أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - من روائع الأدب المجري: السيّدة كاراشني، لإرنيو سيب















المزيد.....

من روائع الأدب المجري: السيّدة كاراشني، لإرنيو سيب


فتحي البوكاري
كاتب

(Boukari Fethi)


الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 18:49
المحور: الادب والفن
    


نقلها إلى العربيّة: فتحي البوكاري
***************
القسم الأول
***************
تجلس السيّدة كاراشني على الرِّواق الأبيض، في مقعدها الكبير الأسود ذي الأذرع المربّعة، كأنّها صنمٌ أسود من حجر.
تحمل الأعمدة القصيرة المطليّة بالجير سقف الرِّواق، وتتشابك تحته بأقواسٍ ناصعة البياض دقيقة التناسق، كأنّها أفكار السلام وقد تجسّدت في هيئةٍ ساكنة.
ويعلو الرِّواق سقفٌ من ألواح التنوب الملبَّد الباهتة السواد، فيلقي ظلًّا على البيت الأبيض المشرق، كما يلقي المنديلُ عتمته على جبين السيّدة كاراشني.
ثمانون عامًا من العمر مرّت على هذه المرأة العجوز. ومنذ خمسةٍ وعشرين عامًا وهي تقبع في ذلك الكرسي الكبير من الصباح إلى المساء كلّما طاب الجوّ.
وحين يبرد الخريف في أواخر أكتوبر، تنتقل إلى داخل البيت الواسع وتجلس قرب النافذة حتى يحلّ شهر ماي، حين يعود الدفء إلى الهواء في الخارج.
ومن يراها جالسةً هناك بهدوء في ظهيرة الصيف، قد يظنّها جمادًا لا حياة فيها: وجهها الكبير الغائم لا يتحرّك، وكتفاها لا تهتزّان، ولا يُرى منها إلا يدٌ واحدة تنهض بين الفينة والأخرى من حجرها، ممسكةً بعصاً من خشب الكرز، ثم تهبط ثانية ببطءٍ إلى موضعها.
وتلك العصا التي تمسك السيّدة كاراشني بمقبضها باهتة اللون كيدها التي خلا منها الدم والدفء، حتّى لتخال أن العصا واليد قد تقاسمتا الشيخوخة والنحول.
وهكذا يهرم عصا الكرز أيضًا على مرّ الأيام!
إذ كان يومًا غصنا، ذا لمعانٍ بنفسجيٍّ، ناعم القشرة أملس كالإبريسم، يُرضي الكفَّ لمسه، كأنّه جلدٌ حيٌّ يلتصق براحة اليد التصاق الصديق بالصديق، ثمّ ما يلبث أن يحمرّ ويبهت لونه، ويجفّ ملمسه، ويصير كأنّه خشبٌ منسحب من الحياة. تُصيبُه الخدوش ويُقشَر ويتهرّأ مع الأيّام، وتُنتزع منه بقايا نعومته القديمة، حتّى لا يبقى له لونٌ سوى السواد، وتزول منه تلك الرائحة الطيّبة التي كان المرء يشمّها بشغف. يُصبح عصًا عتيقةً، لم تَعُد تذكر أنّها كان يومًا تنتمي إلى شجرةٍ مثمرة، تعبث بها الرياح والأنواء، وتراقصت فوقها الأوراق هامسةً، وتقافزت عليها الطيور، وتدلّت منها حباتُ الكرز الناضجة وهي تبتسم لدفء الشمس.
ولكن، ما الذي تفعله تلك العصا الآن بين ركبتي السيّدة كاراشني المنتفختين؟
ولماذا تحتاج إليها وهي الجالسةً طوال اليوم في مقعدها ذاك لا تضرب أحدًا، ولا تمشي، بل لا تقوم من مقعدها حتى ليلًا؟
إنّها تنام في كرسيّها جالسة كحالها في النهار.
