فتحي البوكاري
كاتب
(Boukari Fethi)
الحوار المتمدن-العدد: 8420 - 2025 / 7 / 31 - 16:11
المحور:
الادب والفن
قصّة للسيدة أ. ف. وولتون
إقتباس: فتحي البوكاري
عندما كنتُ صغيرًا، كنتُ أرى في شهر أوت أفضل شهور السنة. وكنت أحبُّ ديسمبر أيضًا، إذ يحمل إلينا عيد الميلاد، بشجرته المضيئة وما يحفُّ بها من أطايب النِّعَم. وكان شهر جويلية حسنًا كذلك، لأنه يُصادف فيه يوم ميلادي في السادس عشر، وكنتُ أحظى دومًا بمائدة تفيض بالهدايا. ولكن، مع كل ذلك، لم يكن ثمة شهر يُضاهي شهر أوت، ففيه كنّا نذهب دومًا إلى شاطئ البحر.
يا لها من أيام بهيجة قضيناها في ذلك الشهر المبارك من العطلة! هناك في البحر سحر يبعث في النفس بهجةً لا توصف. عندما تتدافع الأمواج وتتحطم بالصخور، وحين تُحلّق طيور البحر في السماء مُصدِرةً أصواتها الغريبة، وعندما يتلألأ الزَبَد الأبيض على الشاطئ تحت أشعة الشمس، أشعر، وقد شاب رأسي، كأنني عدت طفلا مجدّدا، أودّ أن أقفز طربا من السعادة.
وكنتُ في غاية الحماسة يوم تحدّثتُ لأول مرة مع الشيخ يونس. كنتُ وهيلدا نقفز على الصخور بحثًا عن السرطانات وشقائق النعمان البحرية، أما ديزي فكانت تخوض في بركة رملية ضحلة، تملأ دلوها الصغير بالماء. وكان النهار مشرقًا، نقيًّا، ولا سحابةٌ واحدة في السماء.
قالت هيلدا ونحن نجلس لنلتقط أنفاسنا: "أمي، ما ذاك الجرس الكبير المُعلّق بين عمودين قرب مبنى خفر السواحل؟ ديزي تُسميه جرس وليمة البحارة!"
ضحك أحدهم حينما نطقت هيلدا بتلك العبارة، فالتفتنا فرأينا يونس واقفًا بالقرب منّا. كان صيادًا طاعنًا في السن، اعتدنا رؤيته يتمشّى على الشاطئ، غير أننا لم نتحدث إليه من قبل.
قال باسما بصوته الأجشّ: " جرس الوليمة ، أيتها الآنسة الصغيرة؟ أعذريني إن تطرّقت لما قلتِه… جرس الوليمة ، هه؟ إنها مأدبة من طراز عجيب، ذاك الذي يدعونا إليه هذا الجرس! أتدرين ما يُقدَّم لنا حين يُقرَع؟ ليس لحمًا مشويًا ولا وكعكة برقوق، هذا أكيد!"
قالت ديزي بصوت يملؤه الأسى: "هل هي شوربة؟"
ذلك لأن ديزي كانت تكره الحساء، وتبدو كئيبة كلما قُدّم لها على المائدة بشكل لا تُخطئها العين.
عندها انفجر يونس ضاحكا، وقال: "وهل يصلح ماء البحر والأعشاب البحرية لصنع الشوربة؟"
ثم أضاف: "لكن، إن شئتم أن تسمعوا حكاية من حكايات البحّارة القدماء، فتعالوا غدًا صباحًا، إلى حيث أرقّع شباكي تحت ظل قوارب الصيد، وسأقصّ عليكم ما وقع في آخر مرة قرع فيها ذلك الجرس."
وفي صباح الغد، جلسنا إلى جواره كما اتفقنا، فقال: "هل سبق لكِ أن رأيتِ دجاجات الأم كاري، يا آنسة؟"
قالت هيلدا متعجبة: "لا، لا نعرف الكثير من الناس هنا. هل تسكن الأم كاري في أحد الأكواخ القريبة من الشاطئ؟"
أوه، كم ضحك يونس آنذاك!
ثمّ قال: "لا، لا أستطيع أن أخبرك أين تسكن، ولا من تكون، على وجه الدقّة."
