أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - ميراث البحر















المزيد.....


ميراث البحر


فتحي البوكاري
كاتب

(Boukari Fethi)


الحوار المتمدن-العدد: 8413 - 2025 / 7 / 24 - 19:54
المحور: الادب والفن
    


للقبطان و. ر. بيثل
افتباس فتحي البوكاري

" لقد أعمى الضبابُ أعينَ ربابنة السفن في "لونغ آيلاند ساوند" ... أعمى أبصارهم عن كل شيءٍ سوى الشرف."
***
في منتصف جسر السفينة المعتمة، انحنى القبطان النحيل فوق حاجز السطح المُبلل، يصيخ السمع بقلق في عتمة لونغ آيلاند ساوند الكثيفة. خلفه، على ميمنة السفينة، كانت عوامة مونتاوك الجرسية تقرع جرسها قرعًا خافتًا كلما ابتعدوا عنها. وبعيدا، من جهة اليمين، كانت أجراس عواماتٍ أخرى تصدح بوقعٍ متقطع قادمةً من سواحل كونيتيكت.
"غرررررررر... نه!"
انطلقت صافرة عميقةٌ من الأمام. لا بدّ أنها سفينة فال ريفر.
"غرررررررر... نه!"
أطلقت صفيرا من جديد، من مقدّمة السفينة، مباشرة.
استدار القبطان فجأة وهمس بصوتٍ أجشّ إلى الرجل الذي يتولى القيادة: "إلى اليمين قليلًا، يا سيمز!"
"حاضر، سيدي!"
مالت سفينة تهريب الخمور ببطء، استجابة لهدير محرك التوجيه الكامن في أحشائها.
بدأ ضجيج فال ريفر يقترب، وما هي إلا لحظة حتى شقّت أضواؤها الخافتة الضباب من جهة الميمنة.
"غرررررررر... نه!"
دوّى بوقها وسط الضباب وهي تتابع طريقها شرقًا نحو المحيط الأطلسي بنصف سرعتها. ومن جانب سفينة التهريب، جاء صوت ارتطام الموجة التي رفعتها الباخرة الكبيرة، فاهتزّت لها السفينة وطفت قليلًا على الموج قبل أن تعود إلى هدوئها وهي تزحف. "هووووووووووه!"
لا بدّ أنها التوربين القادمة من بوسطن.
"ميمنة بشعرة، يا سيمز!"
"ميمنة، سيدي!"
"هووووووووووه!"
ظهر هيكل رمادي مبلّل، ، بصفوفٍ فسفورية من الأضواء الخافتة تتوهّج على طول أسطحها، انساب بجوار الحاجز من جهة الميسرة.
"ووااااااه!"
زمجرت قاطرة بحرية من الخلف، وسرعان تراءت للحظة على جانب الميسرة وغاصت في العتمة.
هنا وهناك، في كل أرجاء المضيق، كانت السفن تصدح بأبواقها، تطلق إنذاراتها وتردّ عليها، صاعدة وهابطة في الممرّ، أو عابرة بين سواحل كونيتيكت ولونغ آيلند.
أمال القبطان جسده أكثر على حاجز السفينة، وأرهف السمع محاولًا تحديد مواقع السفن الأقرب منه بدقة. كان الضباب الكثيف يتكثّف على معطفه المطلي بالزيت، ويقطر من وجهه. اعتدل واقفًا، وتحسس أنبوب الاتصال الصوتي، ثم قرّبه من فمه وزمجر بأمر مقتضب إلى الرجل القابع في غرفة المحرّكات: "أعطني نصف السرعة، شاف، حتى إشعار آخر!"
أعاد الأنبوب إلى خطافه، وما إن عاد يمدّ عنقه حتى بدأت السفينة تهتزّ اهتزازًا ناعمًا تحت وطأة التسارع الجديد.

أمسك رجل كان يقف صامتًا في الجناح الأيمن للجسر وتحسس طريقه حتى بلغ القبطان.
