فتحي البوكاري
كاتب
(Boukari Fethi)
الحوار المتمدن-العدد: 8455 - 2025 / 9 / 4 - 04:48
المحور:
الادب والفن
نقلها إلى العربيّة: فتحي البوكاري
******
بسم الله الرحمن الرحيم
ها أنا ذا أبدأ الحكاية، فأنصتوا إليّ وأنصفوا قولي.
جاء في كتاب «حكايات الدراويش الأربعة » أنّه كان في بلاد الروم ملكٌ عظيم، اجتمع في شخصه عدلُ نوشروان وجودُ حاتم الطائي، اسمه "آزاد بخت"، ودار ملكه القسطنطينية (التي تُسمّى اليوم إسطنبول). في أيّامه ترفّهت الرعيّة، وامتلأت الخزائن، ورَغِدَ العسكر، وأُمن الفقراء والمساكين، حتى صار العيد صباحًا والمسرّة مساءً في كل بيت، وانقطع اللصوص وقطاع الطريق حتى لم يُبقِ لهم أثر في جميع أنحاء بلاده. كانت أبواب البيوت البيوت لا تُغلق بالليل، ودكاكينُ الأسواق تُترك مفتوحة، والمسافر يطرح الذهب في الفلاة لا يخشى سارقًا ولا قاطع طريق، فلا تمتدّ إليه يدٌ، ولا يسأله أحدٌ إلى أين يمضي ولا من أين أتى.
وكانت تحت سلطانه مدنٌ كثيرة، ويؤدّي إليه عدّةُ سلاطين الجزية، ومع ذلك لم تغفل نفسه عن ذكر الله طرفة عين. قد أوتي من نعم الدنيا ما شاء الله، غير أنّه حُرم الولدَ الذي هو ثمرةُ الحياة وزينةُ الملك، فكان مهمومًا يدعو متضرعًا في أعقاب الصلوات الخمس: «يا ربّ لقد أوليتني فضلك في كل شيء، غير أنّ هذا البيت المظلم لم تُنوّره بولد ذكر يحفظ اسمي ويُبقي أثر سلطنتي.»
وطال به الرجاء حتى بلغ الأربعين. وفي يومٍ من الأيّام إذ كان يصلّي في قصر المرايا ويتلو أوراده، وقع بصره في المرآة على شعرةٍ بيضاء قد برزت في شاربِه تلمع كخيط فضي، فرقّ قلبه ودمعت عيناه وتنهد وقال في نفسه: «وا أسفاه! لقد أضعتُ عمري في لهو الدنيا وجمع الملك حتى غشّاني الشيب وأنذرني الموت، فما نفعني اليوم ما أخذتُ من البلدان؟ سيؤول هذا الملك والمال إلى غيري، وإن عشت قليلًا فالقوة إلى ذهاب والجسمٍ إلى ضعيف!»
ثم قال متفكرًا: "فمن هذه الحال بان لي أنّ القضاء لم يكتب في لوحي أن يولد لي وارث يخلفني على تاج الملك والمال، وما أنا إلا فانٍ لا محالة، والموت آتٍ لا ريب فيه، والترك أهون من أن أُترك، فلأدع ما بيدي قبل أن يدعني، ولأقضِ بقيّة عمري في ذكر وعبادة خالقي ومولاي."
وبهذا عقد العزم، ومضى إلى روضة القصر، وأمر بردّ جميع الجواري والخدم، وقال: "من اليوم لا يقربني أحد، وليقصدوا الديوان العام لقضاء حوائجهم وليلزموا شؤونهم". ثم انقطع إلى ركن قصيّ، وفرش سجادة الصلاة وشرع في العبادة، لا شأن له إلا الدموع والزفرات. فمضت أيّام والملك آزاد بخت في صوم واعتكاف، لا يفطر إلا على تمرة وثلاث جرعات ماء، ولا يبرح مصلّاه ليلا ونهارا.