فقلتُ له: "وهل رأيتَ دجاجاتها إذن، يا يونس؟"
فأجابني وهو يبتسم: "أجل، مرارًا، يا بُني. سأخبرك عمّا نعنيه نحن البحّارة بـ(دجاجات الأمّ كاري). إنّها طيورٌ بحرية لا تظهر إلا حين توشك العاصفة أن تحلّ، وتحلّق منخفضة فوق سطح الماء. نحن لا نحبّ رؤيتها أبدًا، فهي نذير شؤم تدلّنا على قدوم العواصف، ولم أرَ الأمّ كاري ترسل إلينا دجاجاتها بكثرة كما فعلت في تلك الأمسية التي سأحدّثكم عنها. كان صغيراي يلعبان على الشاطئ، وكنّا أنا وبولي في المنزل، فلما أبصرا أسراب الطير ركضا نحونا وهما يقولان إن الأمّ كاري لا بد أنها تنظّف قنّها، فقد سرّحت جميع دجاجاتها دفعة واحدة. فقلتُ لزوجتي: ستكون ليلةً عاصفة يا بولي. وخرجتُ إلى الرصيف لأتبادل الحديث مع بيتر، رجل خفر السواحل. ينبغي لك، يا سيد ستانلي، أن تزوره يومًا ما، فهو رجل طيّب.
كان بيتر مشغولا يُقلّب منظاره في الأفق ليرى هل من سفينةٍ تلوح في الماء. آه، ليتكِ رأيتِ، يا آنسة، كيف كانت الأمواج عند الغروب، لقد كانت هادرة تزأر كالسباع الضارية. وكدنا، أنا وبيتر، أن نُقتلع من الأرض من شدّة الرياح. وفجأة، ونحن واقفان هناك، سمعنا دويًّا هائلا، وإذا بطرف الرصيف البعيد ينهار، وكانت الأمواج تقذف بالكتل الصخرية الضخمة كما لو كانت كراتٍ من تبن، يا سيد ستانلي!"
ثم واصل، وصوته يخبو شيئًا فشيئًا: "ومع حلول الظلام، ازدادت العاصفة شراسة، وأصبحت الأمواج تعبر فوق الميناء وتصطدم بجدار بيتنا!"
ثم التفت إلى هيلدا، وسألها: "هل تعرفين بيتنا يا آنسة هيلدا؟ قفي وانظري، ها هو هناك، فوق الميناء مباشرة. انظري كم هو مرتفع عن البحر الآن، لكن في تلك الليلة، اجتاحت الأمواج الطريق الفاصل بين منزلنا والمرفأ، وضرب الرذاذ نوافذ غرفة النوم! ركضتُ إلى البيت لأطمئن على بولي، فناداني بيتر من خلفي: أبقِ أذنيك مفتوحتين يا يونس، الليلة لن تمرّ بسلام، لا شك في ذلك .
كانت بولي المسكينة تسحب الماء من المطبخ، وكان الأطفال يقفون عند أعلى الدرج يراقبونها، وقد ارتسمت على وجوههم علامات الخوف. قالت لي بولي وصوتها يرتجف: آه يا يونس، ما أفظع هذه الليلة! ، وقالت جدتي: أرجو ألّا يضطروك إلى الخروج بالقارب، يا بني! ، والجدة يا سيّد ستانلي، قد مضى على وفاتها سنوات طوال.
وما إن فرغت من كلامها، حتى سمعنا وقع حوافر الخيل تهبط التلّة وتصعد في الطريق المحاذي لبيتنا.
قالت بولي: على ما يبدو، هناك شخص في عجلة من أمره!
فقلت وأنا أُسكّت الأطفال وقد شرعوا في الثرثرة معًا: أنصتوا! صمتًا!
ولوهلة، لم نسمع سوى عواء الرياح وهدير الموج. ثم علا على كل ذلك رنين جرس بيتر!
شحب وجه بولي، وأجهشت جدتي بالبكاء، فقد كنّا نعلم جيدًا ما يعنيه ذاك الجرس… سفينة مسكينة في مأزق، وعلينا أن نُطلق قارب النجاة.
قالت جدتي، وهي ترتجف: آه يا بني، ما أظنّ أنّ قاربكم سيصمد أمام مثل هذا الهول!
فقلت، محاولاً أن أثبت القلوب: ثقي بالله، يا جدّتي، وشدّي أزرك، عزيزتي بولي، لعلّ الله يكتب لنا أن نُنقذ بعض الأرواح!