"ألا ترى أنّنا نُسرع كثيرًا، يا كابتن؟"
شدّ يده على كمّ معطفه المشمع وهو يسأل متوتّرا. فأدار القبطان رأسه ونظر من فوق كتفه إلى المتحدث الخفي وزمجر: "ما الخطب الآن يا جو؟!"
أطلق السائل ضحكة باهتة، لكن نبرتها كانت تنضح بالذعر والهستيريا.
"أنا لا أحبّ هذا الضباب كثيرا! زحمة سفن الليلة في هذا المضيق. ألا ترى أننا نُسرع، كابتن؟"
اعتدل القبطان واقفًا دفعة واحدة، كأنّما يطرد البرد والشكوك عن جسده. وقال له بنبرة الواثق:
"أقدامنا تبرد، أليس كذلك؟ حسنًا، هذا طقسنا المناسب يا جو. سنتسلّل إلى رأس أولدفيلد تحت غطاء الضباب، ونُسلّم الحمولة إلى رجالك عند الرصيف، ثم نقفز ونتوارى قبل أن يشعر بنا أحد. سيظلّ خفر السواحل يحكّون رؤوسهم متسائلين عمّا حدث هذه المرة. هذه رحلتنا الثامنة معا. أنا أربح ألفا جديدة، وأنت تُضيف مائة ألف أخرى إلى خزنتك. لم أرك خائفا من قبل. فما الذي يثير قلقك الآن؟"
أجابه جو، وهو يهزّ رأسه في قلق: "لا أشعر بارتياح، كابتن! لديّ حدس سيّء هذه المرة! اسمعني يا كابتن، ألا تظن أننا من الأفضل أن نرجع ونؤجّل الأمر إلى أن ينقشع الضباب؟"
وفي تلك اللحظة، دوّى بوقان عظيمان من الأمام، ثم ظهرت ناقلة نفط طويلة ونحيفة من غياهب العتمة ومرّت بمحاذاة السفينة.
قال القبطان بغضب، وهو يلوّح بيده: "تبًّا لك، جو، اصمت! ابتعد عني وعدْ إلى مكانك! كيف لي أوجّه السفينة ولسانك لا يكفّ عن النحيب؟ ابتعد! عد إلى حيث كنت، وتصرف كأنك فأر صامت!"
لكن جو أصرّ، وقد ارتعشت نبرة صوته: "اسمعني، كابتن! الأفضل أن نستدير ونعود أدراجنا! على متن السفينة شحنة بقيمة مئتي ألف دولار. إن خسرناها، أفقد كذلك الضمان الذي عليّ لهذه السفينة. أفهمت أن تدور وتعود أدراجك! على متن هذه السفينة حمولة بقيمة مئتي ألف دولار. إن ضاعت، ضاع معها ضماني على هذه السفينة، أفهمت؟"
قال القبطان وهو يدفعه بعيدًا عنه: "قلت لك عد إلى مكانك!"
تراجع جو بارينتو ببطء على طول الحاجز، يهمس لنفسه متذمّرًا يائسا وهو يحدّق في الضباب ويصغي بقلق. كان الضباب يزداد كثافةً باستمرار، وفجأة تراجع بخوف حين مرّت سفينة تجارية ضخمة تترنّح على مسافة قريبة منه لدرحة أنّه كاد يمدّ يده ويلمسها.
عاد جو مسرعًا إلى القبطان، وتشبّث بكمّه بعصبية، وهو يقول: "بحق الله، كابتن!"
زجره القبطان مجددًا: "تبًّا لك يا جو! لقد صرت أصقر كالصيني! لم أتسبّب لك بخسارة مليم واحد حتى الآن، وها أنت قد صرت مليونيرًا وأنا لم أجنِ سوى سبعة آلاف! فما الذي يخيفك من هذا الضباب؟!"
ثم تناول أنبوب الاتصال، وقال بصوته المتوتّر: "زدني عشرين دورة إضافية، شاف!"
فتمتم جو بالإيطالية وقد فاض به الغضب:
"Per Dio!" (بحق الله!)
ثمّ أضاف: "لقد جُننتَ بحقّ الجحيم!"
لكن القبطان أسكته بإشارة: "ششش! أنصت!"
ومدّ رأسه مجددًا، يتقصّى صوتًا بعيدا.