فشاع الخبر حتى عمّ الأقطار أنّ الملك قد ترك الملك واعتزل الناس، فانتهز الأعداء والمفسدون الفرصة، فرفعوا رؤوسهم، وتجاوزوا حدودهم، واستولى من شاء على ما شاء. وتعطّلت أحكام الولاة، واختلّ نظام البلاد. وكثر الفساد، وتواترت الشكايات من كل صوب. فاجتمع الأمراء والأعيان وتشاوروا في أمر الملك والدولة، وأجمعوا أن يقصدوا الوزير الأكبر "خِرَدمند" (أي الحكيم)، وكان أعقلهم رأياً وأصدقهم نصحاً، ليبصر الرأي فيما ينفع.
فجاءوا جميعًا إلى الأمير الوزير وقالوا: "إذا كانت هذه هي شخصية الملك وذاك واقع البلاد، وإذا تُرك الأمر هكذا، فإن البلاد التي اكتسبت بهذا العمل الدؤوب ستظل هباءً منثورًا، وسيكون من الصعب استعادتها". فقال الوزير الحكيم: "وإن كان الملك قد نهى عن لقائه، فهلمّوا بنا نمضي إليه، فإن استدعانا كلمناه". فلما بلغوا الديوان العام تركهم الوزير هناك، ودخل إلى الديوان الخاص، وبعث إلى الملك مع الحاجب برسالة يقول فيها: "هذا العبد القديم يشتهي رؤية طلعَتِك الميمونة بعد طول الفراق، لعلّه يقرّ عينه بمرآك ويطيب نفسه."
فأذن الملك له بالدخول بعد إمهال، إذ كان يعرف وفاءه ونصحه، وكان يأخذ برأيه كثيراً. فلما دخل الوزير، ورأى الملك قد نحُل جسمه واصفرّ وجهه وغارت عيناه من شدّة البكاء والاعتزال، لم يملك نفسه حتى خرّ عند قدميه. فرفعه الملك بيده وقال: "ألا قد رأيتني، فاطمئن قلبك، فامض لشأنك، ولا تُثْقِل عليّ أكثر من ذلك، فقد اعتزلت الملك وألقَيتُ زمامه إليك، فشأنك به".
فبكى الوزير بكاء شديداً وقال: "مولاي، جعلت فداك، إن رعيتك في فزع ودهشة من انقطاعك المفاجئ، وإن هذا الرأي لا يُحمد عاقبته. فاشرح صدرك لعبدك هذا المخلص، لعلّه يلتمس لك ما فيه صلاح. إنما أنعمت على عبدك بهذا المنصب ليكون عونًا لك في تدبير الملك، لا لتعتزل أنت وأتحمّل المشقّة وحدي. فإذا نزلت الكآبة بنفس السلطان، فلأي يوم تدَّخرني؟"
فقال الملك: "أما والله لقد صدقت، ولكن ما بي من همّ لا علاج له بالتدبير، إنما هو قضاء محتوم. لقد قضيتُ عمري كلّه في طلب الملك وجمع المال، حتى شاب الرأس وابيضّت اللحى، وهذه الدنيا لم تزدني إلا همّاً، ولم تُرزقني ولداً تقرّ به عيني ويخلف اسمي وملكي. فما حاجتي إلى ملكٍ يزول ومالٍ يضمحل؟ لقد عزمت أن أطرح ذلك عني، وألجأ إلى البراري والجبال، متخفياً عن العيون، أعبد الله ما بقي لي من الأجل، فقد جرّبتُ الدنيا ولم أجد فيها لذّة".
فقال الوزير: "حاشا لمولاي أن ييأس من رحمة الله، ومن خلق السماوات والأرض وهي أضعاف أضعاف ما نرى، أفيعجز أن يرزقك ولداً؟ لا تحمل نفسك على اليأس، ولا تهمل شؤون المملكة، فإنها أمانة من الله، وأنت مسؤول عنها يوم القيامة. واعلم أنّ عبادة الله ليست مقصورة على صوامع الرهبان ولا على مغارات الجبال، بل العبودية الحقة أن تجمع بين ذكر الله وعدل الرعية، فتحكم بالحق نهاراً، وتعبد الله ليلاً، وتقرّب بالصدقات على الأرامل واليتامى والمساكين، واستعن بدعاء أولياء الله والصالحين، فمن بركة ذلك يفتح الله لك ما ترجوه."