لم أضيّع لحظة، أسرعت أتهيأ، ولم أتوقف إلا لأطبع قبلات على وجنات بولي والجدة والأطفال. وقلتُ في سرّي: لعلها آخر قبلة أطبعها على وجوههم.
قالت لي صغيرتي، وهي تمد يدها إليّ: أبي، هذه هدية لك.
ودفعت في يدي قطعة من صحيفة قديمة، مربوطة بخيط من صوف أزرق. لم يكن لديّ وقت لأنظر داخلها، فاكتفيت بتقبيلها ودسست الهديّة داخل قميصي، ثم أسرعت بكل ما أوتيت من قوة إلى كوخ بيتر.
كان رجالنا يتقاطرون من كل صوب، ، وكان تسعة قد حضروا حين وصلتُ، وما لبث أن لحقت بهم البقيّة. كانت سترات الفلّين وأحزمة النجاة معلّقة في أماكنها الصحيحة في بيت القارب، فارتديناها بسرعة فائقة. ثم أخرجنا القارب وجهزنا كل شيء. وبينما كانوا يُعدّون الخيول لجرّ القارب إلى الشاطئ، وجدت لحظة فراغ أخرجت فيها طرد صغيرتي جيسي، ونظرت إلى ما فيه، كانت بطاقة صغيرة من بطاقات مدارس الأحد، أجمل عندها، باركها الله! قرأتُ ما كُتب عليها تحت ضوء المصباح في بيت القارب، أردت أن ألقي نظرة عليها، إذ لم أكن أعلم إن كنت سألتقي بطفلتي مرة أخرى.
لم تكن في البطاقة سوى ثلاث كلمات فقط، علقت في ذهني طوال الليل، يا سيّد ستانلي. كان دعاءً وجيزا، لكنه عظيم: يا رب، نجّني!
أعدتُ البطاقة إلى صدري، ومضيت مع القارب. كان رفاقنا قد استقدموا أربعة جياد قوية لجرّه إلى البحر، وركضنا إلى جانبه، مستعدين لأن ندفعه في الماء ونقفز فيه بأسرع يمكن.
كانت السفينة قد ارتطمت بالصخور على بُعد نحو خمسة أميال، أخبرنا بذلك الفلّاح الذي امتطى جواده لطلب النجدة، قال إن خفر السواحل هناك أطلقوا الصواريخ، وكانوا منشغلين بها حين انطلق نحونا. وأضاف أن السفينة ضخمة، وعلى متنها عدد كبير من الرجال.
وحين بلغنا المياه، قفزنا جميعًا إلى القارب، ثم بدأت المعركة الكبرى لدفعه بعيدًا. فكلما سحبناه من الشاطئ، جاءت موجة هائلة وارتطمت به وأعادته ثانية.
لم يكن في طاقتنا، يا سيّد ستانلي، ما يمكّننا من إخراجه، ولو كنا نعتمد على سواعدنا فقط، لاضطررنا إلى الاستسلام. لكن بيتر كان قد أرسل في طلب زورق بمحرّك كان راسيا على مسافة غير بعيدة من الساحل. وما إن وصل، وربط حبال القطر بالقارب وبدأ بجرّه، حتى بدأنا نحرز تقدمًا.
وكما تعلمين، يا آنسة هيلدا، فإن قارب النجاة خاصتنا ليس كغيره من القوارب، فهو خفيف للغاية، وملآن بالهواء، لكي يطفو فوق سطح البحر كالفلّين.
كانت المياه تتدفق إليه، ولكنها لا تغرقه، لقد ظلّ طافيًا، نشقّ به الأمواج شقّا، ثم جاءت موجة أعظم من سابقتها، باغتتنا وانقضّت على القارب، وغمرته بالكامل، لكنّه سرعان ما طفا مجددًا كمن انتفض، وتحرر من الماء!
ومرّة أخرى، يا سيّد ستانلي، باغتتنا موجة عاتية، رفعت القارب فجأة، ثم قلبته رأسًا على عقب، فغصنا جميعًا في البحر، وظننت أن نهايتنا قد حانت، لكن القارب، في غضون دقيقة، استعاد توازنه، وبما أنّ ستراتنا مصنوعة من الفلّين، فقد طَفَوْنا على السطح واحدًا بعد الآخر، وتسلقنا القارب مجددًا، حتى كنا جميعًا فيه، على استعداد للانطلاق مجدّدا.