"واااااااه! وه! وه! وه!"
ضحك القبطان ضحكة خافتة، وقال: "هذه هي عبّارة بريدجبورت ـ بورتجيف! ها هي تقتحم الضباب وتنجح في عبوره! أحسنت، ولحسن حظّنا أنها ابتعدت عن طريقنا!"
ثمّ دوّى بوقان آخران من جهة الميسرة الأمامية، يتبادلان السؤال والجواب.
تمتم القبطان كأنه يحدّث نفسه: "هؤلاء الرجال الضخام قلقون... صاروا قريبين من بعضهم، ولا أحد منهم يعرف مكان الآخر بدقة!"
ثم سُمِعت أصوات أخرى: "هووووووووه! هوه! هوه! هوه! هوه!"
"غرررررررر... نه! غرر! غرر!"
ثم انطلقت نفخة طويلة، تبعتها بعد فاصل زمني قصير تزميرتان قصيرتان.
قال القبطان بحماسة مكتومة: "والله لقد أفلتوا منها بشعرة!"
ثم أمسك الأنبوب مجددًا وتكلّم: "خفّف السرعة إلى النصف، شاف!"
في تلك اللحظة، أحسّ بكفّ الإيطالي ترتجف على كمّه.
قال جو متوسّلًا: "ألا ترى، كابتن، أنه من الأفضل أن نعود أدراجنا؟ لديّ شعور بأنّ هذه الليلة لن تمرّ بسلام، ماذا ترى أنت؟"
لكن القبطان أمسك بتلك اليد المرتعشة، وبقبضته القاسية نزعها عن ذراعه بقوّة، قائلا: "أنت تنقل إليّ مخاوفك، جو! لِمَ لا تكون عاقلًا؟ ما الذي تخشاه بالضبط؟"
استرقت أذنه صوتًا غريبًا في الأمام، فزحف نصف جسده على حاجز السطح المبتلّ ليتبيّن مصدره. ثم هتف وهو يعود مسرعًا إلى الداخل، وقد شحبت نبرته: "ثمّة شيء لعين يتحرّك أمامنا، في مسارنا بلا أضواء أيضًا! لا يبعد عنا أكثر من مئة قامة!"
ثم أمسك بأنبوب الاتصال، وضع فوهته على شفتيه وأطلق أمرًا حازمًا: "شاف! خفّض السرعة إلى حوالي أربعين دورة، وكن على استعداد! قد نحتاج إلى السرعة القصوى في أية لحظة!"
ثم مال نحو الرجل عند الدفّة، وهمس بصوت متوتر: "ميمنة قليلًا، سيمز! ثم حافظ على المسار!"
"أمرك، سيدي!"
وما إن همّ القبطان بالانحناء مجددًا فوق الحاجز، حتى دوّى صوت احتكاك خشن صدر من الأمام جعل أنفاسه تتوقّف ويصغي بانتباه شديد. ثم في اللحظة ذاتها دوّت صفّارة إنذار عالية وصوت بوق ضخم، ثم تصاعد صوت اصطدام هائلٍ، فاحتكاك وصرير يُصمّ الآذان. ثمّ تعالت أصواتٌ صارخة مذعورة تعبر سطح الماء.
زمجر قبطان السفينة وهو يشير بسبابته: "اصطدام وجها لوجه! السفينة التي أمامنا اصطدمت بشيء ما! إما هو مِثلنا، سفينة تهريب أو واحدة من سفن المطاردة!"
كان الإيطالي ينتحب كطفلٍ خائف: "كابتن، لنعد أدراجنا، أرجوك، هل تسمعني؟"
فدفعه القبطان دفعةً قوية جعلته يتراجع إلى طرف الجسر. ومن الأمام بدأت أجراس السفن تقرع، وتبعتها زفرات عوادم المحركات حادّة تُنذر بالفوضى.
صرخ القبطان بغيظ وانفعال: "يا لسوء الحظ! السفينة الكبيرة صدمتها وها هي تفرّ الآن وتتركها تغرق!"
ثم برزت الأضواء الباهتة للباخرة القادمة من الضباب، واندفعت نحوهم، خدشت جانب السفينة ومرت بسرعة.