فسرّ الملك بهذا القول وقال: "أحسنت أيها الوزير الأمين، فلنجرّب ما أشرت به، فإن قضى الله غير ذلك فحكمه النافذ."
ثم سأل الملك لمّا سكن فؤادُه عن حال الأمراء وأعيان الدولة، فأجابه الوزير أنّهم في اضطراب وقلق، يتشوّقون لرؤيته. فوعد الملك أن يجلس غداً مجلس الحكم، فابتهج الوزير ودعا له بطول البقاء، وبشّر الناس فانشرحت صدورهم.
وعندما أشرقت الشمس، وارتفعت قليلاً، جلس الملك على عرشه في الديوان العام، وأقبل الأمراء والكبراء يقدّمون فروض الطاعة والتهاني، وأُجريت الأرزاق والجوائز، فسكنت النفوس. ثم دخل الملك قصره، وجعل له عادة ثابتة: أن يحكم في الرعية صباحاً، ويتفرّغ عصراً لقراءة الكتب والأذكار والدعاء.
وحدث أن قرأ يوماً في كتاب حكمة: "من نزل به همّ لا تدبير له، فليسلّم أمره إلى الله، وليتّعظ بقبور من مضوا، فإن الدنيا زائلة، والملك والمال لا يغنيان عن الموت شيئاً". فوافق هذا كلام نصيحة الوزير خردمند، وحرّك قلب الملك إلى العمل بما فيه عبرة. وقال في نفسه: "أزورُ القبور ليلاً في زيّ خفيّ، لا كملكٍ في موكب وضجيج، بل كعابد متبتّل، فلعلّ الله يفتح لي باب الإجابة بدعاء الأولياء."
وفي ليلة من الليالي لبس ثياباً خشنة، وأخذ معه شيئاً من الذهب والفضة، وخرج خفية من القلعة، يمشي حتى بلغ مقبرة عظيمة والريح تعصف والظلام دامس، وإذا بشعلة نور من بعيد تلمع كالنجم الزاهر. فقال في نفسه: "هذه ليست ناراً عادية، لعلّها سرّ من أسرار الله، فلأقترب منها، عسى أن يكون فيها فتح من ربي يشرق به قلبي ويبلغ أملي."
فلما دنا رأى أربعة دراويش جلوساً في سكون عجيب، عليهم أكفان بالية، ورؤوسهم على ركبهم، كأنهم تماثيل في حزن ووحشة، وأمامهم مصباح صغير لا تطفئه الريح كأن السماء ظلّتُه. فوقع في قلبه أن هؤلاء أولياء من أولياء الله، وأن دعاءهم مستجاب، فحدث نفسه أن يقترب ويكلّمهم.
لكن عقله حذّره: "تمهّل أيها الملك، فلعلك لا تعرف القوم ولا تدري من أين جاءوا، ولا تأمن أن يكونوا من مردة الجن أو غيلان البراري في صورة بشر. فاختبئ أولاً وأرقب حديثهم لترى شأنهم."
فجلس في زاوية خفية يرقبهم، وإذا بأحدهم يعطس، فحمد الله، فانتبه رفقاؤه، وأوقدوا السراج حتى أضاء المكان، وراحوا يتحدّثون ويتناوبون على أنابيب التدخين. ثم قال أحدهم: "يا رفاق الطريق! لقد طوّحت بنا الليالي والأيام حتى التقينا بهذا المقام، ولا ندري ما يخبئ لنا الغد، فلنقصّ على بعضنا سيرتنا لنُسري عن أنفسنا طول الليل". فأجابوه جميعاً: "نِعمَ الرأي! ابدأ أنت بسرد ما رأيت، لنستفيد."
#فتحي_البوكاري (هاشتاغ)
Boukari_Fethi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