ويقول الناس إنّها لا تضطجع في فراشها لأنّها تخشى الموت. غير أنّ الأمر ليس كما يقولون، بل كما *كانوا* يقولون، فقد مضى زمنٌ طويل منذ قيل ذلك، والذين سمعت منهم هذا القول، لم يبقَ من أصواتهم في أذني إلا صدى باهت لا أكاد أميّز صاحبه، إلا صوت أمي، فقد عرفتُه.
سمعتُ من أمي أنّ العجوز كاراشني لا تريد أن تنام في سريرها، لأنّها تظنّ أنّ الموت ينتظرها فيه، وقد سبقها فاستلقى في السرير الأسود ذي الأعمدة العالية. وسمعتُ من إسْباس أيضًا أنّ السيدة قرّرت أن تموت في مقعدها، وأن لا تدع أحدًا يضعها في الفراش بعد الآن، إذ تؤمن أنّها إن اضطجعت فيه، فلن تقوم بعد ذلك أبدًا.
وسمعت أيضًا من إيسباس، خادمها الوحيد، أنّها تُصرّ على أن تموت في كرسيّها، ولا تسمح لأحد أن يضعها في الفراش، فهي تظنّ أنّها إنْ اضطجعت فيه مرةً أخرى فلن تقوم منه أبدًا.
كان إيسباس خادم السيّدة كاراشني الوحيد، الرجل الصامت الكئيب الذي يُرى وحده في باحة دارها الواسعة طوال النهار.
ولا أدري كيف لم أتعجّب إلا بعد عشرٍ أو عشرين سنة من اسمه الغريب هذا: "إيسباس"! أيّ اسمٍ هذا لرجلٍ من أهل سوبوسلو؟
كانت هيئته لا تختلف عن غيره من الفلاحين الذين يحملون أسماء مثل كيس أو كوفاتش أو تشيكي أو إردوش أو بارتا أو شوفاغو، أسماء مجرية صافية مألوفة على اللسان، تُقال كما لو كان المرء يعرف معناها.
أمّا "إيسباس"، فإنّه اسم يتعثّر في فمي كأنّه حجر غريب.
من أين جاء؟ أهو أرمنيّ؟ أم غجريّ؟ أم تتري ألقته الصدف بين المجريين؟
أم أنّه من أسماء الياس أو الكومانيين الذين الذين انسلّ بعضهم إلى هذه البلاد؟
ثمّ ما معنى "كاراشني" أصلًا؟ أهو اسم حِرفةٍ قديمة؟ أم كان يصف هيئةً أو خصلةً من خصالٍ في شخصٍ قديمٍ من أسلافها؟
ها أنا ذا الآن أستعيد صورتها في ذهني، وأكاد أراها ماثلة أمامي وقد جلستْ في مقعدها الأسود المنحوت كما لو أعيدت من أعماق الذاكرة إلى مكانها الأول، وأشعر بتلك الرائحة الباردة المعتّقة التي تفوح من ثيابها ومن يديها، ثم أتأمّل وجهها الداكن المهيب، كأنه حبّة بطاطا مشوية عظيمة تحت منديلها الأسود. غير أنّ هذا الوجه الكالح هو وجهُ امرأةٍ عجوز، شفتاها البنفسجيتان منكمشتان إلى الداخل، كما لو تراجعتا عن كلّ ما يفعله البشر من كلامٍ وقُبلٍ وهمسات وتنهّداتٍ وابتسامات. أمّا أنفها المنتفخ في وسط وجهها كشيءٍ صلبٍ بلا معنى، فهو لا يتحرّك، ولا يصرخ ولا يشير إلى شيء، بل يكتفي بالصمت المهيب.