التقط القبطان مصباحًا يدويًا، وأضاءه، ثمّ وهو يندفع نحو الجناح، دفع الإيطالي جانبا بقوّة، رافعا المصباح إلى أعلى، ليتفحّص السفينة، فظهر له من وراء الحاجز وجوه شاحبة، مذعورة، تحدّق إليه بذهول.
صرخ القبطان فيهم: " أيها الجبناء! ما لكم تفرّون بعد أن صدمتم سفينة؟!"
لمح كلمة "مارو" على مؤخرة الباخرة وهي تندفع أمامه بسرعة هائلة مبتعدة، تهدر محركاتها في الظلمة.
قفز القبطان مجددًا نحو أنبوب الاتصال وصاح بأوامر قاطعة: "أطفئ المحرّكات، شاف، ودع السفينة تنجرف! هناك حادث اصطدام أمامنا، ولا نريد أن نصطدم نحن أيضًا، أو ندهس أحدًا في الماء. ابقَ على اتصال! قد أطلب منك تشغيل المحرّك في أي لحظة!"
كان صوته ينفجر داخل الأنبوب كطلقات مسدّس.
ثم اختطف البوق اليدوي، واستدار نحو سطح السفينة يصرخ بأمر آخر: "أشعل الأضواء، أيها الضابط!"
"أمرك، سيدي!"
انفتح باب صندوق المفاتيح المعدني بقوة عندما وصلت إليه قدما الضابط وهما تطرقان السطح بقوة، ثم امتدت يده بسرعة إلى الداخل، فاشتعلت فجأةً أضواء المصابيح على طول سطح السفينة المغلّفة بالضباب، وكذلك في بيت القيادة.
عاد القبطان يصيح في الأنبوب: "حسنا، شاف! حافظ على هذا الوضع! راقب المؤشر جيدًا!"
ثم دقّ الجرس بعنف وهو يدفع ذراع التوجيه إلى وضع التوقّف.
وعبر البوق القصير، صرخ في رجاله: "أعدّوا القوارب! أخرجوا الخطاطيف وأطواق النجاة! بسرعة أيها الرجال! ضعوا أولئك الضحايا فيها!"
كان صوته يجلجل من خلال البوق القصير، وقد تمدّد على الحاجز المبلّل وراح يصرخ عبر الضباب: "أهوي، هل من أحد هناك؟ أهوي!"
فتناهى إلى سمعه صوتٌ خافتٌ يشقّ الضباب: "أهوي! أهوي! من هنا!"
عاد القبطان قفزًا إلى الجسر، ومدّ يده بجنون إلى حبل صافرة السفينة السوداء يهزّه بعنف، فانطلقت نفخات صفير قصيرة متلاحقة، تردّد صداها في جنبات الليل.
كان الرجال يركضون على سطح السفينة ينفّذون أوامر الضابط الصارمة، التي كان يؤكّدها بلكماته ورَكلات حذائه الثقيل.
ومن الميمنة والميسرة، كانت روافع القوارب تصدر صريرًا وهي تُفتح إلى الخارج، والحبال تئزّ في البكرات، وقوارب النجاة تهوي بسرعة حتّى ارتطمت بالماء.
وسقط السلّم الخشبي محدثًا صوت ارتطام عند حافة الماء، واندفع الضابط عبره وهو يصرخ في البوق. وفي الأعلى، ظلّت صافرة السفينة تطلق عويلها بلا هوادة.
على الجسر، كان جو بارينتو، ملك تهريب الخمور، واقفًا مذهولًا، فاغر الفم، يحملق في القبطان النحيل الذي كانت ذراعه الطويلة لا تزال تجرّ حبل الصافرة.
قال وهو يصرخ: "كفّ عن هذا! أتسمعني؟ هل جُننت؟ ما الذي يهمك يا كابتن؟ أوقف هذا الآن!"
ثم اندفع نحوه وأمسك بذراعه بكلتا يديه، وجذبها إلى الأسفل بعنف.
لكن القبطان أصرّ، وهو ينظر بعيدًا إلى الظلمة: "لن أتحرّك من هنا، يا جو! هناك رجال يغرقون، وإن لم نساعدهم سيموتون!"
