياته التي تزيّن شوارع المدينة مجرّد لوحات في الفضاء العام، بل هي نصوص بصرية، تنخرط في حوار صامت مع المارّة، وتوقظ الذاكرة وتنشّطها، لتعيد تعريف العلاقة بين العين والجدار، بين الحرف والمكان، بين الذات والمحيط.
يكتب عمّار بالحبر والألوان، لا على الورق فحسب، بل على جسد المدينة، كمن ينقش سيرةً سرّية بين الطبقات الإسمنتية.
هذا الحوار لا يسعى إلى الكشف عن سيرة الفنان فقط، بل يحاول الإنصات إلى صوت الفن حين يخرج من حدود ورشة الفنان المغلقة ليزرع دهشته في الهواء الطلق.
لقد أتيح لي أن أزور بيت الفنان، ذلك الفضاء الأنيق والمنمّق الذي يتنفس إيقاع الخلق، حيث تتناثر أدوات عمله والألوان في فوضى خلاقة، وحيث تتجلّى ورشة عمله ومرسمه كامتداد عضوي لروحه.
من داخل هذا العالم، نسعى هنا إلى قراءة تجربة عمّار بوكيل لا كمجموعة من الأعمال المتفرقة، بل كمشروع جمالي متكامل، يعيد تعريف وظيفة الجدار، ودور الحرف، ومكانة الفنان في المدينة. فحوارنا مع الرسّام عمّار بوكيل هو، في عمقه، حوار مع الجدران الناطقة واللوحات، مع ذاكرة المكان، ومع إمكانية تحويل الفن إلى وسيلة استعادة وصحوة. سألته:
حدثنا عن البدايات الأولى: كيف تشكّلت علاقتك بالفن والخط منذ الطفولة؟ومن الذي اكتشف موهبتك وساندك في بداياتك؟
كان للنشأة والبيئة الأولى الفضل في إبراز مواهبي، وكانت الأسرة وكل ما يحيط بي مشجّعا على ممارسة الرسم أوّلا، وكأنّي فطرت على الرسم والتصوير، وهذا الأمر بديهي، فبالرجوع إلى تاريخ الإنسان البدائي نجده قد زيّن مسكنه الصخري بمشاهد من حياته اليوميّة. فالفنّ إنسانية الإنسان وشغفه وقدره، يعطي بذلك معنى لحياته، وكنت به مولع وشديد الشغف، فكلّما توفّر لي الوقت التجأت إليه لتبديده فيه. فالمحيط الأسري كان غزير العطاء ثريا، وبالغ الأهمّية، فالجانب الروحي وحياة الأسرة الهادئة المتوازنة كان حتما محفّزا وله تأثيره. فوالدي ووالدتي هما قدوتي الحسنة بالأساس. وإخوتي كانوا يتعاطون حرفا تقليديّة أو صناعات يدويّة سيمتها الإبتكار والإبداع والتعويل على الذات، رغم قساوة الحياة، وكنت داخل هذا الدفء العائلي أشبه بالنبتة التي لا تينع ولا تزهر إلّا بعد تفاعلها الحميم مع محيطها. وكان للمدرسة بطبيعة الحال دور مهم في صقل قدراتي وتطويرها، وما تلقّيته من تدريب وتوجيه على يد مربّين حازمين ومشجّعين دور في تنمية مواهبي، خاصة وأنّ ما كنت أرسمه من رسومات أو أخطّه من خطوط جميلة ومبتكرة كانت مبهرة ولافتة للانتباه.