أنظر في عينيها، عيني السيّدة كاراشني، فلا أعرف لهما لونًا أصفه. ينبغي أن تكونا سوداويْن، لكنّ سوادهما انطفأ وصار ظلمةً باهتةً، تميل إلى الزرقة، كعينٍ قد غشاها الماء. وفي أعماق كلّ عينٍ منهما ذلك البريق البعيد، ضوء البئر الذي لا يُضيء، ومع ذلك يخيفك بصفائه: إنّه بريق الحياة. لا أجرؤ على التحديق فيه طويلًا. ويعلو العينين جفنان ضعيفان مجعّدان يتحرّكان بسرعةٍ كطرفي مفرشٍ تهبّ عليه نسمة. كم مرّة يلتقيان ويفترقان في اليوم؟ وفي العمر كلّه؟
أتأمل حاجبيها، فأراهما كدودتين متجمدتين متقوّستين، بل كقشٍّ مبعثر بعد عاصفة، أسود وأبيض كالرّماد، يذكّرانني بأعشاب الخريف اليابسة التي تميل وحيدةً في الحقول. لو لمست أحدهما لوخزني كالشوك. يتشابك الحاجبان فوق أنفها بتجهمٍ صامت، يخفيان في طيّاتهما خطّين غائرين نازلين من منتصف جبينها، كعلامتي قسوةٍ مطمورةٍ في اللحم.
وفوقهما، في مركز الجبين، يبرز ثؤلولٍ بنفسجيٌّ متورّم، يلمع ككرةٍ صغيرةٍ توشك أن تنفجر. يذكّرني كالعُقدة التي تنبت أحيانًا على سطح البطاطا، أو نقط سوداء على تفّاحةٍ أو ثمرةٍ من ثمر الأرض، فتسأل نفسك: لِمَ تكون هذه الأشياء؟ أيّ تدبيرٍ غامضٍ أو عبثٍ عظيمٍ في خلق النقاط والعُقد والبقع على جلد الإنسان وثمره وترابه؟ لِمَ يكون شيءٌ ما في مكانٍ ما؟ لعلّ في ذلك الورم البنفسجيّ يكمن سُمّ العجوز نفسها، سمّ طبعها الحادّ. فقد كانت، كما يقال، امرأةً قاسيةً شرسة غليظة الطبع ،
هكذا قال عنها الناس قاطبةً: «امرأةٌ سيّئة شريرة، لا تُعطي الجائع لقمةَ خبزٍ ولو مات جوعًا أمام عينيها!». وليس أنّ القرية كانت تصيح جميعها في وقتٍ واحد، بل هو ما يبقى في الذاكرة من إجماع الناس حين يتذكّرون.
وكان في حجرها طوال النهار كتابٌ أسود، مزاميرها القديمة، ترفعه أحيانًا إلى وجهها وتقرأ منه. وحين تفعل وتغوص فيه بنظراتها، لا يُرى وجهها أصلًا، إذ تغدو عندئذٍ كتلةً واحدةً من السواد في المقعد الأسود: المنديل الأسود على رأسها، وتحتَه غلاف الكتاب الأسود، وتحته شالٌ أسود يلتفّ حول عنقها ويتقاطع طرفاه فوق صدرها. وحدها يدها التي تمسك الكتاب كانت تلوح وسط ذلك السواد، ولكنّها لم تكن بيضاء، بل شبيهة بورقة كستناء ذابلة ازرقت من برد الخريف، كالأوراق التي تراها متناثرةً في الحقول عند انقضاء الفصل.
وحين يجنّ المساء في الصيف، وتستقرّ أجملُ الغيوم في السماء، ويتصاعد الغبار على الأرض ملتفًّا كأنه ضباب، يفتح إيسباس البوابة الكبرى، فتدخل منها إلى فناء الدار سبع بقراتٍ واحدةً تلو الأخرى.