فصرخ الإيطالي كمن فَقَدَ صوابه: "تبقى؟ هذا هراء! هل فقدت عقلك؟ أدر السفينة وارجع! أتسمع؟"
تحسّس الإيطالي جيب معطفه، وأخرج منه مسدسًا قصير الفوّهة، ثمّ صرخ بصوت مرتجف أقرب إلى العويل منه إلى التهديد: "استدر بالسفينة حالا، كابتن، ولا تضيّع وقتنا، وإلّا أُرسلتك إلى الجحيم!"
لكن القبطان انقضّ عليه في لحظة، وقبضته اليمنى مشدودة، وذراعه مثنية إلى الوراء استعدادًا لتسديد لكمة قاضية. في تلك اللحظة، انطلقت شعلة ناريّة من فوهة المسدس اخترق لهبها كتف القبطان الأيسر، وسرعان ما شعر بألم حارق كطعنة من جمرٍ ملتهب.
صرخ القبطان بغضب، أسنانه تصطكّ: "ألقِ السلاح، أيها الوغد!"
وهوى بقبضته الثقيلة على المسدس، فانطلقت منه طلقة ثانية نحو الفراغ قبل أن يسقط على الأرض. وفي اللحظة التالية، اندفعت الذراع الفولاذية المعتقة بملح البحر إلى الأعلى لتسحق بقبضتها ذقن جو باريتو سحقا عنيفا رفعت جسده عن الأرض وألقته إلى الوراء كجذعٍ منخور. وفي الوقت الذي سقط فيه الإيطالي على ظهره مرتطما بالسطح دون حراك، التقط القبطان المسدس الساقط، ودسّه في جيب معطفه المطريّ الأصفر.
في الأثناء، كانت قوارب النجاة ترتطم بجانبي السفينة وتصدر صريرًا، كلّما عاد طاقم السفينة بمن تمّ إنقاذهم من الغرق.
حمل القبطان تحت ذراعه اليمنى جسد زعيم الخمور المهرّبة الفاقد الوعي، وصعد به بخطى واسعة الدرج المؤدي من الجسر إلى السطح، وقد بدأت بقعة دم تنزف من الجرح المحترق في كتفه الأيسر، تصبغ معطفه الأصفر بلونٍ قرمزي.
ألقى بحمله على سطح السفينة تحت أحد المصابيح الكهربائية، ثم توجّه نحو رأس السلّم الخشبي، وانحنى ليتفحّص الأجساد المبلّلة التي كانت تتسلّق من القوارب عبر منصّة الصعود، وتتقدّم نحو سطح السفينة.
كان في مقدّمتهم رجل يرتدي زيًّا أزرق، وما إن وطأت قدمه ظهر السفينة حتى شهق بدهشة، إذ برز أمامه جسد القبطان المهيب وهو يشهر في وجهه مسدسه الأوتوماتيكي القصير.
قال الرجل ذو الزي الأزرق، ضاحكًا وهو يرفع يديه عاليا فوق رأسه: "ها أنا أستسلم، كابتن!"
زمجر القبطان، ومعطفه الزيتّي يقطر دماً وماءً: "من أي سفينة أنت؟"
أجابه الرجل بهدوء، لم تخلُ من رهبة: "سفينة خفر السواحل كوادرَس. كنا رابضين في الظلام متربّصين بسفينة تهريب الخمور القادمة من سانت جون، فصدمتنا سفينة شحن يابانية وتابعت طريقها ولم تتوقّف."
توجّه المسدّس نحو وجه الرجل التالي الذي صعد إلى السطح مذهولًا.
"ارفع يديك! قلت لك ارفعها، تبًّا لك!"
اقترب القبطان النحيل من قائد خفر السواحل، وراح يتحسّس معطفه بظاهر يده اليسرى بحثًا عن سلاح مخبّأ. ولمّا لم يجد شيئًا، وجّه فوهة المسدّس إلى وجه البحّار المذهول الذي تجمّد في مكانه عند قمة السلم.
قال الرجل وهو يلهث: "لا أحمل أسلحة، كابتن!"
فأجابه الربّان بخشونة: "تقدَّم إذاً! فأنت تعيق الحركة!"