وعندما تطوّرت الموهبة عبر مراحل التعليم أصبح الرسم أو الخطّ فكري الذي لا غنى عنه، فهو لم يعد بالنسبة إليّ متعة بصريّة فحسب، بل أيضا تجربة إبداعيّة ذهنيّة، لذلك عندما أفكّر أو أرسم أو أكتب أحيانا أشعر أنّني مازلت أتنفّس حياة، ولا أنقاد إلى اللوحة إلّا بعد صراع مضني، كذلك الفن عموما عسر لا يسر، وتعب وإرهاق، وصبر طويل. لقد شبّت عيناي على عالم الضياء والألوان في مختلف مراحل التعليم، وفي مختلف فرص التكوين والمعرفة، وبعد أن تعلّمت صناعة الرسم، لأنشأ من ذاتي شيئا أصيلا، فاض النور من داخله على مجمل لوحاتي، وأمام المغامرة التي لازمتني لسنوات طويلة، من خلال معارضي الشخصيّة الفردية منها أو الجماعية، سواء كان ذلك داخل الجهات أو في أروقة المعارض بالعاصمة، مع مختلف الأجيال من الرسّامين التونسيين
زغوان حاضرة بقوة في أعمالك، ما الذي تعنيه لك هذه المدينة؟
زغوان مدينة رائعة ذات سحر وجمال خلّاب، أو كما تُسمّى بالمدينة الأندلسيّة الموريسكيّة، هي ملهمتي بما توفّر فيها من ثراء وتنوّع، ماضيا وحاضرا، ومن فكر تشكيلي بالغ الأهمّية، مكّنتني من إنجاز عديد اللوحات كانت محور تجربة ذهنيّة أو متعة بصريّة أثّثت العديد من لوحاتي في أغلب معارضي الشخصية أو المشتركة.
كيف ترى دور الفن في تشكيل الوعي المجتمعي والثقافي؟
للفنّ دور ريادي في تهذيب النفوس وصقلها، وبقدر ما يتزايد إشعاع الفنّان يكون تأثيره قويا وقدوة للأجيال القادمة المتعطّشة للإقبال على التكوين والتعلّم، ومن خلال تجربتي في تأطير النوادي والورشات للأطفال أو للكبار ألمس لدى أغلبهم الرغبة المتزايدة للممارسة والخوض في غمار الألوان.
ما الذي دفعك لاختيار الجدران كمساحة للتعبير الفني؟
الجدران فضاء حر وممتع رغم أنّ ممارسة الرسم على هذا الوسيط متعبة وصعبة للغاية، إلّا أنه من خلال مشاركتي في عديد الورشات بتونس العاصمة أو في عديد الجداريات بزغوان لمست في عيون الناس تفاعلهم وإعجابهم، ممّا أضاف جانبا مهمّا لمتعتي وقدراتي الشيء الكثير.
إلى أيّ مدى ترى أنّ الخطّ العربي يمكن أن يكون تعبيرا حديثا؟
يعتبر الخطّ العربي فنّا من الفنون التقليديّة الكلاسيكيّة، فهو سجلّ الإنسانية جمعاء، وقد شهد تطوّرا باستمرار إنطلاقا من الكلاسيكيّة وصولا إلى الحروفية، أو ما يسمّى بالحروف البصريّة الذي يعنى بالتشكيل الجمالي، وقد نشأ في القرن العشرين ويهدف إلى تحرير الحرف العربي من قيوده التقليدية، وإعادة صياغته كلغة بصريّة معاصرة، وهو كذلك شكل من أشكال الفن التجريدي.
من هم الفنانون أو الخطاطون الذين ألهموك محليًا أو عالميًا؟
في الرسم التونسي: جماعة مدرسة تونس، أبرزهم الراحل زبير التركي، والهادي التركي،... ومن الخطّاطين فنّانو الحروفيّة: نجا المهداوي، وهو أبرز الحروفيّين التونسيين، والفنّان العراقي ضياء العزاوي، والفنان الجزائري العيدي الطيب، ووجيه نحلة الفنان اللبناني الذي يتعامل مع الحرف على أنّه رمز صوفي يمنح اللوحة دلالات روحانية.
هل واجهت صعوبات أو تحديات خلال مسيرتك في الرسم الجداري؟
الحقيقة إنتاجاتي في الجداريات قليلة مقارنة بأعمالي على المحامل الأخرى، ولكنّني أسهم بالمشاركة في تنشيط الشارع كلّما وقعت دعوتي لتظاهرات مهمة.