تتقدّمهنّ «هاينال»؛ على عنقها ومؤخّرتها بقعٌ بُنّيّة كعجولٍ صغيرة، وقرناها ينحنيان إلى الأمام مثل شاربَي "ميهالي فيكته" الكثّين، صاحب الوجه اللامع والهيئة الأنيقة، أمين صندوق بنك الشعب، الذي كان يذهب إلى عمله كلّ صباحٍ في تمام السابعة مرتديًا بدلته السوداء وحذائه اللامع، تنبعث من خلفه عبير دهن الشاربين الطريّ فوق رصف الطريق الحجري.
بعدها تأتي «يولتشا» رافعةً عنقها، مطلقةً خوارها الطويل: "مووووه". كانت بقرةٌ مجرية بيضاء كالبيوت المطلية حديثًا بالجير، وقرناها يخرجان من جبهتها بهدوءٍ ، يرتفعان في انحناءةٍ متساويةٍ فوق رأسها، كغصنين مرفوعين من شجرة الدهشة.
تليها «جومبوش»، بقرةٌ مجريةٌ أخرى صافية السلالة، ذات قرنين أصفرين يمتدان أفقيًّا على جانبي الرأس كأنّ "كينيزّي" العظيم ضغط عليهما براحة يده فسطّحهما إلى الأبد. ولهذا بدت "غومبوش" أقصر من "يولتشا"، رغم أنهما متساويتان في الحجم.
أمّا التي تليها فهي «بِمبو»، بقرة صغيرةٌ من فصيلة "ريشكا"، مكسورةُ القرن، ولو تحدّثت لقصّت كيف كُسِر قرنها ذاك ومتى، لأنّ ما بقي منه كان منحنياً ضعيفًا، لا يمكنه أن يطعن سوى جبين صاحبته إن اشتدّ عليها الحزن يومًا. كان جبينها أسودَ كجبين الثور، وليس في سواده مهابةٌ ولا شموخ، بل كآبةٌ وحياء. كأنّها وُلدت لتكون أقلَّ شأنًا من الأخريات. وكانت عيناها الواسعتان اللامعتان تشبهان قطرتين من الحبر الكبير، تبوحان للعالم برضاها هكذا بقرنٍ واحدٍ، وجبينٍ مغبَّرٍ، وحركةٍ بطيئةٍ وحمل ثقيل لضرع يتدلّى بين ساقَيّها.
ثم تدخل «لامبَاش»، بيضاء ضخمة كالبقرات الثلاث الأوائل، حتى ليصعب التمييز بينها وبين "هاينال" أو "يولتشا" لو تبادلت الأسماء. كانت تسير ببطءٍ ووقار بضرعها الممتلئ، كأنّها تعرف أن الجمال في الثقل والسكينة. سُمّيت "لامباش" فقط لتكون لها هوية، كما يُمنَح الناس المتشابهون أسماءً ليتفرّقوا بها في السجلات.
بعدها «سارتشا»، بقرة سوداء تامّة السواد كطائر الغوّاص الذي تحمل اسمه، لا ضياء فيها إلا قرناها اللذان يبدآن بلونٍ فاتحٍ ثمّ يتدرّجان إلى الظلمة مثل غروبٍ بطيءٍ، وضرعها ورديٌّ اللون كالحياة البريئة الدافئة. لم تكن تختلف عن الأخريات، ولكن سوادها كان يثير في النفس مهابةً وغموضًا. لا أدري لِمَاذا، لكنني أشعر أنّ في سوادها مسحةَ حزنٍ كونيٍّ، كأنّها تذكّرني بزوال الكائنات الحيّة كلّها، فيجتاحني صمتٌ كصمت الغروب، حين يغيب كلُّ شيءٍ في تأمّلٍ عميق.
أما البقرة السابعة، «شفايتسر»، فكانت محبوبَةَ أهل القرية جميعا. كانت تمشي دائمًا في المؤخرة، خلف الست الأخريات، في الغبار الكثيف الذي يعلو الطريق كالدخان، متثاقلةً كمن يجرّ قدميه في الماء، أو كأنها تحمل في داخلها أحلامًا لذيذةً وكسلى.