وصعد الباقون واحدًا تلو الآخر، واصطفّوا على طول سطح السفينة وهم يبتسمون ابتسامات خجولة، وأياديهم مرفوعة فوق رؤوسهم.
عندئذٍ التفت قائد خفر السواحل إلى القبطان وقال: "أعطيك كلمتي، يا سيدي، لا أنا ولا رجالي سنقوم بأي عمل عدائي. نحن ممتنّون لأنكم أنقذتمونا، مهما كنتَ ومهما كانت سفينتك."
ابتسم القبطان ابتسامة باهتة، وهو يُعيد المسدس إلى جيبه.
"خذوا راحتكم، يا الرجال. لا أريد أن تتصلب أذرعكم من البقاء مرفوعة. يؤسفني فعل هذا، لكن الشرف يفرض عليَّ حماية شحنتي. هذه سفينة تهريب الخمور التي تتربصون بها، وتحمل رُبع مليون دولار من ويسكي كندي من النوع الممتاز."
ضرب قائد خفر السواحل على فخذه المبتلّ، وضحك ضحكة مدوية: "يا لها من دعابة سمجة!"
وانفجرت ضحكة مدوّية من صف الرجال، مستمتعين بالمقلب الذي تعرّضوا له.
وفي هذه الأثناء، صعد عدد من أفراد طاقم سفينة التهريب عبر السلم، حاملين في أيديهم مسدساتهم وهي تلمع، ثم ما لبثوا أن أخفوها سريعًا عن الأنظار حين رأوا أجواء المرح، وشاركوهم الضحك. وفي الأسفل، على سلّم النزول، كان الضابط الأول يصرخ في الرجال الذين أرسلهم لتوجيه القوارب نحو روافع السفينة.
وبعد لحظات، صعد هو الآخر، متجهّم الوجه عابسا، لكنّه ما لبث أن ابتسم حين رأى روح الدعابة تسود الجميع. فأشار بيده نحو رجاله للتوجّه نحو الروافع. وفي غضون دقائق، ارتفعت القوارب وتأرجحت مجدّدا على سطح السفينة، ثمّ تمّ ربطها وتثبيتها بإحكام.
وفي هذه الأثناء، زحف جو بارينتو واقفًا على قدميه وتقدم مترنّحًا نحو الجمع المحتشد على السطح، يتحسّس بيده مكان اللكمة على فكّه. ألقى نظرة مذهولة على الوجوه الضاحكة. وفجأة، جحظت عيناه رعبًا حين وقعتا على بقعة دم نازف من كتف القبطان اليسرى، وقد لطّخت معطفه الواقي.
قال مدافعًا عن نفسه بصوت مرتجف: "ما كنت أقصد إطلاق النار عليك، كابتن، أقسم!"
فصاح به القبطان: "اخرس! هاك مسدسك! من الأفضل أن ترميه في البحر، وإلا ستقع في ورطة حقيقية!"
ورمى إليه المسدس، فأمسكه الإيطالي وألقاه من فوق الحاجز إلى الماء.
صرخ القبطان بالضابط: "هل كل شيء جيّد، أيها الملازم؟"
أجابه الضابط وهو يقترب من القبطان: "كل شيء على أحسن ما يكون، سيدي، كما لو كنّا في ميناء بريستول!"
قال القبطان: "أحضر ملابس جافة لهؤلاء البحارة، وابحث لهم عن أماكن للنوم. وأحضر ست زجاجات من الويسكي، وأعطهم منها رشفة. لقد تبلّلوا بالكامل، وقد يصابون بالزكام."
ثم توجه بلطف إلى قائد خفر السواحل: "إن شئت، يا سيدي، فسأريك مقصورتك بجانب مقصورتي، وأعطيك ثيابًا جافة، وجرعة من شراب حقيقي، إن رغبت. سنكون عند خطّ الإثني عشر ميلًا في غضون ساعة، ويمكنك أن ترسل نداء لاسلكيًا من أحد القوارب ليأتي قارب دورية ويأخذك مع رجالِك."