ما رأيك في واقع الفنون التشكيلية في تونس؟ وما الذي يحتاجه الفنانون الشباب اليوم؟
هناك ثراء وتنوّع وتطوّر وأعمال ذات قيمة لدى الأجيال الشابّة تواكب ديناميكيّة المجتمع وتطوّره، إلّا أنّ الفنّان في تونس مازال يحتاج إلى الدعم من حيث لا مركزيّة النشاط الثقافي داخل الجهات، وفسح المجال أمام التجديد والابتكار.
هل ترى أن الفن يمكن أن يكون أداة للمقاومة السياسية أو الاجتماعية؟
بقدر ما تولي المجتمعات قيمة وحضورا مكثّفا للفنّ في كلّ مناهج التربية والتعليم والثقافة إيمانا برسالته التربويّة الذهنيّة والإبداعيّة وتكثيف أدواره داخل المؤسّسات الثقافيّة والتربويّة والإعلاميّة فهو جوهر كلّ مقاومة سياسيّة واجتماعيّة، وهو من الضوابط المتّبعة لتقوية سلوك المجتمع عن طريق الخوض في المعارف والفنون المختلفة التي تهدف في مجملها إلى بناء وطن ومجتمع أفضل.
كيف تختار الألوان والرموز في أعمالك؟ هل ترتبط أعمالك بثقافة معيّنة؟
خبرت كل الأساليب والأنماط التعبيريّة بمختلف تقنياتها. وبعد أن أصبحت ملمّا بخصائص الألوان وطرق مزجها بذلك الحسّ الشاعري، وبتلك المفردات التشكيليّة البسيطة، والحسّ الجمالي، والفضاء الخيالي، والإدراك الطبيعي لتونس الأعماق ولارتباط الناس العميق بالحياة والوجود الإنساني، رسمت الحبّ والتفاؤل والأمل الذي شكّل عالمي الخاصّ، فأعمالي كلّها نابضة بالحركة والحياة.
ما العلاقة التي تربطك بالمكان الذي ترسم فيه؟ وهل تشعر أحيانًا أن الجدار يرشدك؟
علاقتي بالمكان علاقة حميمة ووطيدة، هو فضاء أرتاح إليه كثيرا، فهو يخفيني عن فضاءات التلوّث السمعي والبصري، ويبعدني عن أولئك الذين يحترفون الهراء والتّفاهة في زمن الرداءة والتّلوّث، ويبقيني في محيط الفكر والفنّ والإبداع المقدّس لتحلو فينا الحياة.
ما نصيحتك للشباب الذين يرغبون في دخول عالم الفن التشكيلي أو الخط؟
الاقبال على التعلّم في عالم الفنّ يتطلّب الكثير من الصبر والمداومة، خاصّة عند تعلّم الأساسيات يحتاج المتعلّم إلى القوّة واللين، ورهافة الحسّ وثبات اليد، وصفاء الذهن وثبات القلب، وكما يقول الإمام الغزالي: "من لم يزل لم يثبت". والشغف بالممارسة الفنّيّة هو دربة متواصلة وصراع مضني وإطّلاع واسع من أجل تطوير الذات.
ما الذي تحلم بتحقيقه على المستوى الفني في المستقبل القريب؟
أجمل شيء يحقّقه الفنّان هو النجاح في تجربته الإبداعيّة، والتي تكمن في مدى تأثيره وتواصله مع النّاس. ولكن يبقى حسب تقديري أجمل وأنبل حلم هو تقدير المجتمع لي وإعجابه وإكباره لأعمالي.
أخيرًا، لو كنتَ ستترك رسالة واحدة على جدار في زغوان، ماذا ستكتب؟
كفانا سباتا! لنعمل على نظافة زغوان ونجعل منها مدينة أنيقة ووجهة سياحيّة مفضّلة.
#فتحي_البوكاري (هاشتاغ)
Boukari_Fethi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