كانت بقرةً سويسرية، قرناها يشبهان كعكتين صغيرتين، وجنبها أبيض مزيَّنٌ ببقعٌ صفراء تشبه خرائط أفريقيا، وبطنها المنتفخ يوحي بأنها تحمل في جوفها عِجلًا، وضرعُها المتدلّي المدهش بدا كأنه سيسقط على الأرض من ثقله. ضرعٌ جميلٌ حقًّا، متينٌ مشدود بين رجليها الخلفيّتين، يتمايل في كل خطوةٍ يمينًا ويسارًا، وحين تمشي يضغط الفخذ على الضرع فينطلق منه رشّةُ لبنٍ بيضاء قصيرة، كالبرق الخاطف في غبار الطريق.
كانت «شفايتسر» تتألّم بلا شك، إذ كانت تتوقف أحيانًا، ترفع رأسها نحو السماء، وتفتح فمها كأنها تهمّ بالخوار احتجاجًا على هذه النعمة الثقيلة، ثم تغلق فمها وتمضي صامتةً، مثقلةً ومطيعةً كما لو أن القدر هو من يقودها.
وقف الرعاة بعصيّهم يتأمّلونها بإعجاب، أحدهم أشار إليها بعصاه وقال لرفيقه: «أنظر، يا صهري! أليست هذه بقرة السيّدة كاراشني؟ يا له من ضرعٍ ما أعظمه! سبحان من خلقها!»
وحين دخلت شفايتسر البوابةَ أخيرًا، أغلق إيسباس البابَ وراءها بإحكام. ومرّ بائعُ الخِرَق اليهوديّ بثوبه الممزّق، ينادي بصوتٍ رتيبٍ أمام بوابة السيدة كاراشني، مردِّدًا نداءه بنغمة كأنها تراتيل صلاة يهودية: «عظامٌ… خِرَقٌ… جلودُ أرانب… حديدٌ عتيق… ما عندكم للبيع، أيتها النسوة؟»
دخلت الأبقار الحظيرة، كلٌّ إلى مَكانها أمام المعلف، ووقفت مصطفّة ورؤوسها نحو الجدار الخشبي العتيق، ومؤخراتها إلى فناء الدار، تهزّ ذيولها المتلبِّدة في رتابةٍ بطيئة كأنها بندول ساعة، بينما تمتدّ أفواهها إلى المعالف تلتقط أوراق العلف الخضراء، تلوك الأعشاب وتكسر سيقانها بعناية وتلذّذ، وكان لتلك القرمشة صوت يبعث السرور، لأن أوراق العلف الطويلة الملساء طازجة تحت الأسنان ورطبة، تفوح منها رائحةُ حياةٍ، كرائحة الأرض بعد المطر.
أنزل إيسباس السيدة كاراشني بعربتها الصغيرة من على الشرفة إلى فناء الحظيرة. وكان كرسيّها مركبةً خشبية قد ثبّتت في قوائمه الأربع عجلات خشبيةٌ صغيرة. وكان عدد درجات الشرفة ثلاثًا، وضع إيسباس عليها لوحًا خشبيًّا ودفع الكرسي عليه برفق، بل جرَّه أكثر مما دفعه، محاذرا أن تفلت منه العجلات فتنحدر العربةُ هاربةً والسيدةُ معها.