وبينما كانا يمران بصندوق المفاتيح، مدّ القبطان يده وأطفأ الأضواء. ثمّ أضاء مصباحه اليدوي للحظة وفتح باب المقصورة وأدخل ضيفه. ثم مضى إلى مقصورته الخاصة، وعاد منها حاملاً حفنة من الملابس سلّمها إليه، طالبا منه ارتداءها في الظلام. ثم ارتقى السلّم وصعد الجسر.
ونادى عبر أنبوب الاتصال: "نصف السرعة، شاف، وكن على استعداد للسرعة الكاملة!"
كان يتأرجح من جانب إلى آخر، وقد داهمه الدوار والضعف وألم لاذع في كتفه الأيسر. وسُمِع وقعُ خطوات قائد خفر السواحل وهو يصعد إلى الجسر يتلمّس طريقه في العتمة. قبل أنّ يلف ذراعه حول خصر القبطان المتراخي، ويقول له بلطف: "من الأفضل أن تنزل وترتاح قليلًا، كابتن. أنا على استعداد لتعويضك، فهذا المضيق أعرفه جيدًا مثلك. سأقود هذه الخردة وأوصلها إلى خط التهريب."
وساعد القبطان على النزول بخطوات متعثرة، وأوصله إلى مقصورته، ثم عاد مسرعًا إلى الجسر. وهناك، زحف على الحاجز المبلّل، وأخذ يحدّق في الضباب الكثيف ويتنصّت في العتمة الدامسة. وقد راحت السفينة السوداء تستدير ببطء تحت أوامره، وبدأت تشق طريقها صعودًا عبر المضيق باتجاه البحر المفتوح.



#فتحي_البوكاري (هاشتاغ)       Boukari_Fethi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الأول من رواية ماري جونستون -1492-
- بئر السّاراسين
- تحطُّم منارة وينستانلي
- منارة إدستون: تاريخ هندسي ومغامرة بشرية
- في حضرة السرد وسحر الحكاية: قراءة في الخصال الأدبيّة لمحسن ب ...
- كنز القراصنة، مذكرات طبيب سفينة هولندي، لجورج غارتنر ج2
- كنز القراصنة، مذكرات طبيب سفينة هولندي، لجورج غارتنر - ج1
- وما زال الصوت يصرخ عاليا
- التعبير عن المقاومة الثقافيّة والبيئيّة في شعر محمد العروسي ...
- الشعبويّة في السلطة: تهديد أم تصحيح للديمقراطية؟
- أدب الأطفال في العصر الرقمي: دراسة السرد التفاعلي في كتب الأ ...
- مناورة
- في موقد تحت التحميص
- الأدب في عصر العلم والتكنولوجيا
- علاقة المثقّف بالسّلطة السياسية: رواية الكاتب البوهيمي المتع ...
- غربة
- تأثير أفكار ابن خلدون في الحضارة العربية والغربية
- طوفان العصر(*)
- إنعكاس الخطاب السياسي في رواية -المغتصبون- لسمير ساسي (2)
- انعكاس الخطاب السياسي في رواية -المغتصبون-(1) لسمير ساسي(2)


المزيد.....




- السطوة الناعمة لهوليود.. كيف غيّرت أميركا شكل السينما العالم ...
- محللون إسرائيليون: نخسر معركة الرواية في كارثة الجوع بغزة
- -أشبه بأفلام التجسس-.. كيف وصلت طائرات بوينغ إلى إيران رغم ا ...
- صدر حديثا : صور من ذاكرة قروية للأديب والباحث مسعود غنايم
- -كل ما نريده هو السلام-.. مجتمع مسالم وسط صراع أمهرة في إثيو ...
- -ميغان 2- دمية القرن الجديد التي أعادت تعريف رعب الدمى في ال ...
- هل يحب أولادك أفلام الرعب؟ أعمال مخيفة مناسبة للأطفال
- -وحشتوني يا أهل الأردن-.. أحلام تشوق جمهورها لحفلها في مهرجا ...
- مايا ويند: هكذا تتواطأ الجامعات الإسرائيلية مع نظام الفصل ال ...
- منع فرقة -كنيكاب- الأيرلندية من المشاركة في مهرجان -سيجيت-.. ...


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - ميراث البحر