ومضينا بعيدا فوق أمواجٍ كالجبال. لن أنسى تلك الليلة ما حييت. وطوال الطريق، يا آنسة هيلدا، كان دعاء صغيرتي جيسي يرنّ في أذني بلا انقطاع: يا رب، نجّني!
حتى الرياح والأمواج، يا سيّد ستانلي، بدت وكأنها كانت تردّد معي ذلك الدعاء في هياج متواصل. وإن كنت دعوت ربّي يومًا، فقد دعوتُه تلك الليلة، في قلب قارب النجاة، لأن الموت كان قريبًا جدًا، ولم أكن واثقًا أن روحي مستعدة للرحيل. لكني شعرت أن الله آت لينقذني، تمامًا كما كنت أنا ذاهبًا لإنقاذ أولئك المساكين على ظهر السفينة، فصرختُ من أعماق قلبي: يا رب، نجّني!
وسمعني، يا آنسة هيلدا، نعم، سمعني.
كنّا قد بدأنا نلتف حول رأس الخليج، وكل واحدٍ منا يحدّق في الظلمة، يبحث عن حطام السفينة. وكان الضباب كثيفًا حدَّ أن الرؤية بدت مستحيلة، لكننا سمعنا صوت الصواريخ يتردد في البعيد، ولمحنا بين الحين والآخر ومض ضوء يتخلّل العتمة.
قال ستانلي: "هل رأيتَ الصواريخ، يا سيّد ستانلي؟"
فأجابت هيلدا: "نعم، نحن نُطلق الصواريخ دومًا في الخامس من نوفمبر، أطلقنا اثنتين وعشرين السنة الماضية."
ضحك يونس، وقال: "آه، لكن صواريخنا هذه، يا آنستي الصغيرة، ليست للفرجة والاحتفال. إن لها في عملنا نفعًا عظيمًا. نربط بها خيطًا رقيقًا، ونطلقها لتتخطى السفينة التي في خطر. بيتر سيُريكِ الصناديق التي نضع فيها تلك الحبال. في كل صندوق صفّان من الأوتاد، والحبل ملتف حولها بطريقة تجعلها تنفك بسهولة حالما تُسحب الأوتاد. ثم نُطلق الصاروخ، فيندفع الحبل من الصندوق دون أن يتعقّد أو يتشابك. وما إن يتمكن أحد على ظهر السفينة الغارقة من الإمساك به، حتى يشرع في جذبه، فنربط في نهايته حبلًا متينًا غليظًا، وبذلك ننقذ كثيرا من الأرواح البائسة."
وأضاف يونس: "كما ذكرتُ، كانوا يطلقون الصواريخ حين اقتربنا، فاتجهنا نحو المكان الذي رأينا فيه الوميض. وفجأةً، انبثق نور ساطع، يا سيّد ستانلي، ورأينا كل شيء. لقد كان مشعلًا رفعه أحد البحارة على متن السفينة الغارقة ليُرينا موضعهم.
وقد اقتربنا منهم كثيرًا في تلك اللحظة، فلما رأينا موضعهم تحت ضوء المشعل، اقشعرت جلودنا. كانت السفينة قد غرقت مؤخرَتها بين الصخور، ومقدّمتها لا تزال تطلّ من الماء، أما سطحها فكاد يُغمر كليًّا، وصواريها قد تحطّمت، وأشرعتها تمزّقت، والمساكين الذين كانوا على متنها تعلّقوا بالحبال."
قال يونس، وصوته يقطر حنوًّا: "تبيّنّاهم شيئًا فشيئًا، آنسة هيلدا، وكان منظرًا يفتت القلب. كانت هناك نساء وأطفال صغار، فتذكّرت بولي، وهاري، وجيس، وماجي الصغيرة التي كنا ندعوها ماغباي، أي الشُرْشُور، لطبعها المرح وصوتها العالي، وأقسمت في قلبي أنني سأفعل كل ما أستطيع لأخلّص أولئك النساء والأطفال. فتمتمت دعائي مجددًا: يا رب، نجّني!
وشددت على حبالي، ومضيت.
#فتحي_البوكاري (هاشتاغ)
Boukari_Fethi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