وهكذا أنزلها إلى الحظيرة، وجعلها تجلس قبالة ضرع البقرة بِمبو، كي تشرف بعينيها على جميع الأبقار السبع في مرابضها. وجلس الخدم القادمون لأخذ الحليب على المصطبة الطينية في نهاية الحظيرة، مصطفّين بأوانيهم في انتظار نصيبهم وكأنهم في مجلسٍ يستمعون إلى حكايةٍ مسائية من عجوزٍ حكيمة، خادمة آل توكاياي، وخادمة الطبيب شفارتس، وخادم المعلّم كيش، وخادمة آل "نييري توث"، وخادمة المُحضر القضائي، وأخيرًا خادم آل كيركش الصغير الذي جلس على الطرف يناكف الخادمة التي بجواره بمرفقه في محاولاتٍ صغيرةٍ لإزاحتها عن المصطبة. وهي تكتم ضحكها وتدفعه بخفة، بينما الآخرون يدفعونها بدورهم. وكانت الدكة تضجُّ بحربٍ صامتة من الأكواع والركب والضحكات المكتومة، حتى كادت تقع الضحية عن الدكة ثم تعود فتتسلقها بشراسة. وفي وسط هذا الصمت المضحك، لم يُسمع إلا صوت الأبقار وهي تمضغ، وصوت خشخشةً العلف في المعالف، وصوت إيسباس وهو يعصر ضرع إحداها بقوةٍ فيصدر رذاذ اللبن المنسكب في الدلو المعدنيّ رنينا رقيقا متواترًا: «سِتْش… سِتْش… سِتْش…"» صوتٌ كصفيرٍ احتكاك الحريرٍ لا يمكن التعبير عنه بالحروف.
وكانت السيدة كاراشني ترفع عصاها بين حينٍ وآخر، تقول: «يا إيسباس، نظّف ذيل بمبو من هذه القذارة!» أو: «أنظر إلى شعر هاينال، كله أشواك! لعن الله من تركها هكذا في المرعى!»
وكان إيسباس يرفع رأسه احترامًا لها، ثم يعود إلى عمله صامتًا، يشفط أنفه، ويحرّك شاربه الطويل دون أن ينطق.
وحين انتهى من الحلب، امتلأ دلوان كبيران بالحليب الأبيض الدافئ، يتصاعد منهما البخار، وتغلي على سطحهما فقاعات. وبعينيها، قاست السيدة العجوز الحصص، وهي تهزّ رأسها وتطرق بعصاها على الأرض وتقول: «آه، يا له من حليب طيّب! أين تجدون مثل هذا الحليب في كل الإقليم؟ أخبروا أسيادكم أن لتره سيكون بسبعة كرايتسر من عيد الميلاد فصاعدًا!"
نهض الخدم واحدا تلو الآخر بأوانيهم، وراح إيسباس يغرف لهم بالمعيار تحت نظر السيدة. أعطى هذه خمسة لترات، وتلك ستة، وأخرى تسعة لأن في بيتهم أطفالًا كثر، أما خادم آل كيركش فاثني عشر لتراً، لأن أسياده تجارٌ يحتاجون الحليب لصناعة الزبدة.
ثم انصرف الخدم شاكرين، ومع خروجهم تعالت الصيحات في الشارع وضحكات الصغار، كان خادم آل كيركش يودّعهم بالعراكٍ كما كل مساء.
رفعت السيدة رأسها وقالت، كأنها تدعو: «لينزل غضب الله على هذه الأرواح الخبيثة!»
ثم عمّ السكونُ في الشارع والدار. وعاد إيسباس يدفع كرسيها إلى الشرفة، عبر اللوح الخشبي، أعادها إلى مكانها، ورجع إلى الحظيرة.
كانت الأبقار قد اضطجعت جميعها، تتنفّس بهدوءٍ، تُمضغ الفكرَ في صمتٍ، كأنها تتأمّل جدوى الوجود.
جلست السيدة العجوز تتعشّى على الشرفة خبزاً وشمندرًا محلى بالسكر الناعم. وفوقها، في السماء، تعتّمت الزرقة، وولد نجمٌ فضيٌّ طاهر، ثم أطلّ القمر كقطعة مرآةٍ مقطوعةٍ من الماس، وانعكست ظلال الأشياء لكلّ شيء في الفناء: للمدخنة، وللسلم الخشبيّ، وللمكنسة، وللشجرة العجوز الواقفة عند طرف البيت. لقد تراقص الأُسود والأبيض في سكون المساء.
كانت السيدة تجلس بظهرها نحو الشارع، كأنها تولّي الحياة وجهها الآخر، أمامها شجرة التوت العتيقة منحنيةَ الجذع كأنّ الشيخوخة قد صفعتها على ظهرها. أوراقها ساكنة، والتوت الأسود بين أغصانها أظلم من الليل. سقطت ثمرة، تبعتها أخرى مذعورة، تدحرجتا قليلاً ثم سكنتا في التراب. كان السكون عميقًا حتى ليُسمع سقوط التوتتين على الأرض.
لم يُسمع بعد ذلك إلا خشخشة القشّ في الحظيرة إذا تحرّكت بقرة، أو صوت إيسباس يرفع سلسلةً أو يهمس لإحداهنّ بكلمةٍ دافئة: «هوو… نيّي…»
وخرج بعدها من الحظيرة، يخطو فوق أرضٍ ممسوحةٍ بنصف دوائر من أثر مكنسته، نصف دائرةٍ تتلو أخرى، كأن الأرض مشطت بعناية.
سعلت كاراشني مرتين في الظلمة، «كه، كه» سعالٌ فيه شكوى الوحدة، أو ربما همسٌ للظلال التي أحاطت بها. عندئذٍ صعد إيسباس إلى الشرفة، اقترب منها بخطاه الطويلة، أحاط الكرسي بيديه ودفعه برفقٍ إلى داخل الردهة السوداء، إلى العتمة العميقة.
****يتبع****



#فتحي_البوكاري (هاشتاغ)       Boukari_Fethi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسائل من الميّت الحيّ
- باغ وبهار:حكايات الدراويش الأربعة لأمير خُسرو الدِّهلَوي -ج2
- باغ وبهار:حكايات الدراويش الأربعة لأمير خُسرو الدِّهلَوي -ج1 ...
- ليلة عاصفة، الفصل الأول من رواية -فتاة البحّار- لإيما ليزلي
- الإبحار الأخير للقارب -الدولفين-
- أطلقوا قارب النجاة! (ج1)
- حوار مع الفنان التشكيلي عمّار بوكيل: حين يتكلم الجدار بلغة ا ...
- ميراث البحر
- الفصل الأول من رواية ماري جونستون -1492-
- بئر السّاراسين
- تحطُّم منارة وينستانلي
- منارة إدستون: تاريخ هندسي ومغامرة بشرية
- في حضرة السرد وسحر الحكاية: قراءة في الخصال الأدبيّة لمحسن ب ...
- كنز القراصنة، مذكرات طبيب سفينة هولندي، لجورج غارتنر ج2
- كنز القراصنة، مذكرات طبيب سفينة هولندي، لجورج غارتنر - ج1
- وما زال الصوت يصرخ عاليا
- التعبير عن المقاومة الثقافيّة والبيئيّة في شعر محمد العروسي ...
- الشعبويّة في السلطة: تهديد أم تصحيح للديمقراطية؟
- أدب الأطفال في العصر الرقمي: دراسة السرد التفاعلي في كتب الأ ...
- مناورة


المزيد.....




- أسماء أطفال غزة الشهداء تقرأ في سراييفو
- الكاتب المجري لاسلو كراسناهوركاي يفوز بجائزة نوبل للأدب
- تامر حسني يعيد رموز المسرح بالذكاء الاصطناعي
- رئيس منظمة الاعلام الاسلامي: الحرب اليوم هي معركة الروايات و ...
- الدكتور حسن وجيه: قراءة العقول بين الأساطير والمخاطر الحقيقي ...
- مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني ...
- مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني ...
- صدور كتاب تكريمي لمحمد بن عيسى -رجل الدولة وأيقونة الثقافة- ...
- انطلاق مهرجان زاكورا السينمائي في المغرب
- كل ما تحتاج معرفته عن جوائز نوبل للعام 2025


المزيد.....

- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - من روائع الأدب المجري: السيّدة كاراشني، لإرنيو سيب